اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
لقد أصبحت طائفة عريضة من جماهير أمتنا وشريحة ليست بالقليلة من شرائح مجتمعاتنا تعيش هذه السلبية، شخصيات ليس لها مبدأ ولا رأي، أتباع لكل ناعق، لا يفكرون إلا بمصالحهم وشهواتهم، لا يجهرون بالحق، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، سبيلهم الفوضى، يقلدون غيرهم بالباطل، تنحدر أخلاقهم، ويستخف بهم غيرهم، ويعطلون عقولهم، رضوا بأن يكونوا إمعات...
الخطبة الأولى:
أستأذنُكم اليوم لأنقلكم لمتابعة مشاهد حية، ومواقف عجيبة من مشاهد يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6].
إنها لحظات حاسمة، وزفرات نادمة، لأناس دمروا قدراتهم, وألغوا عقولهم, وعطلوا حواسهم, وأهانوا نعم الله التي بين أيديهم, وأسلموا نفوسهم رخيصة لغيرهم. فها هم اليوم موقوفون عند ربهم بذلة وضعف يتمنون أن يعودوا للدنيا؛ ليعلنوا البراءة من قياداتهم التي ضللتهم فساروا خلفها مهرولين (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:167].
لقد حكى القرآن لنا ووضح هذه المشاهد الحية والحوارات المتبادلة، حوارات المتبوعين لأتباعهم والراكنين لظالميهم، حوارات الإمعات التي باعت حواسها, وألغت عقولها مكتفية بعقول غيرها تقودها بغير وعي ولا روية.
إنه مشهد من مشاهد تخاصم أهل النار، ذلكم التخاصم الذي يوجه إنذاراً شديد القوة والرهبة ليس للأفراد وحدهم فحسب، ولكن للشعوب الضعيفة والجماهير المستذلة والجماعات الخائفة، من مواجهة الطغيان والجبروت الذي عليه النخب والزعامات، تحذير سماوي لهؤلاء الذين يظنون أن السير في ركاب الظالمين، والركون إليهم والسكوت على مفاسدهم ومظالمهم، يحقق الأمن والأمان والسلامة والمعافاة، لأن هؤلاء الظلمة والطواغيت لن ينفعوهم لا في دنيا ولا في آخرة، وتنازعهم وتخاصمهم في عرصات يوم القيامة سيكون مشهدا من أروع مشاهد اليوم الآخر.
انظر -يارعاك الله- إلى تخاصم الأتباع مع قادة الفكر الضال، الأتباع الذين سلموا عقولهم ورؤوسهم وتفكيرهم، إلى أصحاب الأهواء والأفكار الضالة ومروجي الانحرافات، الأتباع الذين تنازلوا عن أخص ما ميز الله به الإنسان؛ وهو التفكير والعقل، وتركوا غيرهم يعبث به ويفسد فيه ويملئه ضلالاً وانحرافاً وضياعاً وباطلاً، حتى صاروا مثل الببغاء يردد ما يقوله هؤلاء القادة المضللون, بلا وعي ولا تدبر ولا فهم، يتلقون علومهم ومعارفهم من هؤلاء الضالين المضللين، يعتمدون فقط على ما تبثه وسائل إعلامهم، فلا يسمعون إلا صوتهم، ولا يعملون إلا برأيهم، هؤلاء الأتباع الذين باعوا رؤوسهم، وتنازلوا عن تكرمة الله لهم بالعقل، يحذرهم الله -عز وجل- في عدة مواضع من كتابه العزيز، فيتحدث عن اللقاء والمواجهة مع بعضهم البعض (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)[الصافات27 ـــ34].
ثم يكشف لنا القرآن مشهدا آخر من مشاهدهم؛ يصور وقوفهم بذلة وخشوع عند ربهم يتبادلون الاتهامات ويلوم بعضهم بعضا، مشهد للأتباع عديمي العقل مسلوبي الإرادة (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).[سبأ:31 ـــ 33].
ثم يلتفت نظرك إلى مشهد حي آخر من تخاصم السادة الأقوياء والعبيد الضعفاء، السادة من الملوك والزعماء والأمراء وشيوخ العشائر والحكام والسلاطين، وغيرهم ممن ولي من أمر الناس شيئاً، وهو يتسلط على العباد بالظلم والفساد وكبت الحريات وتكميم الأفواه ونهب الخيرات والاستئثار بالمنافع والثروات، ورغم كل هذه الجرائم يكون من شعوبهم ورعيتهم من يواليهم ويشد أزرهم, ويرضى بأفعالهم الشريرة الآثمة، ولكن أي شعوب تلك التي ترضى بالهوان والاستسلام للطغيان، إنها الشعوب التي ذكرها الله -عز وجل- لحظة بروزهم قاطبة لله تعالى لا تخفى منهم خافية (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم:21].
نعم هذه مواقف الضعفاء، الضعفاء الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله؛ حين تنازلوا عن حريتهم في التفكير والاعتقاد والاتجاه, وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة.
لقد وصفهم القرآن بأنهم ضُعفاء؛ لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي ضعف نخوتهم وفي ضعف اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان، فإن المستضعفين كثرة والطواغيت قلة, فمن ذا الذي يُخضع الكثرة للقلة، إنما يخضعها ضعف الروح وسقوط الهمة وقلة النخوة والتنازل الداخلي عن الكرامة، إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير, فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت, إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء.
وتتوالى المشاهد بين الضعفاء والأقوياء، والسادة والعبيد، والأتباع والمتبوعين، والزعماء والرعية المطيعة، والجميع يتخاصمون ويتلاومون ويتعاتبون، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض، ويبلغ أعلى درجات التبكيت والحسرة على الشعوب الجبانة المؤثرة للموت على الحياة, عندما يقوم فيهم إبليس خطيباً وواعظاً ومعلناً براءته منهم ومن أفعالهم وطاعتهم له واغترارهم بأمانيه ووعوده الكاذبة, محملا لهم كامل المسئولية ملقيا باللوم عليهم (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22].
إنها مشاهد تكشف لنا الحقيقة وتصور لنا وضعا نشاهده اليوم ونعايشه, تكشف لنا غياب المبادئ عند هؤلاء وضعف الهوية, وأنهم أرادوا لأنفسهم أن يعيشوا أذنابا وأن يحيوا أتباعا.
هذه هي أحوالهم يوم القيامة إنها مشاهد الانتكاسة وبراءة الظلمة من اتباعهم ومساعديهم، الظلمة الذين قالوا لأتباعهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[العنكبوت:13,12].
ومن أظلم ممن ألغى عقله وسمعه وبصره, وذهب يردد أقوال الظلمة ويتبنى مواقفهم, ويكثر سوادهم ويهتف خلفهم عبداً مملوكاً أينما توجه لا يأت بخير. ولعل رسالات السماء إلى هؤلاء وهي تحذرهم من سوء المصير أقوى دافع لهم أن يتحركوا ويتغيروا قبل أن يكون المشهد الحتمي يوم القيامة، مشهد لا حليلة في دفعه (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص:64].
عبــاد الله: لقد أصبحت طائفة عريضة من جماهير أمتنا وشريحة ليست بالقليلة من شرائح مجتمعاتنا تعيش هذه السلبية، شخصيات ليس لها مبدأ ولا رأي، أتباع لكل ناعق، لا يفكرون إلا بمصالحهم وشهواتهم، لا يجهرون بالحق، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، سبيلهم الفوضى، يقلدون غيرهم بالباطل، تنحدر أخلاقهم، ويستخف بهم غيرهم، ويعطلون عقولهم، رضوا بأن يكونوا إمعات.
ينبغي أن نوطن أنفسنا ونربيها على أن نحسن إذا أحسن الناس، ونجتنب الإساءة إذا أساء الناس، حتى لا ينتشر الشر، وتطمس الحقائق.
إن هؤلاء الإمعات لا يستعملون عقولهم في إدراك المصالح والمفاسد والبحث عن الخطأ من الصواب، ولا يعنيهم مصلحة الوطن ولا وحدة الصف.
والمسلم صاحب مبدأ يدور مع الحق حيث دار، يعيش مع الحق ولو كان وحده، يصلح ما أفسده الآخرون من حوله، لا يغريه الباطل ولا كثرة المال ولا تنوع الشبهات والشهوات؛ لأنه متصل بالله، مقتد برسوله -صلى الله عليه وسلم-.