الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
ويتذكر الحاج الفطن بأعمال الحج ومناسكه الموت و الآخرة، ألا تراه يلبس ما يشبه الأكفان حين يحرم، متجرداً عن زينة الدنيا، متخففاً من كل لباس عدا إزار ورداء يلف بهما جسده، ويستر بهما عورته، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملك والمملوك، والصغير والكبير... وإذا كان هذا التجرد من الدنيا وزينتها بوابة الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرة وجمعها، حين يجتمع الناس على صعيد عرفات ..
الحمد لله جعل إلى بيته الحرام ركناً من أركان الإسلام، لا يتم إسلام العبد إلا بأدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل التطواف في مشاعر الحج ومناسكه هدياً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خالف قومه المشركين في عوائدهم في مناسك الحج، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [الحجرات:13]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:102-103].
أيها المسلمون: للحج مقاصد جليلة، ومعان عظيمة، وآثار إيجابية كبيرة على الفرد في ذات نفسه، وعلى الأمة المسلمة بمجموعها، وحري بالمسلم أن يعلم شيئاً منها إن حج العام أو أعواماً تليها، حتى تؤتي العبادة غرضها، وتتحقق للحاج منافع الحج التي أخبر عنها المولى بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج:28].
وإليك - أخير المسلم، أختي المسلمة- شيئاً من مقاصد الحج ومعانيه، ومنها:
مزيد الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن إبراهيم عليه السلام حيث بني البيت، وابنه إسماعيل عليه السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث عظم البيت، وأعاد له طهره وتوحيده، وحطم الأصنام المحيطة به، ولم يعد للمشركين سلطان عليه، وحين ينزل الحاج في تلك الرحاب الطاهرة يرتبط في ذهنه سر الأنبياء ويتجذر في قلبه الاقتداء بهم، والله يقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) [الأنعام: 90].
وفي الحج تحقيق للعبودية لله وإذعان لشرعه، فلا ترى الحاج إلا متذللاً خاضعاً لله، منكسراً بين يديه، متجرداً من ملابسه، مسافراً عن أهله وبلده، تاركاً شهواته وملاذه لله رب العالمين، وتراه في الحج يتنقل من عبادة إلى أخرى، تلبية وذكر وصلاة، ودعاء، طواف... وسعي، رمي وحلق وهدي... وهكذا تتحقق العبودية للحاج بأوفى صورها وأتم معانيها، وحري بهذه العبودية لله أن تستمر في سلوكيات المسلم بعد الحج، وحري بهذه الطاعة لله والاستسلام لشرعه أن تدوم في مكة أو سواها من بلاد الله.
ويتذكر الحاج الفطن بأعمال الحج ومناسكه الموت و الآخرة، ألا تراه يلبس ما يشبه الأكفان حين يحرم، متجرداً عن زينة الدنيا، متخففاً من كل لباس عدا إزار ورداء يلف بهما جسده، ويستر بهما عورته، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملك والمملوك، والصغير والكبير... وإذا كان هذا التجرد من الدنيا وزينتها بوابة الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرة وجمعها، حين يجتمع الناس على صعيد عرفات، وحين يبلغ الزحام مبلغه في الطواف والسعي، ورمي الجمار، وقد تكون واحدة من هذه المشاعر بداية نقله إلى الآخرة، فكم من حاج في القديم والحديث قضى نحبه في مشاعر الحج ولم يعد إلى أهله.
ومن مقاصد الحج ومعانيه: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم خمس مرات في اليوم، ومع ارتباط الحج بالصلاة، إذ الكعبة قبلتهم في الصلاة والحج، فالارتباط بالكعبة هنا سر بديع يحقق للمسلمين أصالتهم ويذكرهم بتاريخهم العظيم، وينبغي أن يصرفهم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد، وأن يشعرهم هذا التوحد في الاتجاه في أركان الإسلام بالتوحد في الكلمة، والهدف، والقيم الخالدة، وذلك كله مصدر قوة وعزة للمسلمين لو عقلوه وعملوا به.
وفي الحج إرهاب لأهل الكفر والضلال بهذا الاجتماع العظيم للمسلمين، فإنه وإن كانوا مفترقين مختلفين، فإن اجتماعهم في الحج وتوحدهم في المشاعر مؤشر إلى إمكانية اجتماعهم وتوحدهم في غير الحج، واجتماع المسلمين وتوحدهم -لا شك- مقلق للكفار مرهب للأعداء لاسيما وموسم الحج تبرز فيه المفاصلة التامة مع أهل الشرك والكفر يحظر حضورهم لهذه المناسبة بأي شكل من الأشكال منذ نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28].
ومن أسرار الحج ومقاصده: تربية النفوس على جمل من معاني الخير ومكارم الأخلاق، إذ تتدرب نفس الحاج على الصبر و التحمل، والصفح والعفو، والنفقة والبذل والإحسان، وتعليم الجاهل، والدعوة للخير، وهذه المعاني والمكتسبات الخلقية -ونحوها- يمارسها الحاج ويحتاج إلى التعامل بها مع رفقته الأقربين، ومع سائر الحجاج من إخوانه المسلمين، وحري بمن كسب هذه الأخلاق في الحج أن يحافظ عليها بعد الحج.
ومن المعاني والأسرار اللطيفة في الحج: تعويد النفس على انتظار الفرج بعد الشدة، وفي الحج درس عملي، يقول: "إن الشدة لا تطول، وإن الفرج بعد الضيق، وإن مع العسر يسراً"، ألا ترى الحجاج وهم يسعون بين الصفا والمروة يتذكرون ما مر بأم إسماعيل من ضيق وشدة وما أعقبه من فرج وفضل ورحمة. بل ألا ترى الحاج يبصر -أحياناً- شدة الزحام في المطاف أو المسعى أو رمي الجمرات، فيضيق صدره، وربما ظن أنه غير مستطيع أداء هذا النسك، ثم لا يلبث إلا قليلاً...وإذا بالضيق يخف شيئاً فشيئاً، والشدة تذهب رويداً رويداً، وبالجموع المخيفة تنفل، وبالرهبة تخف حتى يؤدي المرء ما كان متهيباً من أدائه من قبل، ولربما أضمر المرء حين الشدة أنه لن يحج بعد العام، فلما كان الفرج واليسر زال ذاك الهم، وتبدل العهد والوعد، وهكذا تنتهي الشدائد وتفرج الكربات، لا في مشاعر الحج وحدها، بل وفي كل مكان وزمان، وعلى المسلم ألا ييأس من روح الله... ولا يقنط من فضله ونصر أوليائه.
وفي الحج تذكير بقيمة الزمن وإمكانية استثماره في طاعة الله أمثل استثمار... فالحاج في برهة يسيرة من الزمن يحقق من الطاعات والقربات ما هو جدير بتحفيزه على استمرار استثمار الوقت بما ينفع، فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجل ما يصان عن الإضاعة والإهمال، ومن المؤسف أن تضيع أوقات المسلم سدى، ولربما أمضى فترة من عمره وشطراً من حياته في أمور لا تنفعه شخصياً، وتخسر بها الأمة طاقة من طاقاتها... وفي الحج ومناسكه وانتقال المرء فيه من عبادة إلى أخرى ما ينبغي أن يشخذ الهمم، ويقوي العزائم على استثمار الوقت بعد الحج فيما ينفع به نفسه، وتستفيد الأمة المسلمة من ورائه.
أيها الحاج: أما مغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات في الجنان فذاك الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". رواه مسلم.
يا عبدالله: وإذا كان لك ماض تستحي من ذكره، وتخاف الله من حسابك، فاستغفر الله وتب إليه بالحج، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين جاء مسلماً مشترطاً أن يغفر له: "وإن الحج يهدم ما كان قبله" رواه مسلم.
أيها الحاج: وفي الحج تنبعث عبودية الشكر لله وتقوى، فالحاج يبصر الشيخ الضعيف، والفقير والمسكين، ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يبصر الأعرج والأعمى، والمريض والمبتلى والمعاقين والزمنى... وأصنافاً من خلق الله حل بهم ما هو منه سالم معافى، فيدعوه ذلك لشكر أنعم الله عليه، ويتذكر ما هو فيه من نعمة قد لا تتوفر عنده غيره، فيقيد هذه النعم بالشكر، ويلهج لسانة وقلبه بالذكر والشكر، بل وفوق ذلك كله يتذكر نعمة الإسلام التي هو فيها، والأمم والشعوب التي حرمتها فيزيد شكره وتمسكه بدينه، ويعود من رحلة الحج مستمسكاً بالدين الحق، داعياً غيره ممن لم يتذوق نعمة الإيمان واليقين.
حجاج بيت الله: ولا يليق بالمسلم أن يحافظ على الواجبات كالصلوات المفروضة في الحج فحسب، فإذا ما عاد تهاون بها، كما لا يليق بالمسلم أن يمتنع عن المحرمات، فإذا ما انتهى من رحلة الحج مارسها، بل وأطلق لنفسه العنان فيها...
أيها الحاج: ألا فاتخذوا من ذكر الله وتلاوة كتابه -في الحج- والحرص على السنن المشروعة بشكل عام فرصة لتعويد النفس عليها، والمداومة عليها بعد الحج...
وإذا ما قدر لك -أي الحاج- أن تطلع على شيء من أحوال إخوانك المسلمين وحوائجهم -في الحج- فليكن ذلك داعياً لك للاهتمام بشأن المسلمين ومتابعة قضاياهم وسد حوائجهم بعد الحج...
وبهذه المشاعر والمعاني والأحاسيس والمقاصد يعود للحج قيمته وأثره، ويعود الحاج ممتلئاً بأسرار الحج ومنافعه... وإنما شرعت الطاعات والقربات في الإسلام لتهذيب النفوس وتزكيتها، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتحريرها من رق الشهوات، والرقي بها إلى أعلى المقامات والكرامات، ودونك هذه المعاني وأكثر، في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 27-30].
الخطبة الثانية:
الحمد لله أفاء على عباده من مواسم الخيرات ما يرفع لهم به الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه لا تعد ولا تحصى، ومن تأمل في شريعة الإسلام وجد بها السماحة والندى والفضل العظيم لمن أناب واهتدى، أعمال ماحية للذنوب والمعاصي، ومواسم للطاعات يرتفع به العبد درجات... ذكر وشكر، صلاة وصيام، سنن ونوافل، صدقات وصلات، وأضاحي...
وأشهد أن محمداً رسول الله، ندب الأمة إلى المسارعة في الخيرات، وخص ربه الفضل أياماً معدودات... والموفق من اغتنم المواسم وسابق الخيرات، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وفضله ورحمته تشمل الحجاج وغيرهم، بشراكم معاشر المسلمين بأيام أوشكت أن تعمكم بفضلها، وهنيئاً لمن قدر فضل الزمان فاستثمره بالطاعة، وتقرب إلى مولاه بالعبادة الخالصة...
عشر ذي الحجة أيام فضلها الله على ما سواها، وأقسم بها تعظيماً لشأنها، فقال جل ثناؤه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1-2]. قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: "إنها عشر ذي الحجة". قال ابن كثير: "وهو الصحيح"، ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين.
وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم فضل عمل الصالحات فيها، فقال في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
عباد الله: ومن الطاعات المشروعة في هذه العشر الإكثار من الذكر كالتهليل والتكبير والتحميد، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".
قال العلماء: "والتكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقيب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان".
وقد أخرج البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به: "أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنه كان يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما". فمن يذكر الناس في هذه الأيام بالتكبير فبه شبه بهذين الصحابيين الجليلين، ومن أحيا سنة نبوية أميتت فله من الأجر مثل من عمل بها من غير أ، ينقص من أجور العاملين شيئاً.
أيها المسلمون: والصيام قربة إلى الله في كل زمان، ولا شك أنه في الأزمنة الفاضلة أحب إلى الله وأكثر أجراً، فمن قدر على صيام شيء من هذه العشر فأجره على الله... ومن ضعفت همته فلا أقل من صيام يوم عرفة لغير الحاج، فقد جاء في فضله أنه: "يكفر السنة الماضية والسنة القابلة". رواه مسلم.
أيها المسلم والمسلمة: وإن تيسر لك الحج فهو من أعظم الأعمال في هذه العشر، وإن لم يتيسر فاحرص على الأعمال الصالحة بشكل عام كالذكر وتلاوة القرآن وكثرة السنن -بعد المحافظة على الفرائض- وصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والمحتاجين، والأمر بالمعروف والدعوة للخير وزيارة المرضى، والصلاة على الأموات، وزيارة المقابر، والدعاء للأحياء والأموات... إلى غير ذلك من قربات يجدر بك أن توليها منا لعناية في هذه العشر أكثر مما توليها في سائر الأيام.
أيها المؤمنون والمؤمنات: عشر ذي الحجة غرة في جبين الدهر، لا تتكرر في العام إلا مرة، فكيف ستكون هممكم للطاعة حين تستثار الهمم؟ وأين موقع خيلك أيها المسلم والمسلمة -للسباق حين تضمر جياد الآخرين؟ وما مدى شعورك بقيمة الزمن، وتقديرك لمواسم الطاعة؟ هل تشعر بالفرح وأنت تنتظرها، وهل تكون من العاملين المخلص حين مجيئها؟
وليس يخفى أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، فإن عجزت أو لم يقدر لك الجهاد، ففي عمل الصالحات -وفي هذه العشر- فرصة للتعويض، ووسيلة لبلوغ أجر المجاهدين، وقد مر بك أن عمل الصالحات فيها أحب إلى الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء من ذلك -وإن كان الجهاد من حيث الجملة أفضل مما سواه- لكن عمل الصالحات في هذه العشر له مزية وفضل.
أيها المسلم والمسلمة: وحاذر من المعاصي من كل زمان ومكان، وعظم حرمات الله بشكل عام، والأزمنة الفاضلة بشكل خاص، وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن عقوبة المعاصي في الأزمنة الفاضلة فقال: "والمعاصي في الأيام الفاضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان".
عباد الله: ومما يجدر التنبيه عليه أن من أراد الأضحية فعليه أن يسمك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته وظفره وبشرته منذ دخول العشر حتى يذبح أضحيته لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي"، وفي رواية: "فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً" رواه مسلم.
والأمر هنا -كما قال العلماء-: للوجوب، والنهي -عن الأخذ- للتحريم، لكن لو تعمد الأخذ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا فدية عليه إجماعاً، ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفر أو جرح عليه شعر يتعين أخذه -أو نحو ذلك- فلا بأس، ولا حرج على الرجل والمرأة أن يغسل رأسه في هذه العشر، فالنهي عن تعمد الأخذ، وينبغي أن يعلم أيضاً أن النهي يخص صاحب الأضحية دون الزوجة والأولاد، إلا إن كان لأحد منهم أضحية تخصه، كما أن النهي لا يشمل الموكل بذبح أضحيته عن حي أو ميت، وإنما يخص صاحب الأضحية فقط.
أما من عزم على الحج وله أضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام، لأن هذه سنة عند الحاجة، فيرجح جانب الترك على جانب الأخذ، أما تقصير المتمتع لشعره حين الانتهاء من العمرة فلا بأس به، لأن ذلك نسك، وكذا حلق الرأس يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة.