العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إنها معركة صاخبة تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت، فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرحهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجهم إلى العراء أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال، لكن هذه المعركة -مع شدتها- تهون على أهل الإيمان وعباد الله الصالحين، الذين يعرفون كيده، ولا يستجيبون لندائه وأصواته، ولا ينخدعون بوعوده، أولئك الذين استثنى الله بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)
الحمد لله خلق الخلق لحكمة جليلة، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، وجعل لكل شيء قدراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ وأرشد، وحذر وأنذر، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
عباد الله: من طبائع الأمور أن يستعد المرء لعدوه المحارب له بكل وسيلة ممكنة، ويحذره على نفسه ومن تحت يده، ويود لو استطاع دفعه عن إخوانه المسلمين، حتى ولو كلفه ذلك من جهده وماله ووقته، ويسعد إذا انتهت المعركة لصالحه وضد عدوه، لكن ما رأيكم في معركة بل معارك يدور رحاها في كل يوم، بل وفي كل لحظة، والعدو فيها يتسلل إلى قلب الديار فيفسدها، بل إلى أعماق البيوت فيحدث الخلل فيها، بل يصير إلى قلوب العباد، فيعكر صفوها ويضعف إيمانها. وربما قطع صلتها بخالقها.
والعدو هنا يتسلل على مرأى منا، ويفسد حين يفسد بمحض رغبتنا وغلبة شهواتنا وأهوائنا، وتلك من أعظم المصائب وأقسى المعارك.
نعم: إن معركتنا مع الشيطان معركة دائمة متجددة يتخذ فيها الشيطان كل أنواع السلاح، ويحيط بالمرء من كافة الجهات، ويراوغه ويمنيه بكافة أنواع المغريات: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16-17]، (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء:120].
أيها المسلمون: ويملك الشيطان في معركته مع بين الإنسان عدداً من الجنود يستخدمهم في المعركة، وتختلط خيالتهم بالرجالة، وهو حريص على مشاركتهم في الأموال والأولاد لإفسادهم.
والشيطان يستنزل ويستفز بصوته الداعي إلى المعصية كل من استطاع وخدع، يقول تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً) [الاسراء:64].
إنها معركة صاخبة تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت، فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرحهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجهم إلى العراء أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال، لكن هذه المعركة -مع شدتها- تهون على أهل الإيمان وعباد الله الصالحين، الذين يعرفون كيده، ولا يستجيبون لندائه وأصواته، ولا ينخدعون بوعوده، أولئك الذين استثنى الله بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الاسراء:65].
إخوة الإيمان: وتجدون راية الشيطان منصوبة في كل مكان. يا صاحب المال: ستجد راية الشيطان منصوبة، وإن لم تبصرها، في كل مال جمعته من حرام، أو أنفقته في الحرام، أو منعت الإنفاق الواجب منه في الحلال؟ فانظر في مالك من أين جمعته وفيما تنفقه؟
أيها الشاب والشابة: وتنصب راية الشيطان وإن لم تروها حين يستنزلكم الشيطان بقضاء الشهوة المحرمة في الزنا أو اللواط. أو مقدماتهما – فاحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيتها المرأة المسلمة: وتنصب راية الشيطان حين يستشرفك الشيطان بالخروج متزينة متعطرة فتفتنين عباد الله، ويقع بسببك من البلاء والفساد ما يغضب الرحمن، ويطرب له الشيطان، فاتقي الله يا أمة الله، ولا جعلي للشيطان سبيلاً عليك وعلى المؤمنين.
وإذا كانت وسوسته تلازم المسلم وهو في أشرف البقاع حين يقوم للصلاة… فلا تسأل عن وسوسته وغروره وأمانيه خارج المسجد وخارج الصلاة.
يا أيها المسلم والمسلمة: وكلما حصل منك فتور عن العبادة أو تراخ عن أداء الواجبات وتساهل في اقتحام المحرمات، فاعلم أن الشيطان حاضر فاستعذ بالله منه تجد من الله عوناً "وكفى بربك وكيلاً"، وكلما ضعفت نفسك أمام الشهوة المحرمة، كالزنا واللواط، والغناء، وشرب المسكرات وتناول المخدرات أو نحوها من المآثم… فاعلم أنك مغلوب في المعركة مع الشيطان. وكلما غلبتك عينك على النظرة المحرمة، أو خانتك أذنك على السماع المحرم، أو مشيت بك رجلك إلى الحرام، أو امتدت يدك إليها فاعلم أنك ضعفت في المقاومة أمام جند الشيطان… وسينقلونك إلى معركة أخرى، وستقع في النهاية ضحية لمكر الشيطان وتلاعبه.
يا أيها الإنسان: ما غرك بربك الكريم؟ أترضى بغرور الشيطان، وتستسلم لعدوك، وقد أخرج أبويك من الجنة، وأهبطهما إلى الأرض حين استزلهما وأخرجهما مما كانا فيه؟ ولا يغرنك بنصحه فقد قاسم أبويك وهو كذوب: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:21] فكانت النتيجة (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف: 22] وما أشد حسرتك حين يوقعك ثم يعود لك لائماً متبرئاً: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر:16].
وفي تاريخ البشرية كلها قديما وحاضرها، لم يرفع سلاح بغير حق إلا وكان للشيطان فيه نصيب الإغواء، ولم يقع خلاف بين ابن وأبويه، أو زوج وزوجته أو أخر لأخيه… إلا وكان الشيطان حاضراً مغوياً، ولم يكن ثمة انحراف في الفكر والمعتقد، أو خلل في السلوك وتساقط في الأخلاق، وانهيار في القيم إلا وكان للشيطان فيها خطوات مستدرجة ثم موقعة، ثم تعقبها الحسرة والندامة.
أفلا يفكر العقلاء بالنتائج المرة لطاعة الشيطان، إن في الدنيا بالخزي والذل والندامة وشؤم المعصية، أو في الآخرة حيث الإقامة الدائمة والعذاب المهين، والحسرة والندامة، لقد قرع الأسماع تحذير اللطيف الخبير من مكر الشيطان وغدره، ونودي بنو آدم من السماء نداءً صادقاً: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27] إلى قوله: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27].
ولا يزالون يذكرون العهد بعداوة الشيطان وأثره في إغواء البشرية (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يّـس: 60-62].
عباد الله: لا بد من الحذر من مكر الشيطان، ولا بد من الاستعداد لهذه المعركة التي لا يخبو أوارها، ولا يسلم أو ييأس محركها… إن الشيطان يحضر غداءكم وعشاءكم، ويقتحم عليكم بيوتكم وفرشكم، وهو معكم في حين خلوتكم أو اجتماعكم، وفي حال فقركم أو غناكم، مع الذكر والأنثى والصغير والكبير… معكم ما دامت أرواحكم في أجسادكم، وما برحت الدماء تسري في عروقكم، وكفى بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم دقة وتبياناً لحضور الشيطان، حين يقول: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" متفق عليه.
إنها البلية العظمى والفتنة المستشرية، والمعركة المتجددة، ولكن الله جعل لنا مخرجاً، ويكفي أن يستأنس المؤمنون بقوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء: 76]، وبقوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر: 42]، ويعترف الشيطان بعجزه عن إغواء المخلصين:(قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82-83].
فالله الله أن يتلاعب الشيطان بأحدكم كما يتلاعب الغلمان بالكرة، وإياكم أن تخسروا كل أو معظم المعارك مع الشيطان حتى إذا وردتم على الله محملين بالخطايا والآثام أخلفكم وعده، وصدقكم وهو الكذوب قال الله على لسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ابراهيم:22].
هناك ما أعظم الحسرة والندامة، ولكن هيهات فقد فات الأوان…اللهم انفعنا بالقرآن، واكفنا شر إغواء الشيطان، ولا تجعل له علينا سبيلاً، وأعذنا من مكره وشره، أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية
الحمد لله خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق ويحكم بالعدل، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمداً عبده كان له قرين من الجن فأسلم… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: ما هي السبل والوسائل التي يبطل بها كيد الشيطان، وما نوع الأسلحة التي يهزم بها الشيطان وجنده؟
وهنا أعرض مذكراً بعشر وسائل -أو تزيد- للوقاية من كيد الشيطان ومكره، فمنها:
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والتوكل على الله، يقول خالقنا وخالق الشيطان: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36]، (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) [المؤمنون:97]، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس: 1-6]. ويقول جل ذكره: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3].
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: "ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يطول عليك، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك".
ومن الأسلحة الواقية من كيد الشيطان وجنده قراءة القرآن وتدبره (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً) [الاسراء:45]، (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً) [الاسراء: 46]، قيل: لييس شيء أطرد للشيطان من القلب من قول: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن… وذلك طارد للمشركين وقيل: للشياطين.
وإذا كانت تلاوة القرآن -عموماً- مبعدة للشياطين، فثمة سور، أو آيات معينة جاء النص عليها أنها تحفظ من الشيطان، فـ(المعوذات) ما استعاذ متعوذ بمثلهما، وحري بالمؤمن أن يقرأهما في الصباح والمساء. وآية الكرسي حين يقرأها المسلم في فراشه، فلن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
والآيتان الأخيرتان من سورة البقرة، لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان.
والذكر يا عباد الله حصن منيع من الشيطان، وما يزال المرء يذكر الله حتى يطمئن قلبه، وتندفع عنه وساوس الشيطان، وصدق الله: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]. والاستغفار والتوبة من أمضى الأسلحة لمكافحة الشيطان وقد قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، وقال الرب ووعده حق: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. وقال الشيطان: أحرقت بني آدم بالمعاصي فأحرقوني بالاستغفار.
والتوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته، وما يزال العبد يراغم الشيطان بالتوبة والإنابة حتى يحصل على محبة الله ورضوانه، بل وتستبدل سيئاته حسنات… وذلك أكبر مغيظ للشيطان، وبالجملة فشأن المسلم اللبيب -كلما أحدث ذنباً أحدث لله توبةً وعملاً صالحاً، ففي ذلك مراغمة للشيطان ورد لكيده، وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: "إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره".
وحسن الخلق -بشكل عام- جالب للمودة، دافع لنزغات الشيطان… وسوء الخلق داع للرذيلة… وطريق لدخول الشيطان… أرأيت كيف يصنع الأحمق الغضبان من المآثم… وما كان الرفق في شيء إلا زانه. وإذا كان القول الحسن من جملة الأخلاق الفاضلة، فتأمل أثر نقيضه من فحش القول في نزغ الشيطان، يقول تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الاسراء:53].
عباد الله: والمحافظون على الصلوات أبعد من غيرهم عن كيد الشيطان، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله صراط – وفي الصلاة من الذكر والخشوع والتلاوة والعبودية لله ما يسهم في حماية العبد بإذن الله من مكر الشيطان وكيده.
ومن الأسلحة المكافحة للشيطان أن تعود نفسك كلما عملت سيئة أن تبادر بعمل حسنة أو حسنات بعدها، فتلك تمحوها وتراغم الشيطان، وفي التنزيل: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114]، ومن مشكاة النبوة: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
ومن الأسلحة كذلك أن تحزن للسيئة -إذا بليت بها- ولا تعجب بالحسنة -إذا وفقك الله لها- وإن فرحت بها، فقد تقودك السيئة -مع الحزن على فعلها والندم على مقارفتها- إلى فعل حسنات كثيرة، وتوجد عندك من الذل والعبودية والانكسار لله ما يجلب حسنات كثيرة -تفوق بآثارها هذه السيئة - وفي المقابل قد تقودك هذه الحسنة التي أعجبت بها إلى العجب والكبر والمنة على الله وتزكية النفس… فتحمل بسببها من السيئات ما يهلكك. ومن مأثور كلام السلف: "قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار".
أيها المسلمة والمسلمة: وحصن نفسك عن مكر الشيطان بتزكيتها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9-10]، ومن أقوى وسائل تزكيتها: غض ابصر، وحفظ الفروج، كما قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) [النور: 30]. قال ابن تيمية رحمه الله: "فجعل -سبحانه- غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس …"
والدعاء سلاح به يتقي المسلمون كيد الشيطان وحضوره، وقد أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون: 97-98].
فاستعاذة سواه بالله أولى، والله هو الذي أعطى الشيطان القدرة على الإغواء، وهو وحده القادر على الحماية والحفظ، فلنرفع إليه أكف الضراعة سائلين، وهو قريب مجيب الدعاء.
عباد الله: وثمة وسائل أخرى وأسلحة واقية من مكر الشيطان تذهب أو تخفف من حدة المعركة معه، كقوة العزيمة وتنمية الهمة العالية على فعل الخير واجتناب الشر، وعدم الانخداع بأسر الشهوة الحاضرة، والنظر في عواقبها الوخيمة، والتطلع إلى نعيم الآخرة، وعدم الغرور بالدنيا، والحرص على إصابة السنة في القول والعمل، والحذر من البدعة في المعتقد والعمل، إلى غير ذلك من وسائل يمارسها العارفون، ويحتمى بها من الشيطان عباد الله المخلصون.
أيها المسلم والمسلمة: وإذا علمت أنك في كل لحظة، بل وفي كل خاطرة في معركة مع الشيطان، فانظر في نتائج المعركة معه، ولا يغب عن بالك أن المتقين للمعاصي يمسهم – أحياناً- طائف من الشيطان، لكن الفرق بينهم وبين غيرهم أنهم يتذكرون قدرة الله فينتهون ويبصرون، وغيرهم -من إخوان الشيطان- يتمادون في غيهم ولا تقصر الشياطين عنهم.
اقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف: 201-202]. فكن من المتقين، لا من إخوان الشياطين.