الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن الشباب هم الذين نصروه، وبهم قامت دولة الإسلام، وفتحت البلدان، وانتشر دين الله تعالى في الأرض؛ ففي الشباب طاقة وعزيمة وقوة وإقدام، وسير الشباب من الصحابة رضي الله عنهم من أعجب السير، ودراسة أخبارهم تنهض بالهمم، وتشحذ العزائم، وتحيي في شباب الأمة سنن الاقتفاء والتأسي بخيار هذه الأمة وأفاضلها ..
(الحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) [سبأ:1-2]، نحمده حمدًا كثيرًا، ونشكره شكرًا مزيدًا؛ هدانا لدينه، وعلمنا شريعته، وأتم علينا نعمته؛ فله الحمد كما ينبغي له أن يحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، بيده سبحانه قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أقامها، وإن شاء أزاغها: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ربَّى جيلاً من الشباب فجعلهم لربهم قانتين، وبفرائضه قائمين، ولدينه داعين، وبشريعته حاكمين، وفي سبيله مجاهدين، يسترخصون كل غالٍ لأجل دينهم، ويبذلون النفس والنفيس لمرضاة الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن الأيام تسرع بكم إلى لقاء ربكم، فتقرب كل بعيد، وتفني كل جديد، ولا يبتدئ عام إلا وينتهي، وها هو ذا رمضان مرّ في لمح البصر، ويعقبه الحج ثم يمضي وينتهي به العام الهجري فيخلفه عام جديد، وبالأمس أغلقت المدارس وغدًا تفتح، وهكذا تمضي الأيام بالعمر حتى يبلغ الأجل، والحازم من استودع في أيامه ولياليه عملاً صالحًا ينفعه، وادخر في عمره ما تكون به نجاته، والمخذول من يأكل ويشرب ويلهو ولا يفرق بين يومه وأمسه، ولا يعتبر بما مضى من عمره: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207].
أيها الناس: تحرص الدول والأمم الواعية على الشباب، وتنفق في تربيتهم وتعليمهم وتحصينهم طائل الأموال؛ لأن الاستثمار فيهم أربح استثمار؛ ولأن فشلهم وضياعهم يمثل أثقل عبء وأشد خسارة على أمتهم.
ومن تأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد أن الشباب هم الذين نصروه، وبهم قامت دولة الإسلام، وفتحت البلدان، وانتشر دين الله تعالى في الأرض؛ ففي الشباب طاقة وعزيمة وقوة وإقدام، وسير الشباب من الصحابة -رضي الله عنهم- من أعجب السير، ودراسة أخبارهم تنهض بالهمم، وتشحذ العزائم، وتحيي في شباب الأمة سنن الاقتفاء والتأسي بخيار هذه الأمة وأفاضلها.
وهذه سيرة أحد شباب الأنصار، تربى على عين النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونهل من معين الوحي حتى ارتوى علمًا وفقهًا وحكمة، وكان له في الإسلام شأن عظيم، وفي الفقه والعلم باع كبير، يرجع إلى علمه أكابر الصحابة، ويأخذ عنه صغارهم وجلة التابعين، ذلكم هو زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه-.
لما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان لزيد إحدى عشرة سنة، فجيء به إلى النَّبِي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: "يَا رَسُوْلَ اللهِ: هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ قَرَأَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سُوْرَةً، قال: فَقَرَأْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ"، وتوسم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه النجابة وحدّة العقل، وقوة الذاكرة، واتساع الذكاء، فكلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعلم لغة اليهود وَقَالَ: "يَا زَيْدُ: تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُوْدٍ، فَإِنِّي وَالله مَا آمَنُهُمْ عَلَى كِتَابِي". فشرع زيد يتعلم لغة اليهود حتى أتقنها تحدثًا وقراءة وكتابة، فبالله عليكم ما الزمن الذي تظنون أن زيدًا أتقن فيه لغة اليهود؟! سنة أو سنتين أو أكثر؟! لقد حذقها في سبع عشرة ليلة فقط، وهذا يدل على ذكائه، واستغلاله لعقله فيما ينفعه من العلم وخدمة الإسلام.
وفي شباب الأمة اليوم من يمتلكون ذكاءً كذكاء زيد لكن عقولهم معطلة، لم تجد أمثال أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم- ليُعْمِلها ويوجهها وجهتها الصحيحة.
واستصغر زيد يوم بدر وأحد، وأول مشاهده الخندق وهو ابن أربعة عشر ربيعًا.
وترقى زيد في العلم والعمل، واشتهر بضبط القرآن مع الفقه، حتى كان من مشاهير قراء الصحابة وفقهائهم وهو شاب يافع دون العشرين، يدل على شهرته بالقرآن والفقه أنه حضر غزوة تبوك وهو في التاسعة عشرة من عمره، وكانت راية بني النّجار مع عمارة بن حزم، فأخذها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- منه فدفعها لزيد بن ثابت، فقال عمارة -رضي الله عنه-: يا رسول اللَّه: بلغك عني شيء؟! قال: "لا، ولكنّ القرآن مقدّم". ولأجل ضبطه وكتابته كان زيد من كُتَّاب الوحي على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، واشتهر في المدينة بكاتب الوحي.
وأما فقهه فقد ضبط الفرائض وقسمة المواريث وهي أعسر أبواب الفقه، حتى قال النَّبِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْرَضُ أُمَّتِي: زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ". رواه الحاكم وصححه.
وقال الزُّهْرِيَّ -رحمه الله تعالى-: "لَوْلاَ أَنَّ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ كَتَبَ الفَرَائِضَ لَرَأَيْتُ أَنَّهَا سَتَذْهَبُ مِنَ النَّاسِ".
هذا العلم العزيز النادر الذي به تقسم المواريث قسمة شرعية صار بعض المتزلفين من طلاب الدنيا يمسخونه من المناهج الشرعية لإرضاء المنافقين والحظوة عندهم، في سياسة تغريب المناهج وتخريبها، فالله حسيبهم.
قَالَ الإمام مَالِكٌ -رحمه الله تعالى-: "كَانَ إِمَامَ النَّاسِ عِنْدَنَا بَعْدَ عُمَرَ، زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ".
وفي ضبطه للقرآن والفقه يقول التابعي الجليل عامر الشَّعْبِي -رحمه الله تعالى-: "غَلَبَ زَيْدٌ النَّاسَ عَلَى اثْنَتَيْنِ: الفَرَائِضِ، وَالقُرْآنِ". وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ قَالَ: "مَا كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يُقَدِّمَانِ عَلَى زَيْدٍ أَحَدًا فِي الفَرَائِضِ وَالفَتْوَى وَالقِرَاءةِ وَالقَضَاءِ".
وبلغ بزيد فقهه مبلغ الفتوى، فكان سادس ستة يفتون من الصحابة، كلهم كبار إلا زيدًا، فشاب في العشرين، وصار فقهه يحفظ ويطلب.
كل هذا العلم والفقه حازه زيد وعمره لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتجاوز ثنتين وعشرين سنة.
ولما اجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- في السقيفة لتنصيب خليفة حسم زيد -رضي الله عنه- خلاف المهاجرين والأنصار بكلام نفيس يدل على فهم في السياسة مع فقه في الشريعة، فَقَامَ زَيْدٌ في الناس خطيبًا وقال: "إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ كَانَ منَ المُهَاجِرِيْنَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ، وَإِنَّمَا يَكُوْنُ الإِمَامُ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُم...".
وفي خلافة الصديق -رضي الله عنه- كُلف زيد بأكبر مهمة يكلف بها رجل من هذه الأمة، وهي مهمة جمع القرآن بعد أن استحرَّ القتل في القراء أثناء حروب الردة؛ وذلك أن عمر أشار على أبي بكر بإسناد هذه المهمة الكبيرة لزيد لحفظه وإتقانه وذكائه، وكان زيد في بحر العشرين ويعلم ضخامة ما حمل؛ ولذا قال: "فَوَالله لو كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ من الْجِبَالِ ما كان أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ من جَمْعِ الْقُرْآنِ".
يا له من قول يدل على استشعاره للمسؤولية، وإدراكه لثقلها، ولكن زيدًا كفو لها بإيمانه وحفظه وإتقانه وفقهه وورعه، فمضى يجمع القرآن من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى تم له ذلك على أحسن حال، فحُفظت الصحف عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة، ولما أراد عثمان في خلافته أن يجمع الناس على مصحف واحد؛ ليقطع النزاع والاختلاف في القراءة كان زيد -رضي الله عنه- عضوًا فاعلاً في اللجنة التي انتدبها عثمان لذلك، حتى كتبوا المصحف العثماني الذي توارثته الأمة منذ ذلك الحين إلى اليوم، ويقرأ به المسلمون القرآن في مشارق الأرض ومغاربها، فكم لزيد -رضي الله عنه- من الأجور العظيمة الدائمة على هذا العمل الجليل؟!
ولما حصر الخوارج عثمان -رضي الله عنه- في الدار ما تخلت عنه الأنصار فجاؤوا يقدمهم فقيههم زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فقال لعثمان: "هَذِهِ الأَنْصَارُ بِالْبَابِ يَقُولُونَ: إِنْ شِئْتَ كُنَّا أَنْصَارًا لله". مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: "أَمَّا الْقِتَالُ فَلا".
وبقي زيد -رضي الله عنه- إلى الخلافة الأموية، ولم تتلطخ يداه بدم مسلم، ولم يشارك في فتنة، وإنما يقرئ الناس القرآن، ويعلمهم العلم، ويفقههم في الدين إلى أن توفاه الله -عز وجل-، ومن أشهر طلابه ابن عباس الذي قال فيه: "لَقَدْ عَلِمَ الْمُحَفِّظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ".
وقال سَعِيدِ بْنُ الْمُسَيبِ -رحمه الله تعالى-: "شَهِدْتُ جِنَازَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دُلِّيَ فِي قَبْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ ذَهَابُ الْعِلْمِ، فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَالله لَقَدْ دُفِنَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ".
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَ مَاتَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "الْيَوْمَ مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ خَلَفًا".
فرضي الله تعالى عن زيد وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه، وجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: في بداية هذا العام الدراسي الجديد ما أجمل أن يستحضر أبناء المسلمين وبناتهم سير شباب الصحابة وفتياتهم، وأن تقرأ عليهم أخبارهم، وأن يدرسوا اهتماماتهم، ذلك الجيل المبارك من الشباب الذي تربى على عين النبوة، وعاش فترة الوحي، وحقّق للإسلام في سنوات قلائل من التقدم والازدهار وفتح البلدان ما عجزت عنه أقوى الدول وأشهر الفاتحين والمحاربين في القديم والحديث.
كان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- الذي حفظ في صباه القرآن، وطلب العلم، وفقه الفقه، كان لما كبر يدرب الشباب على العلم والفقه والفتيا؛ ليحملوا العلم من بعده ويبلغوه الناس، ويفتوهم في دينهم، ومن ذلك ما روى حَجَّاجُ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَزِيَّةَ: "أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ: إِنَّ عِنْدِي جَوَارِيَ لَيْسَ نِسَائِي اللائِي أُكِنُّ بِأَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهُنَّ، وَلَيْسَ كُلُّهُنَّ يُعْجِبْنِي أَنْ تَحْمِلَ مِنِّي، أَفَأَعْزِلُ؟! فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَفْتِهِ يَا حَجَّاجُ، قَالَ: قُلْتُ: غَفَرَ الله لَكَ، إِنَّمَا نَجْلِسُ إِلَيْكَ لِنَتَعَلَّمَ مِنْكَ، فَقَالَ: أَفْتِهِ، قَالَ: قُلْتُ: هُوَ حَرْثُكَ إِنْ شِئْتَ سَقَيْتَهُ وَإِنْ شِئْتَ أَعْطَشْتَهُ، وَكُنْتُ أَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ زَيْدٌ: صَدَقْتَ".
فأولوا الشباب عنايتكم، وخصوهم برعايتكم، ووجهوهم لما ينفعهم، وحملوهم من المسؤولية ما يليق بهم؛ فإنهم إن لم يشتغلوا بما ينفعهم شغلوا أنفسهم بما يضرهم، ولحق ضررهم أسرهم ومدارسهم ومجتمعهم والأمة كلها.
وصلوا وسلموا على نبيكم...