البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
شهر رمضان! كم بقي منك ياشهر البركة؟! لقد استقبلناك بعد طول زمان، ولوعة اشتياق، فأنت الشهر الذي يصطلح فيه الكثيرون مع ربهم بعد طول إعراض وجفاء، وأنت الشهر الذي يرتقى فيه العابدون منازل عالية لا يصلون إليها في غيرك من الشهور، وها نحن اليوم نودعك وملء النفس وَجَلٌ وخَجَلٌ وإشفاق، لا ندري إلى أيِّ مدىً كان وفاؤنا لك؟ وإلى أي مدى كان استثمارنا فيما يفتح الله فيك من رحمات؟.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد --صلى الله عليه وسلم--، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وهكذا -أيها المسلمون- قاربت أن تنطوي صحيفة رمضان، ويغلق سوق شريف امتد ستة وعشرين يوما، سوق كان عامراً بالخيرات والحسنات التي لا تخطر على بال، ربِح في هذا السوق مَن ربح، أسأل الله من فضله، وخَسِر مَن خسِر، وحُرِمَ مَن حرم.
أيها المؤمنون: هذا هو رمضان استقبلناه بالأمس القريب، ولكنه مر سريعا بأيامه ولياليه كأنه هو طيف عابر، وإذا بنا اليوم نستعد لتوديعه، وهكذا عمر الإنسان يمر وينطوي بسرعة، فإذا بالواحد منا في مواجهة الأجل المحسوم بلا موعد مسبق ولا مراجعة ولا اختيار، إذا بالواحد منا يودع الدنيا.
لقد كان قبل هجمة الموت عليه يأمل في دنياه ويخطط، وكما صح في المشكاة من حديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غرس عوداً بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر أبعد منه، فقال: "أتدرون ما هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان وهذا الأجل، فيتعاطى الأمل فلاحقه الأجل دون الأمل".
لقد تفنن ابو جعفر المنصور في بناء بغداد ولم يزل يزيد فيها ويتأنق في بنائها، وكان آخر ما بنا فيها قصر الخلد، فظن أنه يخلد فيها او يخلد له، وعندما اكمل قصره مات، مات قبل أن يدخل فيه، مات ورحل عن كل شيء بناه وشيده في بغداد، بل رحل عن الدنيا كلها.
يأمُلُ دنْيا لِتَبْقى له | فماتَ المؤمِّلُ قبْلَ الأمَلْ |
يُرَبِّي فَسِيلاً ليبقى له | فعاش الفسيلُ وماتَ الرَّجُل |
أيها الأخوة: هل لنا أن نراجع مسيرة حياتنا؟ هل لنا أن نصحح قبل فوات الأوان؟ إن العمر في حقيقته فرصة، فرصة عظيمة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود!.
ألا ما أسرع ما يطوى من العمر! وما أعجل ما تنقضي الأيام والليالي! وما الحياة كلها إلا لحظات محدودة، وأنفاس معدودة، تغمر الناظرين، تغمرهم إليها في ساعات إقبالها، فإذا أدبرت فإنما هي حلم من الأحلام، وذكرى من الذكريات، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس:45]، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) [المؤمنون:112-113].
مرَّتْ سنونٌ بالوِصَالِ وَبِالْهَنَا | فكأنَّها مِن قِصْرِها أيامُ |
ثمَّ انثنَتْ أيَّام هجر بعدها | فكأنَّهَا مِن طُولِها أعْوامُ |
ثُمَّ انْقَضَتْ تلك السُّنُونُ وأهلُها | فكأنَّها وكأنَّهُمْ أحْلامُ |
معاشر الإخوة: إنما البقاء والدوام لمن له البقاء والدوام، سبحان الحي الذي لا يموت! (كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون) [القصص:88]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ والْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
شهر رمضان! كم بقي منك ياشهر البركة؟! لقد استقبلناك بعد طول زمان، ولوعة اشتياق، فأنت الشهر الذي يصطلح فيه الكثيرون مع ربهم بعد طول إعراض وجفاء، وأنت الشهر الذي يرتقى فيه العابدون منازل عالية لا يصلون إليها في غيرك من الشهور، وها نحن اليوم نودعك وملء النفس وجل وخجل وإشفاق، لا ندري إلى أيِّ مدىً كان وفاؤنا لك؟ وإلى أي مدى كان استثمارنا فيما يفتح الله فيك من رحمات؟.
أيها الإخوة الصائمون القائمون: إن فضل الله عظيم، ولكن لنجلس قليلا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، هل نسينا أن الميزان دقيق، وأن الناقد بصير؟ فماذا يكون جوابنا لو قيل لنا: لقد كنتم في صيامكم لاغين رافضين؟ وكنتم في قيامكم ساهين لاهين؟ ماذا يكون جوابنا؟.
هل أدلكم على طُهْرَةٍ تُنَقُّون بها أعمالكم من أدرانها وتخلصونها من شوائبها؟ اغتنموا هذه السويعات واللحظات الباقية أمامكم، فإنما الأعمال بالخواتيم، ثلاثة أو أربعة أيام ثم ينتهي الشهر بكل فُرصه ومغانمه، ومَن يعلم: هل أدركنا ليلة القدر أم ما زالت فيما تبقى منه، مَن يعلم؟!.
فاغسلوا قلوبكم الآن بدموع الاستغفار، وارفعوا أكُفَّ الضراعة إلى الودود الغفار، وقولوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:193-194].
نعم، ما زال في الوقت مُتَّسَع، ما زلنا ننعم بما تبقى من خير في هذا الشهر شهر الخير، ما زلنا ننعم، فلْنُرِ الله -عز وجل- من أنفسنا، وَلْنَجْتَهِدْ فيما تبقى من العمر.
وأذكركم أخوتي بزكاة الفطر فإنها طهرة للصائم من اللهو والرفث. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة الفطر طُهْرَةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعْمَةً للمساكين، فمَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن ماجة
صاع مِن تمر أو أرز أو بُر، صاع واحد، وبالوزن ما يقارب ثلاثة كيلو جرامات احتياطا، صح في البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حُرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، وكان الشعير من طعامهم آنذاك، كما قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
ولا يجزئ اخراج قيمة الطعام، وهذا رأي العلماء؛ لأنه خلاف ما أمر به -صلى الله عليه وسلم-، فلزكاة الفطر مكانها، وللصدقة مكانها، وللزكاة زكاة المال مكانها، ويجوز التوكيل بأن يعطى المال لمن يخرجها طعاماً للمحتاجين لقربه منهم ومعرفته بهم.
ووقت الفضيلة لإخراج زكاة الفطر صباح العيد قبل صلاة العيد، أما وقت الجواز فقبل العيد بيوم أو يومين، أي: من ليلة الثامن والعشرين من رمضان، ولا يجزئ إخراجها قبل ذلك، ولا بعد صلاة العيد، وإذا ترك إخراج زكاة الفطر متعمداً أثم ووجب عليه القضاء، أما من نسي فلا اثم عليه ولكن عليه القضاء.
أسأل الله تعالى أن يتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وان يرزقنا وإياكم الصدق والاخلاص في كل حال، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى مَن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، الحمد لله الذي جعل الصيام الذي هو من أعظم العبادات أبوابه مفتحة كل الشهور طوال العام، فالصيام ليس قاصرا على شهر رمضان.
فقد سن لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- صيام ست أيام من شوال، فقال: "مَن صام رمضان ثم أتبعه ستَّاً من شوال فكأنما صام الدهر كله".
وَسَنَّ لنا أيضا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله. رواه مسلم.
والأفضل في صيام هذه الثلاثة أن يصوم الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، لحديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يا أبا ذر، إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر" رواه أحمد.
وسن لنا أيضا صيام عرفة لغير الحج، وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية، وسَنَّ صيام يوم عاشوراء، وأخبرنا أنه يكفر السنة الماضية، وهناك شهور خُصَّتْ بفضل صيامها او الصيام فيها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن أفضل الصيام بعد رمضان فقال: أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر المحرم.
وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يُفْطِر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، ولا رأيت أكثر صياما منه إلا شعبان، وكانت تقول: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا.
ومن أيام الأسبوع أيام يستحب فيها الصوم، ففي الصحيحين، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تُعْرَضُ الأعمالُ على الله يوم الاثنين والخميس، وأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائم".
فذكر الله تعالى يكتمل بإحياء هذه السنن، والحرص عليها، وصلة المؤمنين بربهم مولاهم وحبيبهم -عز وجل- لا تنقطع أبداً، فهم دائما وفي كل حين يذكرونه -سبحانه وتعالى- وينادونه، لم يكونوا كذلك الذي لا يعرف ربه إلا في رمضان، فإذا ما خرج من رمضان أعرض عن ربه ونسي ذكره.
نسأل الله السلامة والعافية، فليس هذا من صدق المحبة، فلْنَتَّقِ اللهَ -أيها الإخوة-، ولْنَعْمُرْ أيامنا بذكر الله -عز وجل-، ومناجاته، وعبادته، ولنقدم لأنفسنا قبل انقضاء العمر ما يمنحها الفوز والنجاة بعد الموت.
اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.