الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - |
خيرُ ما تحلّى به المؤمن من سجايا وأجمل ما اتصف به من صفات: حِسٌّ مرهَف، وشعور يقِظ، وقلبٌ حيّ، وعقلٌ واعٍ يبعث على استشعار حرمة ما حرّم الله وتعظيم ما عظّمه، فيقيم البرهانَ الواضح على إيمان صادق ويقين راسخ وتسليمٍ ثابت. وإنّ مما حرّم الله تعالى الأشهر الحرم التي قال فيها سبحانه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا وقوفكم بين يديه، (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ:40].
أيها المسلمون: خيرُ ما تحلّى به المؤمن من سجايا وأجمل ما اتصف به من صفات: حِسٌّ مرهَف، وشعور يقِظ، وقلبٌ حيّ، وعقلٌ واعٍ يبعث على استشعار حرمة ما حرّم الله وتعظيم ما عظّمه، فيقيم البرهانَ الواضح على إيمان صادق ويقين راسخ وتسليمٍ ثابت.
وإنّ مما حرّم الله تعالى الأشهر الحرم التي قال فيها سبحانه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ...) الآية [التوبة:36]، وهي الأشهر التي بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- خطب في حجّة الوداع فقال في خطبته: "إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهَيئتِه يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان".
فجاء هذا البيان النبوي تقريرًا منه -صلوات الله وسلامه عليه- وتثبيتًا للأمر على ما جعله الله من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، أي: أنّ الأمر اليوم شرعًا في عدّة الشهور وتحريم ما هو محرّم منها هو كما ابتدأه الله قدرًا في كتابه يومَ خلق السماوات والأرض؛ وذلك لإبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه مما أحدثوه قبل الإسلام من تحليل المحرّم وتأخيره إلى صفر، فيحلّون الشهر الحرام، ويحرّمون الشهر الحلال، وهو النسيء الذي أخبر سبحانه عنه بقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة:37]، وهي صورة من صور التحريف والتبديل والتلاعب عُرفت بها الجاهليّة، ولونٌ من ألوان ضلالاتها وكفرها وتكذيبها بآيات الله -عز وجل- ورسله.
ألا وإنّ من أظهر الدلائل على استشعار حرمة هذه الأشهر الحرم الحذرَ من ظلم النفس فيها باجتِراح السيّئات ومقارَفَة الآثام والتلوّث بالخطايا في أيّ لون من ألوانها، امتثالاً لأمر الله تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، فالذنب في كلّ زمان سوءٌ وشؤم وظلم للنفس؛ لأنّه اجتراء على العظيم المنتقمِ الجبّار والمحسن بالنعم السابغة والآلاء الجميلةِ، لكنّه في الشهر الحرام أشدّ سوءًا وأعظم شؤمًا وأفدح ظلمًا؛ لأنّه يجمع بين الاجتراء والاستخفاف وبين امتهان حرمة ما حرّم الله وعظّمه واصطفاه؛ ولذا تُغلّظ فيه الدّيةُ عند كثير من العلماء.
وإذا كان احترام الشهر الحرام أمرًا ظاهرا متوارَثًا لدى أهل الجاهلية، يعبِّر عنه إمساكهم فيه عن سفك الدم الحرام والكفُّ عن الأخذ بالثأر فيه مع ما هم فيه من شرور وآثام، أفلا يكون جديرًا بالمسلم الذي رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، أفلا يجدر به أن يحجز نفسه عن الولوغ في الذنوب وينأى بها عن أسباب الإثم والعدوان، وأن يترفّع عن دوافع الهوى ومزالق النزوات والشطحات وتسويل الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، وأن يذكر أن الحياة أشواط ومراحل تفنى فيها الأعمار وتنتهي الآجال وتنقطع الأعمال، ولا يدري أحد متى يكون الفِراقُ لها وكم من الأشواط يقطع منها وإلى أيّ مرحلة يقف به المسيرُ في دروبها، فالسعيد من سمت نفسُه إلى طلب أرفع المراتب وأعلى الدرجات من رضوان الله باستدراك ما فات، واغتنام ما بقي من الأوقات، والتزام النهج السديد في هذا الشهر الحرام، وفي كلّ شهور العام، وصدق سبحانه إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كِتابهِ وبسنّة نبيه محمّد -صلى الله عليه وسلم-، أقول قَولي هَذَا، وأَستَغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هوَ الغَفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريك لَه، وأشهَد أنَّ سيدنا ونبينا محمّدًا عَبد الله ورَسوله صاحب الحوض الرويّ السلسبيل، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: قال بعض مفسِّري السلف -رحمه الله-: "إنّ الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظّم الله، فإنّما تعظَّم الأمر بما عظّمها الله به عند أهل الفهم والعقل".
ألا فاتقوا الله -عباد الله- واستشعروا حرمة شهركم هذا، وحذار من ظلم أنفسكم فيه وفي كلّ الشهور، وأقبلوا على موائد الطاعة فيه بما صحَّ وثبت، وأعرضوا عن كلّ مبتدَع غير مشروع كصلاة الرغائب في أوّل ليلة جمعةٍ من شهر رجب، فإن الأحاديث المروية في فضلها كذبٌ باطلٌ لا يصحّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما بيّنه جمعٌ من الأئمّة كالحافظ ابن رجب والحافظ العراقي وابن حجر والنووي وغيرهم، وأما الأئمة المتقدّمون فلم يذكروها لأنها إنما أحدِثت بعدهم، وقال الإمام الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "وأما الصيام فلم يصحَّ في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه".
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكُروا على الدَّوامِ أنَّ اللهَ تعَالى قَد أمَرَكم بالصَّلاةِ والسَّلامِ على خير الأنام، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم علَى عَبدِكَ ورَسولِك محَمَّد، وَارضَ اللَّهمَّ عَن خُلَفائهِ الأربعة...