الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
والله إنَّ من الشقاء والحرمان أن يتعب المرء ويكدح في جمع المال، ثم لا يستفيد منه لآخرته، بل يتركه بعد ذلك لورثته لهم غُنمه وعليه غُرمه وحسابه. وإن العاقل ليدرك أن من خير وجوه الاستثمار لما أنعم الله به من الخير أن يغتنم ماله أن يغتنم ما جمع من مال في دنياه أن يغتنم في عمارة آخرته والتزود لرحلته للدار الآخرة. فليأتين يوم يفرح فيه المنفق بإنفاقه، والمطعم بإطعامه، ويندم الشحيح على شحّه، والبخيل على بخله، ولكن لا ينفع الندم فقد فات وقت العمل ولم يبقَ إلا الحساب.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
ألا فاتقوا الله عباد الله في السراء والضراء، اتقوه في الشدة والرخاء اتقوه بالأقوال والأفعال، اتقوه بقلوبكم وجوارحكم تجدوا كل ما وعد ربكم حقا في دنياكم وآخراكم (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90]؛ منَّ الله عليَّ وعليكم بتقواه، وجنبنا أسباب غضبه وسخطه؛ إنه سميع مجيب.
عباد الله: إن مما جاءت به هذه الشريعة الغراء، وأمرت به، وحضَّت عليه المواساة بين المسلمين وإغاثة الملهوفين، وإعانة الفقراء والمساكين والمستضعفين وبخاصة في أيام الشدائد.
ومن صور ذلك ما جاء في الشريعة من الحثّ على إطعام الطعام للمحتاجين بصوره المختلفة، سواءً أكان طعاماً نيئاً أم مطبوخاً، وأيَّا كان نوع الطعام وقدره.
والمتأمل في نصوص القرآن والسنة يجد أنهما يشتملان على عدد وفير من النصوص التي ترغب في إطعام الطعام وتحث عليه بأساليب متعددة فهو من صفات عباد الله الأبرار الموعودين بالنعيم المقيم من رب العالمين (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 6- 9].
وهو من صفات أصحاب اليمين (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) [البلد: 14- 18].
ولهذا جاء في السنة ما يدل على أن إطعام الطعام من أسباب الفوز بالجنة ودخولها والنجاة من النار وعذابها، في الحديث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
وفي حديث آخر أن أعرابياً قال: يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعتق النسمة وفك الرقبة "، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسقِ الظمآن".
بل جاء في السنة ما يدل على أن مما يُتقى به النار إطعام الطعام وإن قل كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
إطعام الطعام يا عباد الله من خير الأعمال، ففي الحديث "أي الإسلام خير يا رسول الله؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
إطعام الطعام -يا عباد الله- من أحب الأعمال إلى الله كما في الحديث: "أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعًا، أو تقضي عنه دينا".
والمطعمون للطعام ابتغاء وجه الله هم خيار الناس كما في الحديث: "خياركم من أطعم الطعام"، وبإطعام الطعام يحصل العون من الله -عز وجل- على تنفيس الكروب وكشف الهموم والغموم وشفاء الأمراض.
وفي قصة نزول الوحي أول مرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتعبد في غار حراء رجع إلى خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فزعًا فقالت له -رضي الله عنها-: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
وهو باب عظيم من أبواب نيل الثواب والقرب من الله -عز وجل-، في الحديث يقول الله -عز وجل-: "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي".
وقد جاء التحذير من منع الطعام لمستحقه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه ابن السبيل يقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
وفي صورة من صور التنفير من منع الطعام يذكر الله -عز وجل- في كتابه صفات أهل الشمال المتوعدين بالعذاب فيقول الله -عز وجل-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ) [الحاقة: 30- 37].
وفي آية أخرى يبين الله -عز وجل- أن منع الطعام وعدم الحض على إطعامه إنما هو شأن من لا يؤمن بيوم الدين بل شأن المكذبين بيوم الجزاء والحساب: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الماعون: 1- 3].
هذه النصوص وغيرها تدلك أخي المسلم على فضل إطعام الطعام وعظيم الأجر والثواب المرتب على ذلك، وكلما اشتدت الحاجة إلى إطعام الطعام كان أجره أعظم، وثوابه أكثر، وهذا باب من أبواب المنافسة في الخيرات والمسارعة إلى الطاعات والمسابقة إلى الأعمال التي يضاعف أجرها وثوابها عند رب الأرض والسماوات.
وإذا كان أهل الدنيا يبحثون عن المواسم التي يعظم فيها ربحهم المادي، وتنمو فيها أموالهم وتجاراتهم، فطلاب الآخرة والراجون رحمة الله وجنته أشد حرصاً على كل باب يوصلهم إلى مضاعفة أجورهم وحسناتهم من لدن رب جواد كريم.
ثم إن من شكر النعم التي أفاء الله بها عليك أيها المسلم أن تحرص على إدخال السرور إلى الفقراء والمعوذين واليتامى والأرامل والمساكين؛ بإيصال الطعام لهم، ففي ذلك نوع من أنواع شكر المنعم -جل جلاله- على فضله وإحسانه وبالشكر تدوم النعم، إن من الأمور المنكرة أن تجد بعض الناس لا يبالي في ولائمه ولا مناسباته بالإسراف والتبذير في الأطعمة والمأكولات.
ثم يجمع إلى ذلك منكرًا آخر بتقاعسه عن إطعام الطعام للفقراء والمساكين وعدم مبالاته بذلك، وهذا والله هو الحرمان بعينه أن يكون المرء مسارعًا في المعصية محجوبًا عن الطاعة والعياذ بالله.
أسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا جميعا لمرضاته، وأن يعيننا على طاعته وذكره وشكره وحسن عبادته، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران:92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: احرصوا على إطعام الطعام ولو بالقليل لا تحقروا شيئًا من ذلك في الحديث "إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ , حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ".
واعلموا أن ما تنفقونه من أموالكم في إطعام الطعام هو والله الباقي المدخَّر لكم الموفر لكم يوم القدوم على ربكم -عز وجل-.
في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة ثم وزعوا لحمها فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما بقي منها" فقالت -رضي الله عنها-: "ما بقي إلا كتفها"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بقي كلها إلا كتفها"، فما تنفقه من مالك إطعامًا للفقراء والمساكين ستجده يوم القدوم على ربك أوفر ما يكون.
تفقدوا -أيها الإخوة- أقاربكم وجيرانكم أرحماكم وأصدقائكم ومن عرفتم ومن لم تعرفوا وأفيئوا مما أفاء الله عليكم ومما تأكلون وتطعمون أهليكم، فهذه وصية نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك"، وفي الحديث "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".
حتى غير المسلم بل والحيوان في إطعامهم أجر وثواب عظيم مِن الله -عز وجل-، في الحديث "وفي كل كبد رطبة أجر"، فاضرب أيها الأخ المبارك لك بسهم بل بسهام في هذه الأجور الوفيرة والحسنات العظيمة فليأتين يوم يفرح فيه المنفق بإنفاقه، والمطعم بإطعامه، ويندم الشحيح على شحّه، والبخيل على بخله، ولكن لا ينفع الندم فقد فات وقت العمل ولم يبقَ إلا الحساب.
وإن لم تعرف بنفسك فاذهب إلى جمعيات البر، فالمنفق بإنفاقه والمطعم بإطعامه ويندم الشحيح على شحه والبخيل على بخله، ولا ينفع الندم، فقد فات وقت العمل ولم يبق إلا الحساب.
وإن لم تعرف بنفسك فقيرًا أو مسكينًا، فاذهب إلى إحدى جمعيات البر وادفع لهم ما تكفل به أسرة شهرًا أو أقل أو أكثر، وتطلب منهم أن يوفّروا لتلك الأسرة الفقيرة طعامًا وغذاءً.
إن العاقل ليدرك أن من خير وجوه الاستثمار لما أنعم الله به من الخير أن يغتنم ماله أن يغتنم ما جمع من مال في دنياه أن يغتنم في عمارة آخرته والتزود لرحلته للدار الآخرة.
ووالله إنَّ من الشقاء والحرمان أن يتعب المرء ويكدح في جمع المال، ثم لا يستفيد منه لآخرته، بل يتركه بعد ذلك لورثته لهم غُنمه وعليه غُرمه وحسابه.
ألا فلنبادر أيها الإخوة في الله بما فيه نفع أنفسنا وعمارة آخرتنا لاسيما ونحن نتعامل مع رب عظيم كريم يعطي على القليل الكثير.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا لفعل الطاعات والخيرات، وأن يجعلنا جميعًا مفاتيح للخير مغاليق للشر إنه على كل شيء قدير.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلَّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلِّ وسلم وبارك..