الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | ضيف الله بن سفر الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن غلاء الأسعار سبب ضيقًا شديدًا على الناس، الفقراء زادهم فقرًا، وأما متوسطو الحال فهم من الفقر قاب قوسين أو أدنى، خاصة مع الضربات القاسية التي مُني بها أهل البلد من جراء المساهمات في سوق الأسهم والمساهمات العقارية وغيرها. فحبّ المال والحرص على كسبه بأي طريق -حتى ولو كان عن طريق الحرام- أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية واختلاط الحلال بالحرام ..
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: الذنوب تسبِّب هلاك الحرث والنسل، وتسبِّب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، والله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين: خصال خمس إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن-: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عز وجل- ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم". رواه البيهقي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (7978).
فهل نظر الناس لهذا الحديث العظيم الذي أوضح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أثر هذه الذنوب العظيمة التي تعود على أمة الإسلام بغير ما ترجوه؟!
عباد الله: كان يتردّد على آذاننا زمنًا طويلاً من فوق منابر الجمعة وفي قنوت رمضان: "اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والوباء والزنا والزلازل والمحن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع الغلاء عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين"، وربما مرّ علينا هذا الدعاء كغيره من الأدعية، لا نشعر بقشعريرة في جلودنا لأننا لم نعرف أثر غلاء الأسعار حتى وقعنا فريسة له وضحية لمرارته، عندها تعود بنا الذاكرة إلى تلك الدعوات التي خرجت مبتهلة إلى ربها بأن يكشف الغلاء عن الأمة.
إن غلاء الأسعار سبب ضيقًا شديدًا على الناس، الفقراء زادهم فقرًا، وأما متوسطو الحال فهم من الفقر قاب قوسين أو أدنى، خاصة مع الضربات القاسية التي مُني بها أهل البلد من جراء المساهمات في سوق الأسهم والمساهمات العقارية وغيرها.
فحبّ المال والحرص على كسبه بأي طريق -حتى ولو كان عن طريق الحرام- أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية واختلاط الحلال بالحرام، قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، وعندما يطغى على الناس ذلك يصبح الأمر خطيرًا جدًّا، فيتسبب في أمور كثيرة مخالفة لشريعة الله تعالى، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". متفق عليه.
ومن حكمة الله تعالى أن أوجد لعباده طرقًا يسلكونها من أجل تيسير معاملاتهم وإقامة وجوه الحق بينهم، وعندما خالف البشر أوامره وعملوا بما يناقض شريعته أوقعوا أنفسهم في حرج عظيم، وظهرت بينهم بوادر الظلم والطغيان، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء، وتكاثرت عليهم الابتلاءات والمحن.
أيها المسلمون: إن ظاهرة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة تعدّ مشكلة اقتصادية يعبَّر عنها في القاموس الاقتصادي بـ(التضخم)، وهي لا تخرج -مهما كانت أسبابها الظاهرة- عن مسماها الشرعي: (البلاء)، فزيادة الأسعار في الغذاء ينتج عنه بلاء الجوع ونقص الثمرات لضعف ذات اليد عن الشراء، وزيادة الأسعار في الأدوية ينتج عنه بلاء المرض لعجز المريض عن تعاطي العلاج، وزيادة الأسعار في العقارات والبناء ينتج عنه ضيق المعيشة، فيحتار الإنسان كيف يدفع ما لديه من مال هل على الإيجار والسكن أم على الغذاء والطعام، وهكذا، فما نسميه تضخمًا هو في حقيقة أمره وفي جوهره بلاء يتبعه بلاء، وهنا يجب أن نبحث عن أسباب هذا البلاء، وأن نتعامل معه بما وعظنا الله به أولاً، إلى جانب البحث عن أسبابه الأخرى في المعاملات.
يا ترى، هل نحن نعطف على الفقراء والمساكين؟! الجمعيات الخيرية تعاني قلةَ التبرعات والنفقات، فكيف نشبع ويجوع غيرنا ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! إخواننا المستضعفون في غزة وغيرها من بلاد المسلمين هل شعرنا بحالهم وتألمنا لآلامهم؟! هل كنا معهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟! ما حالنا مع ربنا -عز وجل-؟! هل نقف مع حدوده فلا نتجاوزها أم أن هناك فئامًا من المسلمين والمسلمات انتهكوا الحرمات وفعلوا ما يغضب رب الأرض والسموات؟! كم الذين يتهاونون في أداء الجمعة والجماعات؟! كم الذين يظلمون الزوجات والبنات؟! كم الذين قطعوا الأرحام وعقوا الآباء والأمهات؟! كيف معاملاتنا مع الخدم والعمال؟! أهي مبنية على الرحمة أم على الظلم وبخس الحقوق؟!
ربما يكون غلاء الأسعار سببًا لأن يعود الناس إلى ربهم، فيفتح الله لهم أبواب الخير على مصراعيه، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
فإذا آمن الناس وعادوا إلى الله زالت عنهم الكروب وتلاشت عنهم الشدائد والمحن، فهل من عودة صادقة؟! ومتى استغفر الناس ربهم -عز وجل- زالت عنهم المحنة وانكشفت عنهم النقمة كما قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12].
وقد يبتلي الله تعالى العباد مع استغفارهم وعودتهم إلى الله باستمرار الحال على ما هي عليه ابتلاءً وتمحيصًا، يقول الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: (وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ).
عباد الله: عندما يقلّ الطعام في البلد يكثر عليه الطلب، ويزيد سعره، وتتاح لضعاف النفوس من التجار فرصة احتكاره والتحكّم في أسعاره، وَالْمُحْتَكِرُ آثم، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّ الاحْتِكَارِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيث: "مَنْ اِحْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالإِفْلاسِ". رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ وَإِسْنَاده حَسَن، وحديث: "مَنْ اِحْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّه وَبَرِئَ مِنْهُ". أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْحَاكِم وَفِي إِسْنَاده مَقَالٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا: "مَنْ اِحْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيد أَنْ يُغَالِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ". أَخْرَجَهُ الْحَاكِم.
معاشر التجار: أذكركم بحديث نبيكم: "من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع". رواه مسلم.
يا عباد الله: اقتصِدوا في مصروفات الشراء، ورشِّدوا استهلاك الغذاء، وحافظوا على النّعَم التي بين أيديكم، عظموا أمرها، واقدروا قدرها، وتذكّروا أن الأطعمة التي تشترونها اليوم بسعر غالٍ غدًا قد لا تجدونها لتشتروها.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية...