البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

غلاء الأسعار من منظور شرعي

العربية

المؤلف ناصر بن سعود القثامي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المعاملات
عناصر الخطبة
  1. كل شيء بقدر .
  2. مفاسد الغلاء .
  3. سدّ الشريعة الإسلامية لأبواب وأسباب الغلاء .
  4. آداب البيع والشراء .
  5. سبب الغلاء .
  6. التحذير من الإسراف والحث على القناعة .

اقتباس

وإن من الابتلاء: ظهور الغلاء وارتفاع الأسعار؛ لما له من آثار سيئة تلحق الفرد والمجتمع، فبسبب الغلاء يعجز الفقراء، ويقصر ذوو البذل والعطاء، ويتضرّر المساكين والضعفاء، بسبب الغلاء تظهر المشاكل الاجتماعية والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية، بسبب الغلاء ينشأ الشح والطمع والأثرة والأنانية وحب الذات ..

أما بعد: أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واحذروا الدنيا فالعمر فيها قصير والطائع فيها قرير، سرورها إلى حزن، واجتماعها إلى فرقة، وصحتها إلى سقم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].

عباد الله: إن ربكم سبحانه قدر المقادير، وقسم الأرزاق، وكتب الآجال، وجعل عباده متفاوتين في ذلك: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) [الأنعام:165]، وما في الكون من حركة ولا سكون إلا بمشيئته وإرادته، وما في الكون من كائن إلا بتقديره وإيجاده، والدنيا دار الابتلاء والامتحان، العوارض فيها كالحر والبرد والشتاء والصيف، لا بد لعبد من الابتلاء، والله يبتلي عباده بالسراء كما يبتليهم بالضراء: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].

وإن من الابتلاء: ظهور الغلاء وارتفاع الأسعار؛ لما له من آثار سيئة تلحق الفرد والمجتمع، فبسبب الغلاء يعجز الفقراء، ويقصر ذوو البذل والعطاء، ويتضرّر المساكين والضعفاء، بسبب الغلاء تظهر المشاكل الاجتماعية والضغوط النفسية والأزمات الاقتصادية، بسبب الغلاء ينشأ الشح والطمع والأثرة والأنانية وحب الذات.

وإن الشريعة الإسلامية أوصدت كل الطرق الموصلة لهذه الظاهرة المشينة والبارقة المخيفة والمتسببة في رفع الأسعار، فأولى الأبواب الموصدة تحريم التلاعب بالأسعار على أساس الجشع والطمع والإضرار بالناس، فعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقًّا على الله أن يقعده بعظم من النار". أخرجه أحمد.

عباد الله: إن التلاعب بالأسعار الذي يؤدي إلى الجور والظلم وعدم تحقيق العدل والمساواة لهو أمر منكر تأباه النفوس الأبية والضمائر الإنسانية، وفي الشريعة المحمدية: "لا ضرر ولا ضرار".

مما حذرت منه الشريعة الإسلامية الكسب المحرم؛ كالذي يقوم على الغبن والغرر والإضرار بالناس والمغالاة واستغلال حاجة المساكين وضرورة المضطرين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به".

مما أوصدته الشريعة مما قد يكون سببًا لغلاء الأسعار النجش، وهو رفع سعر السلعة أكثر مما تستحق ممن لا يريد شراءها ليخادع الناس بالمغالاة؛ ولذا جاء النهي عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يحقره". وجاء وعيد الناجش شديدًا على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الناجش آكل ربا خائن".

ومن الصور التي حرمتها الشريعة الإسلامية والتي قد تكون سببًا في رفع الأسعار: بيع الحاضر على البادي، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبع حاضر على بادً"، كما نهت الشريعة عن تلقي الركبان خارج الأسواق، فقد جاء في الحديث: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق". متفق عليه.

ومن الحكم في ذلك: عدم الإضرار بالمستهلك لكثرة الوساطة بينه وبين السلعة، ولكي لا يُؤتى بالسلعة إلى الأسواق فتباع بأكثر من ثمنها المستحَقّ.

ومما حرمته الشريعة الإسلامية أشدّ التحريم وتوعدت عليه بالعقوبة العظيمة: إنفاق السلعة بالحلف الكاذب؛ لأن الحلف الكاذب قد يكون سببًا في بيع السلعة بأكثر من ثمنها تغريرًا وتدليسًا وكتمًا وكذبًا على المشتري، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة"، ومن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة منفق سلعته بالحلف الكاذب.

ومما حرمته الشريعة الإسلامية مما قد يكون سببًا في رفع الأسعار الاحتكار، وهو حبس السلع عند حاجة الناس إليها لتشحّ من الأسواق فيغلو ثمنها، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحتكر إلا خاطئ". أخرجه مسلم.

عباد الله: إن الشريعة الإسلامية أولت التجارة والتجار عناية كبيرة، بينت لهم حدود التعامل وقوانين البيع والشراء، وأباحت لهم الربح الحلال، وجعلت طلب الربح الحلال والسعي في الأرض قرين الجهاد في سبيل الله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].

وفي المقابل حذّرت التجار من التعسف والجور والظلم والشطط واستغلال حاجات الناس، حذّرت التجار أصحاب الجشع والطمع والأثرة والأنانية والكذب والغش والخداع ورفع الأسعار على الناس بدواعٍ وهمية وصنائع مفتعلة وأعذار جوفاء وأقوال خرقاء، بلا وازع ولا رادع، منسلخين من الأخوة الإسلامية ومبادئ الرحمة الإنسانية، فجاء في الحديث عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر التجار: إنكم تبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى الله وبر وصدق". وهذا استثناء من الرحيم -عليه الصلاة والسلام- لأولئك التجار الذي يخافون الله، أهل الصدق والبر والإحسان، الرحماء بإخوانهم المسلمين الذين يأخذون كفايتهم دون جشع أو طمع؛ ولذا جاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء". رواه الترمذي.

عباد الله: إن قضية البيع والشراء قائمة على أساس العدل والصدق والوضوح التام، بعيدًا عن الغبن والغرر والاستغلال، تأملوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما". أخرجه مسلم.

وأمرت الشريعة بالتيسير والتسهيل وطلب الربح اليسير دون العنت والمشقة على الناس، بل جعلت هذا بابًا عظيمًا من أبواب الرحمة والإحسان، يأتي في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى". أخرجه البخاري.

عباد الله: إن الشريعة الإسلامية لم تحدد الأسعار إذا كان ارتفاعها بسبب تقلبات العرض والطلب وقلة السلعة وشحها؛ ولذلك لما غلت الأسعار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله: سعر لنا، قال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم أو مال". أخرجه أبو داود.

فاتقوا الله -أيها المسلمون- وراقبوه سبحانه فيما تأتون وتذرون، وتراحموا فيما بينكم؛ يتحقق لكم الخير والفضل والزيادة، فالرحماء يرحمهم من في السماء.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.

عباد الله: يتحدث الناس عن ظاهرة غلاء الأسعار، ويتخوّضون بإلقاء التهم يمنةً ويسرة، ويضعون الحلول والآراء، ويناقشون الأسباب والمسببات، وثمة سبب يتغافل عنه الناس، ألا وهو كسب الأيدي من الآثام والمعاصي، وفشوّ الذنوب والسيئات والتهاون في الفرائض والمكتوبات، أما علم الناس أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة؟! أما علم الناس قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]؟! أنسي الناس أو تناسوا قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]؟! أما علم الناس أن الذنوب والمعاصي ومخالفة أوامر الله والتعدي على حدوده سبب في ضيق المعايش ونقص الأرزاق؟! "إن الرجل ليحرم الرزق بسبب الذنب يصيبه". يقوله -صلى الله عليه وسلم-.

عباد الله: يجب على الناس الاقتصاد في المعايش وعدم الإسراف والتبذير في نعم الله -عز وجل-، فالإسراف سبب في حلول النقم وزوال النعم، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].

ماذا يحدث في موائدنا من الإسراف والتبذير؟! ماذا يحدث في أسواقنا ومن نسائنا من شراء الكماليات والتهالك على المصنوعات والتوافه والحقيرات؟! أهلكوا دنانيرهم ودراهمهم فيما يمكن الاستغناء عنه، فتبذير الأموال محرم، والعبد مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.

وعليكم -عباد الله- بالقناعة، اسألوا الله القناعة في الأرزاق والأقوات كما كان يفعل نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في دعائه بقوله: "اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه".

ومن أسباب القناعة: أن ينظر العبد لمن هو أسفل منه ولا ينظر إلى من هو فوقه: "فهو أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه". يقوله رسولكم -صلى الله عليه وسلم-.

عباد الله: اشكروا نعمة الله عليكم، فشكر النعم سبب في بقائها ودوامها: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]. ومن باب الشكر شكر الناس، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فشكرًا لبلاد الحرمين، وشكرًا لولي أمرها من مبادرات وقرارات تساهم في الحد من غلاء المعيشة ورفع مستوى دخل الفرد.

ادعوا الله -عباد الله- برفع الكرب والشدائد ودفع الغلاء والوباء والزلازل والمحن.

وصلوا وسلموا على الهادي البشير...