القوي
كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
أَلا وَإِنَّ هَذَا الجَامِعَ المُبَارَكَ الَّذِي نُصَلِّي في عِمَارَتِهِ الجَدِيدَةِ اليَومَ يُعَدُّ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى تَوَالي عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عَلَى عِمَارَةِ المَسَاجِدِ وَالاعتِنَاءِ بها، وَقَد أُسِّسَ هَذَا الجَامِعُ مُنذُ عَهدٍ بَعِيدٍ عَلَى أَيدِي الإِخوَانِ مِن رِجَالِ المَلِكِ عَبدِالعَزِيزِ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا- في بِدَايَاتِ هَذِهِ الدَّولَةِ المُبَارَكَةِ، لَمَّا تَرَكَ النَّاسُ البَادِيَةَ وَهَاجَرُوا إِلى القُرَى طَلَبًا لِلعِلمِ، وَحِرصًا عَلَى شُهُودِ الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّهَا خَيرُ زَادٍ وَعُدَّةٍ، وبها النَّجَاةُ مِن كُلِّ بَلاءٍ وَشِدَّةٍ، (وَمَا تَفعَلُوا مِن خَيرٍ يَعلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ) [البقرة:197]، (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُم يَحزَنُونَ) [الزمر:61].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: نِعَمُ اللهِ عَلَينَا كَثِيرَةٌ، لا نَستَطِيعُ لها إِحصَاءً وَإِنْ كُنَّا قَد نَبلُغُهَا عَدًّا، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَإِن تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18]، أَلا وَإِنَّ أَجَلَّ نِعَمِ المَولى عَلَينَا وَأَعظَمَهَا وَأَولاهَا بِالشُّكرِ مِنَّا وَوَافِرِ العِرفَانِ، أَن جَعَلَنَا مُسلِمِينَ هُدَاةً مُهتَدِينَ، وَاختَارَنَا بِفَضلِهِ لِدِينِهِ القَويمِ، وَخَتَمَ بِنَا السَّابِقِينَ في خَيرِ أُمَّةٍ هِيَ أُمَّةُ محمدٍ خَيرِ المُرسِلِينَ.
وَهُوَ -سُبحَانَهُ- الَّذِي يَهدِي مَن يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَن يَشَاءُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجعَلْ صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجعَلُ اللهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ) [الأنعام:125]، وَقَالَ -تَعَالى-: (مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِي وَمَن يُضلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) [الأعراف:178]، وَقَالَ -جَلَّ في عُلاهُ-: (مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِ وَمَن يُضلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا) [الكهف:17]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].
إِنَّهَا نِعمَةٌ إِلَهِيَّةٌ، ومِنحَةٌ رَبَّانِيَّةٌ خَالِصَةٌ، لا تُدرَكُ بِعَقلٍ وَلا نَسَبٍ، وَلا يَبلُغُهَا مَالٌ وَلا حَسَبٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحضُ فَضلٍ مِنَ اللهِ وَتَوفِيقٍ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- مُمتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ، وَلا سِيَّمَا العَرَبُ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنهُم لَمَّا يَلحَقُوا بِهِم وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الجمعة:2-4]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ) [القصص:56]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (لَقَد أَنزَلنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ) [النور:46].
وَمِن قَولِ أَهلِ الجَنَّةِ -جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِن أَهلِهَا- أَنَّهُم يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوهَا: (وَقَالُوا الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ) [الأعراف:43]، فَلِلهِ -تَعَالَى- الحَمدُ حَمدًا حَمدًا عَلَى مَا وَفَّقَنَا إِلَيهِ، وَلَهُ الشُّكرُ شُكرًا شُكرًا عَلَى أَن هَدَانَا وَيَسَّرَ الهُدَى لَنَا، وَنَسأَلُهُ المَزِيدَ مِن فَضلِهِ وَإِنعَامِهِ، وَدَوَامَ تَوفِيقِهِ وَحُسنَ خِتَامِهِ.
وَإِنَّهُ كَمَا فَاوَتَ -تَعَالَى- بَينَ النَّاسِ في التَّوفِيقِ لِلدِّينِ الحَقِّ وَالهِدَايَةِ لِلإِسلامِ، فَجَعَلَ هَؤُلاءِ مُؤمِنِينَ بِرَحمَتِهِ وَفَضلِهِ، وَأُولَئِكَ كُفَّارًا بِحِكمَتِهِ وَعَدلِهِ، فَقَد فَاوَتَ بَينَ المُؤمِنِينَ في مُستَوَى الإِيمَانِ قُوَّةً وَضَعفًا، وَجَعَلَهُم مُختَلِفِينَ فِيهِ زِيَادَةً وَنَقصًا، فَوَفَّقَ مِنهُم قَومًا يَهدِيهِم إِيمَانُهُم كَمَا يُهتَدَى بِالنُّورِ في الظُّلُمَاتِ، فَتَراهُم يَهَشُّونَ إِلى عَمَلِ الصَّالحاتِ، وَيُسَارِعُونَ في فِعلِ الخَيرَاتِ، وَيُسَابِقُونَ في سَبِيلِ الجَنَّات.
وَعَلِمَ -سُبْحَانَهُ- مِن آخَرِينَ أَنَّ نُفُوسَهُم لا تَقبَلُ الخَيرَ غَالِبًا، وَلا تَنبَعِثُ إِلَيهِ، وَقَد لا تَرفَعُ بِهِ رَأسًا، فَثَبَّطَهُم وَقِيلَ اقعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ، وَلَهُ - جَلَّ وَعَلا - في كُلِّ مَا يُقَدِّرُ الحِكمَةُ البَالِغَةُ، (فَسُبحَانَ اللهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ) [الأنبياء:22-23].
وَإِنَّهُ حِينَ يَأتي التَّرغِيبُ في عَمَلٍ صَالحٍ مَبرُورٍ، وَيُبَشِّرُ النَّبيُّ الكَرِيمُ عَلَيهِ بِأَعظَمِ الجَزَاءِ وَأَجزَلِ الأُجُورِ، وَيَعِدُ عَلَيهِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ أَوِ الفَوزِ بِشَيءٍ مِن نَعِيمِهَا، إِذْ ذَاكَ تَنبَعِثُ نُفُوسٌ مُطمَئِنَّةٌ، وَتَنشَرِحُ صُدُورٌ طَيِّبَةٌ، وَتُصَدِّقُ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ، وَيَأتي رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، رِجَالٌ ممَّن لَا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ، يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ.
رِجَالٌ قَدِ التَفَتُوا عَنِ الدُّنيَا الدَّنِيَّةِ، وَزَهِدُوا في زَخَارِفِهَا الفَانِيَةِ، وَتَعَلَّقُوا بِالآخِرَةِ العَلِيَّةِ، وَنَعِيمِهَا البَاقي، رِجَالٌ عَظُمَ بِاللهِ رَجَاؤُهُم، وَكَمُلَت بِخَالِقِهِم وَرَازِقِهِم ثِقَتُهُم، وَارتَفَعُوا عَمَّا يَخُوضُ فِيهِ أَهلُ الدُّنيَا وَيَتَطَلَّعُونَ إِلَيهِ بِأَموَالِهِم، مِنِ ابتِغَاءِ مَدحٍ، وَقَصدِ ثَنَاءٍ، وَقَصَدُوا إِلى مُصَاحَبَةِ الأَنبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
إِنَّهُم رِجَالٌ يَطلُبُونَ مَشرُوعَاتِ الخَيرِ وَأَعمَالَ البِرِّ، وَيَتَنَافَسُونَ في تَحصِيلِهَا كَمَا يَتَنَافَسُ المَفتُونُونَ عَلَى مَشرُوعَاتِ الدُّنيَا وَيَحتَدِمُونَ عِندَهَا.
أَلا وَإِنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ وَعِمَارَتَهَا وَالاعتِنَاءَ بها لَمِن أَجَلِّ الأَعمَالِ الَّتي يَبحَثُ عَنهَا الصَّالِحُونَ قَرِيبًا وَبَعِيدًا، وَيَطلُبُهَا المُؤمِنُونَ دَاخِلاً وَخَارِجًا، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ اللهَ امتَدَحَ أَهلَ عِمَارَةِ المَسَاجِدِ وَشَهِدَ لهم بِالإِيمَانِ، وَزَكَّاهُم، وَوَعَدَ بِهِدَايَتِهِم، حَيثُ قَالَ: (إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلم يَخشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهتَدِينَ) [التوبة:18].
وَهُوَ العَمَلُ الجَلِيلُ الَّذِي وَعَدَ عَلَيهِ الصَّادِقُ المَصدُوقُ بِالجَنّةِ حَيثُ قَالَ: "مَن بَنى للهِ مَسجِدًا بَنى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ" رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ، وَفي رِوَايَةٍ عِندَ أَحمَدَ وَغَيرِهِ وَصَحَّحَهَا الأَلبَانيُّ: "مَن بَنى للهِ مَسجِدًا، وَلَو كَمَفحَصِ قَطَاةٍ لِبَيضِهَا، بَنى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ".
وَمِن ثَمَّ فَقَد سَمَت هِمَمُ المُؤمِنِينَ في القَدِيمِ وَالحَدِيثِ إِلى بُلُوغِ هَذَا الشَّرَفِ العَظِيمِ، وَتَسَابَقُوا إِلى الصُّعُودِ في قِمَّتِهِ بِبِنَاءِ أَكبَرِ مَا يُمكِنُهُم مِن مَسَاجِدَ وَأَوسَعِهَا وَأَكمَلِهَا، وَحَرِصُوا عَلَى أَن يَنفَرِدُوا بِذَلِكَ كُلَّمَا استَطَاعُوا بِلا شَرِيكٍ يُشَارِكُهُم، مُتَحَمِّلِينَ في ذَلِكَ دَفعَ أَموَالٍ طَائِلَةٍ وَمَبَالِغَ كَبِيرَةٍ، قَد يَكُونُونَ جَمَعُوهَا في سَنَوَاتٍ، وَبَذَلُوا في جَمعِهَا جُهُودًا، كُلَّ ذَلِكَ لِيَكمُلَ أَجرُهُم، وَيَتِمَّ ثَوَابُهُم، فَإِن لم يُطِيقُوا سَاهَمُوا وَلَو بِالقَلِيلِ، لِعِلمِهِم أنَّهُم يُعَامِلُونَ رَبًّا كًرِيمًا وَاسِعًا عَطَاؤُهُ.
وَأَمَّا مَن لم يُوَفِّقْهُ اللهُ فَإِنَّ عُمُرَهُ يَمُرُّ وَتَذهَبُ مَرَاحِلُهُ وَهُوَ يُسَوِّفُ وَيُؤَجِّلُ وَيَتَبَاطَأُ، تَمُرُّ بِهِ مَشرُوعَاتُ الخَيرِ وَالبِرِّ وَاحِدًا تِلوَ الآخَرِ، وَتُبنى المَسَاجِدُ عَن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَلا يُفَكِّرُ وَلا حَتى بِالمُسَاهَمَةِ وَلَو بِأَقَلِّ مَا يَجِدُ.
أَلا وَإِنَّ هَذَا الجَامِعَ المُبَارَكَ الَّذِي نُصَلِّي في عِمَارَتِهِ الجَدِيدَةِ اليَومَ يُعَدُّ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى تَوَالي عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عَلَى عِمَارَةِ المَسَاجِدِ وَالاعتِنَاءِ بها، وَقَد أُسِّسَ هَذَا الجَامِعُ مُنذُ عَهدٍ بَعِيدٍ عَلَى أَيدِي الإِخوَانِ مِن رِجَالِ المَلِكِ عَبدِالعَزِيزِ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا- في بِدَايَاتِ هَذِهِ الدَّولَةِ المُبَارَكَةِ، لَمَّا تَرَكَ النَّاسُ البَادِيَةَ وَهَاجَرُوا إِلى القُرَى طَلَبًا لِلعِلمِ، وَحِرصًا عَلَى شُهُودِ الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ.
وَقَبلَ ثَلاثِينَ عَامًا أُعِيدَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَيدِي بَعضِ المُحسِنِينَ عَن طَرِيقِ أَمِيرِ البَلدَةِ جَزَاهُمُ اللهُ خَيرًا، ثم وَفَّقَ اللهُ أَخِيرًا رَجُلاً مُحسِنًا، فَأَعَادَ بِنَاءَهُ كَمَا تَرَونَ طَلَبًا لِمَا عِندَ اللهِ مِنَ الأَجرِ وَالثَّوَابِ، وَقَد كَانَ مِن تَقدِيرِ اللهِ أَن قَبَضَ رُوحَ ذَلِكَ المُحسِنَ وَهُوَ عَلَى وَشَكِ أَن يَكتَمِلَ، فَأَكمَلَ أَبنَاؤُهُ مَا تَبَقَّى، فَجَعَلَ اللهُ هَذَا العَمَلَ الجَلِيلَ وَالتَّبَرُّعَ الجَزِيلَ، في مِيزَانِ حَسَنَاتِ مَنِ ابتَدَأَهُ وَمَن أَكمَلَهُ، اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بَهِ مَوَازِينَ صَاحِبِهِ، وَوَسِّعْ عَلَيهِ بِهِ في قَبرِهِ، وَعَوِّضْهُ خَيرًا مِنهُ في الجَنَّةِ بَيتًا أَفسَحَ مِنهُ وَأَوسَعَ يَا وَاسِعَ المَنِّ وَالعَطَاءِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ) [المنافقون:9-11].
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ عِمَارَةَ المَسَاجِدِ فَضلٌ لا يُؤتِيهِ اللهُ إِلاَّ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلا يُوَفِّقُ إِلَيهِ إِلاَّ الصَّالِحِينَ المُصلِحِينَ، وَأَيُّ فَضلٍ أَعظَمُ وَأَيُّ جَزَاءٍ أَكبَرُ مِن أَن يُوَفِّقَكَ اللهُ فَتَبنيَ لَهُ بَيتًا تُقَامُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الخَمسُ، وَتُشهَدُ فِيهِ الجُمُعَةُ وَالجَمَاعَةُ، وَيُؤَذَّنُ فِيهِ كُلَّ يَومٍ مِرَارًا بِشَهَادَةِ الحَقِّ وَتَعظِيمِ الرَّبِّ، وَيُدعَى إِلى الصَّلاةِ وَالفَلاحِ؟.
وَلَكَ أَن تُفَكِّرَ طَوِيلاً وَتَتَأَمَّلَ: كَم في هَذَا المَسجِدِ مِن رَاكِعٍ للهِ وَدَاعٍ وَسَاجِدٍ! وَكَم مِن مُستَغفِرٍ وَمُسَبِّحٍ وَمُكَبِّرٍ وَحَامِدٍ! وَكَم مِن تَالٍ لِكِتَابِ اللهِ في أَروِقَتِهِ! وَكَم مِن مُتَعَلِّمٍ لِلقُرآنِ في حَلَقَاتِهِ! وَكَم مِن مُستَمِعٍ لِخُطبَةٍ أَو كَلِمَةٍ أَو مَوعِظَةٍ! وَكَم مِن مُتَعَلِّمٍ فِيهِ حُكمًا شَرعِيًّا مِن أَحكَامِ عِبَادَاتِهِ أَو مُعَامَلاتِهِ! وَكَم مِن مُعتَكِفٍ للهِ بَينَ جُدرَانِهِ! وَكَم مِن وَليٍّ للهِ وَتَقِيٍّ سَيَمُرُّ بِهِ وَيُصَلِّي فِيهِ، فَيَدعُو لِمَن أَقَامَهُ وَعَمَرَهُ! وَاللهُ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ مُحِيطٌ عِلمُهُ بِكُلِّ شَيءٍ وَلا تَخفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ، وَلا يَغِيبُ عَنهُ ظَاهِرُ عَمَلٍ وَلا بَاطِنُهُ، وَلا صَغِيرٌ مِنهُ وَلا كَبِيرٌ، وَهُوَ لا يُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً.
إِنَّ عَامِرِي مَسَاجِدِ اللهِ يُعَدُّونَ مِنَ المُصلِحِينَ في الأَرضِ، الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ بِأَفعَالِهِم، الَّذِينَ يَضرِبُونَ لِغَيرِهِم مَنَارًا يُقتَدَى بِهِ في الخَيرِ، فَتُضَاعَفُ لهمُ الأُجُورُ بِدَلالَتِهِم عَلَى الخَيرِ، وَ"الدَّالُّ عَلَى الخَيرِ كَفَاعِلِهِ"، وَ"مَن دَعَا إِلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجرِ مِثلُ أُجرِ مَن اتَّبَعَهُ لم يَنتَقِصْ مِن أُجُورِهِم شَيئًا".
فَهَنِيئًا لِمَن وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ فَعَمَرَ مَسجِدًا كَامِلاً! وَيَا لَعِظَمِ مَن لم يَجِدْ إِلاَّ قَلِيلاً فَبَذَلَهُ مُسَاهِمًا وَنَفسُهُ تُحِبُّهُ! فَتَقَبَّلَهُ اللهُ مِنهُ، وَقَد قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "سَبَقَ دِرهَمٌ مِئَةَ أَلفِ دِرهَمٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: وَكَيفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِن عُرضِهِ مِئَةَ أَلفِ دِرهَمٍ تَصَدَّقَ بها، وَرَجُلٌ لَيسَ لَهُ إِلاَّ دِرهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ" رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.