التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الأديان والفرق |
حديثنا اليوم عن سورة التوبة، السورة التاسعة في ترتيب المصحف الشريف، وهذه السورة الكريمة من السورة المدنية، التي تعني بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن آخر سورة نزلت سورة براءة ..
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، قال له ربه: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [129]، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان الذين قال الله فيهم (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ -رضي الله عنه-مْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [100].
فيا أيها المسلمون: حديثنا اليوم عن سورة التوبة، السورة التاسعة في ترتيب المصحف الشريف، وهذه السورة الكريمة من السورة المدنية، التي تعني بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن آخر سورة نزلت سورة براءة.
ورُوي أن أولها نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السنة التاسعة من الهجرة وهي السنة التي خرج فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية بغزوة تبوك، وكانت في حر شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخذ الناس إلى نعيم الحياة، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين، وامتحاناً لصدقهم وإخلاصهم لدين الله -عز وجل-، وتمييزاً بينهم وبين المنافقين.
ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان إلى جانب الأحكام الأخرى هما:
أولا: بيان الحكم الإسلامي في معاملة المشركين وأهل الكتاب.
ثانيا: إظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لغزو الروم.
أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حداً، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين؛ وقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب من اليهود عهود أيضاً، ولكن المشركين نقضوا العهود، وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين.
وخانت طوائف اليهود (بنو النضير ) (وبنو قينقاع) ما عاهدوا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة؛ لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة.
وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم.
وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة: (بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [1]، أي: هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر لإلقاء عهودهم إليهم، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك في السنة التاسعة من الهجرة، ثم أتبعه عليا ليعلِّم الناس بالبراءة.
فقام عليٌّ فنادى في الناس بأربع: ألا يقرب البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطفو بالبيت عريان، وأن لا يدخل مكة إلا مسلم، ومن كان بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين ورسوله، (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [2].
ثم تلتها الآيات في الأمر بقتال المنافقين الناقضين للعهود من أهل الكتاب: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [29]، وقد تناولهم الحديث بما يقرب من عشرين آية كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر وحقد على الإسلام والمسلمين.
وعرضت السورة الكريمة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار شدة خطرهم الداهم على الإِسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم سراً من أسرارهم إِلا هتكته، ولا دخيلة إِلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإِيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين.
وقد استغرق الحديث عنهم معظم السورة بدءاً عن قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [42]، ولهذا سماها بعض الصحابة: "الفاضحة" لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم، حتى خفنا ألا تدع منهم أحداً.
وروي عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: إِنكم تسمونها سورة التوبة، وإِنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً من المنافقين إِلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها، أي في أولها، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: سألت علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: لِم لمْ يُكتب في براءة: [بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ]؟ قال: لأن [بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ] أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة، إِنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
وبالجملة فإِن هذه السورة الكريمة قد تناولت المندسين بين صفوف المسلمين، المنافقين، الذين يُظهِرون خلاف ما يبطنون، والذين هم أشدُّ خطَراً من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تُبق منهم ديَّاراً.
فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإِسلام والمسلمين أن يتخذوا بيوت الله أوكاراً للتخريب والتدمير، وإِلقاء الفتنة بين المسلمين في مسجدهم الذي عرف باسم "مسجد الضرار"، وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [107]، أي: ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإجرام حتى ابتنوا مجمعاً يديرون فيه الشر، وسموه مسجداً، مضارة للمؤمنين، ونصرة للكفر الذي يخفونه ويفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفهم عن مسجد قباء.
وترقباً وانتظاراً لأبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم! وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له، وليقسمن ما أردنا ببنائه إلا الخير والإحسان من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين، والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف.
ثم نهى الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في مسجد الضرار فقال: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [108]، أي: لا تُصَلِّ فيه يا محمد أبداً؛ لأنه لم يُبْنَ إلا ليكون معقلاً لأهل النفاق، لَمَسْجِدُ قباء الذي بُني على تقوى الله وطاعته من أول يوم ابتدأ فيه بناؤه أولى وأجدر أن تصلي فيه من مسجد الضرار، حيث في هذا المسجد رجال أتقياء، وهم الأنصار، يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي، والله يحب المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة.
ثم أشار الله تعالى إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [109]، أي: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوفٍ من الله، وطلبٍ لمرضاته بالطاعة، خيرٌ أم هذا الذي أسَّس بنيانه على طرف وادٍ مُتَصَدِّعٍ مشرف على السقوط فسقط به البناء في نار جهنم؟ والله سبحانه لا يوفق الظالمين إلى السداد، ولا يهديهم إلى سبيل الرشاد.
ثم قال الله تعالى (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [110]، أي: لا في قلوب أهل مسجد الضرار شك ونفاق، وغيظ وارتياب بسبب هدمه وحرقه، وأمر بإلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه؛ إهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم، إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا، والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إياهم، ومجازاتهم بسوء نياتهم.
ولم يكد النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه فاهدموه، وحرِّقوه"، فهدموه، وكفى الله الإسلام والمسلمين شرَّهُم وكيدهم وخبثهم، وفَضَحَهم إلى يوم الدين؛ وأسأل الله أن يجمعنا بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله -عز وجل- فيهم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [100].
عباد الله: هذه لمحة عن سورة التوبة، نفعنا الله بما جاء فيها، وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين؛ وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [18].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اشترى من المؤمنين أغلى شيء لديهم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [111].
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، نصَره الله فقال: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [40].
اللهم صَلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، الذين مِن صفاتهم قول الله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [41].
عباد الله: عندما يتحدث خطيب عن سورة التوبة فإنه لا يدري ماذا يختص منها، فكل آية منها -كغيرها من سور كتاب الله- آية عظيمة تتلى في كتاب الله، ولا يمكن أن نقول هذه أَوْلى من هذه؛ ولكن خشية الإطالة سنختار ما أمكننا من إيضاح بعض الآيات، سائلاً الله -عز وجل- لي ولكم الفائدة إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وسورة التوبة لها أسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إلى أربعة عشر اسماً، قال العلامة الزمخشري: لهذه السورة عدة أسماء: براءة والتوبة والمقشقشة والمبعثرة والمشردة والمخزية والفاضحة والمثيرة والحافرة والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب. قال: إن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم.
وسأتناول الآيات التي ورد فيها التوبة على المؤمنين لأنه أشهر أسمائها بشيء من الإيضاح، قال تعالى (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [117]، أي: تاب الله على النبي من إذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك حيث تباطأ البعض منهم وتثاقل عن الجهاد آخرون.
والمراد: التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدَّرَها بتوبته على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويها لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج للتوبة والاستغفار، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من المهاجرين الذين اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد.
روى الطبري عن عمر -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع، حتى إن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه.
فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا. قال: "تحب ذلك؟" قال: نعم. فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء، فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر من بعد ما كادت قلوب بعض المسلمين تميل عن الحق وترتاب لما نالهم من المشقة والشدة، ثم وفقهم الله للثبات على الحق وتاب عليهم لمـــَّا ندموا، إنه لطيف رحيم بالمؤمنين.
(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [118]، أي: وتاب الله كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار، أي: أخرت قبول توبتهم (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي: ضاقت عليهم من سعتها، (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي: ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجَرَتهم نساؤهم، وأهلوهم أهملوهم حتى تاب الله عليهم.
(وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي: وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله وعذابه إلا بالرجوع والإنابة إليه سبحانه، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: رجع عليهم بالقبول والرحمة ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [118]، أي: المبالغ في قبول التوبة وإن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة.
ثم قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [119]، أي: راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين الذين صدقوا في الدين نية وقولا وعملا.
عباد الله: ما أوضحناه لكم من معانٍ لبعض آيات سورة التوبة وتفسيرها ما هو إلا قليل من كثير، ولكن أسأل الله لي ولكم التوفيق بقراءتها وتفهم معانيها وتدبرها، والعمل بما فيها من أوامر الله -عز وجل-، والانتهاء عما نهانا الله عنه.
وفي كل سور كتاب الله الخير كل الخير للمسلمين، وأسأل الله -عز وجل- حسن القول والعمل، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.