البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الحياة الآخرة |
والأعراف جمع عرف، وهو في اللغة: المكان المرتفع. وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين أهلها. روى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوَتْ حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة، وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم ..
الحمد لله القائل (المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين) [الأعراف:1-2].
أحمده سبحانه وأشكره، أمَرَنا فقال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال سبحانه: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [4].
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، أمره الله سبحانه فقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [199]، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، سورة الأعراف هي إحدى السور الطوال، وهي من أطول السور المكية، وآياتها ست ومائتان، وترتيبها في المصحف الشريف السابعة، وهي أو سورة عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء، ومهمتها كمهمة سائر السور المكية تقرير أصول الدعوة الإسلامية من توحيد الله -جل وعلا- وتقرير البعث والجزاء وتقرير الوحي والرسالة.
تعرضت السورة الكريمة في بدء آياتها للقرآن العظيم المعجزة الخالدة المنزلة على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقررت أن هذا القرآن نعمة من الرحمن على الإنسانية جمعاء، فعليهم أن يتمسكوا بتوجيهاته وإرشاداته ليفوزوا بسعادة الدارين.
وقبل ختم السورة يأمر الله -عز وجل-رسوله -صلى الله عليه وسلم- عندما اقترح عليه المشركون أن يأتيهم بمعجزة غير القرآن أن يرد عليهم بأنِّي لم أختلق شيئاً من عندي، وإنما أمتثل ما يوحيه الله إلي، وأن القرآن الجليل حجج بينة وبراهين نيرة يغني عن غيره من المعجزات، وأنه هداية ورحمة للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون من أحكامه.
قال تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا) أي هلا اختلقتها واخترعتها (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [203]، ويأمر الله بعد ذلك بالتأدب مع كتاب الله، والاستماع إلى آياته إذا تليت: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [204]، أي: تفوزوا برحمة الله -عز وجل-.
ولفتت السورة الكريمة الأنظار إلى نعمة خلقهم من أب واحد، وإلى تكريم الله لهذا النوع الإنساني ممثلاً في أب البشر آدم -عليه السلام- الذي أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود له، ثم حذرت الناس من كيد الشيطان لهم، ذلك العدو المتربص الذي قعد على طريق الناس ليصدهم عن الهدى، ويبعدهم عن خالقهم الله -عز وجل-.
وفي أول السورة ذكر الله تعالى قصة آدم مع إبليس وخروجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض، كنموذج للصراع بين الخير والشر والحق والباطل، وبيان لكيد إبليس لآدم وذريته، ولهذا وجَّه الله تعالى إلى بني آدم النداء بعد أن بين لهم عداوة إبليس لأبيهم، وذلك بأربعة نداءات متتالية بوصف البنوة لآدم: (يَا بَنِي آَدَمَ) وهو نداء خاص لهذه السورة يحذرهم بها من عدوهم الذي نشأ على عداوتهم من قديم الزمن حين وسوس لأبيهم آدم حتى أوقعه في الزلة والمخالفة لأمر الله. (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [27].
كما تعرضت السورة الكريمة لمشهد من المشاهد الواقعة يوم القيامة، مشهد الفرق الثلاث وما يدور بينهم من محاورة ومناظرة: فرقة المؤمنين أصحاب الجنة، وفرقة الكافرين أصحاب النار، وفرقة ثالثة لم يتحدث عنها القرآن إلا في هذه السورة وهي الفرقة التي سميت بأصحاب الأعراف، وسميت باسمها السورة (سورة الأعراف).
والأعراف جمع عرف، وهو في اللغة: المكان المرتفع. وهو سور مضروب بين الجنة والنار يحول بين أهلها. روى ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم استوَتْ حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن دخول الجنة، وتخلفت بهم حسناتهم عن دخول النار، فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.
مشهد سوف يشهده العالم يوم البعث والجزاء على الحقيقة دون تمثيل ولا تخييل، تبين ما يكون فيه من شماتة أهل الحق (أصحاب الجنة) وموقف أصحاب النار، وينطلق صوت علوي مسجلاً عليهم اللعنة، وهي الطرد والحرمان من رحمة الله، وقد ضرب بين الفريقين بحجاب، ووقف عليه رجال يعرفون كلا بسيماهم، يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ونظرتها، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وقترتها.
قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [44-51].
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف مَن هم؟ ولكن سنقتصر على ترجيح أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، ومن أراد معرفة اختلاف العلماء فعليه الرجوع إلى كتب التفسير وتفسيراتها.
ولنا وقفة مع قوله تعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [55]، أي ادعوا الله تذللا وسراً بخشوع وخضوع، فإنه لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت، وفي الحديث: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا".
وقال تعالى (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [56]، أي: لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثه المرسلين، وادعوا الله خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته، إن رحمته تعالى قريبة من المطيعين الذين يمتثلون أوامره، ويتركون زواجره.
وتناولت السورة قصص الأنبياء بإسهاب: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، عليهم السلام جميعاً، وقد ابتدأت بشيخ الأنبياء نوح -عليه السلام- وما لاقاه من قومه من جحود وعناد، وتكذيب وإعراض، وتابعت قصص بقية الأنبياء الذي ذكرنا عدا موسى -عليه السلام- وما حل بأقوامهم من عقاب الله.
ثم أعقب الله -عز وجل- بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) [96-102].
وقد استغرقت قصص هؤلاء الأنبياء من السورة من الآية (59 إلى 102)، ثم تحدثت السورة بالتفصيل عن قصة موسى كليم الله -عليه السلام- مع فرعون الطاغية، وتحدثت عما نال بني إسرائيل من بلاء وشدة حتى أهلك الله -سبحانه وتعالى- فرعون وقومه بالغرق، ثم ما منَّ الله سبحانه عليهم به من أمن ورخاء، وكيف لما بدلوا نعمة الله وخالفوا أمره عاقبهم الله بالمسخ إلى قردة وخنازير، وكان ذلك في الآيات من (103 إلى 166).
قال تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [166]، أي فلما استعصوا وتكبروا أي بني إسرائيل عن ترك ما نهوا عنه مسخهم الله قردة وخنازير، ثم قال الله بعد ذلك: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [167]، أي: واذكر يا محمد حين أعلمك ربك لَيُسَلِّطَنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله، واحتيالهم على المحارم.
ثم قال الله تعالى (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [168]، أي فرقناهم في البلاد طوائف وفرقاً، ومنهم من آمن -وهم قلة- ومنهم من انحط على درجة التصريح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة، واختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) أي خلف من بعد الصالحين والطالحين خلف أخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب عن آبائهم يأخذون ذلك الدنئ من حطام الدنيا من حلال وحرام ويقولون متبجحين (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) أي سيغفر لنا الله وهذا اغترار منهم وكذب (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه ولا يبالون من حلال كان أم حرام وقال الله تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [169-170].
عباد الله: هذه لمحة عن معاني آيات متفرقة من سورة الأعراف، وسنكمل -إن شاء الله- في الخطبة الثانية، أسأل الله أن يبارك لي ولكم فيها وفي القرآن العظيم، وأن يهدينا لهدي خاتم المرسلين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [205].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.
عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة الأعراف وبالله التوفيق إن السورة تناولت المثل المخزي لعلماء السوء، وصوَّرتهم بأشنع وأقبح ما يمكن للخيال أن يتصوره، صورة الكلب اللاهث الذي لا يكف عن اللهث، ولا ينفك عن التمرغ في الطين والأوحال.
قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [175]، أي واتل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض الكتاب فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها، بأن كفر بها وأعرض عنها، فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان من المهتدين.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو بلعم بن باعوراء، كان عنده اسم الله الأعظم. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى على ملك (مدين) داعياً إلى الله، فرشاه الملك وأعطاه على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك.
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [176]، أي: لو شئنا لرفعناه إلى منزلة العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه، فانحط أسفل سافلين.
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب، إن طردتَّه وزجرته سعى ولهث، وإن تركته على حاله لهث، (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [176]، أي: هذا المثل السيئ هو مثل لكل من كذب بآيات الله تعالى، وفيه تعريض باليهود، فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة، فاقصص يا محمد على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون ما فيها ويتعظون.
عباد الله: إن مما أمرنا الله به في هذه السورة أخذ الزينة والتجمل في المناسبات، وعند إرادة الصلاة والطواف، والتوسط وعدم الإسراف، قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [31]، أي لا تسرفوا في الزينة، ولا في الأكل والشرب بما يضر النفس والمال؛ فإنه سبحانه لا يحب المعتدين على حدود الله فيما أحل وحرم.
قال الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [32-33].
ومما استوقفني في هذه السورة قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [40]، أي: كذبوا بآيات الله مع وضوحها، لا يصعد لهم عمل صالح؛ وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا يرفع لهم عمل صالح ولا دعاء. ولا يدخلون يوم القيامة الجنة حتى يدخل الجمل من ثقب الإبرة! وهذا تمثيل لاستحالة دخول الكفار الجنة لاستحالة دخول الجمل على ضخامته في ثقب الإبرة على صغره ودقته.
ومثل ذلك الجزاء الفظيع يجزي الله سبحانه أهل العصيان والإجرام (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [41]، أي: لهم فراش من النار من تحتهم، ومن فوقهم أغطية من النار، ومثل ذلك الجزاء الشديد يجزي الله من ظلم وتعدي حدود الله.
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [42]، أي: هؤلاء المؤمنون السعداء هم المستحقون للخلود الأبدي في جنات النعيم، لا يخرجون منها أبداً.
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) [43]، أي: طهرنا قلوبهم من الحسد والبغضاء حتى لا يكون بينهم إلا المحبة والتعاطف، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [43]، أي: وفقنا لتحصيل هذا النعيم العظيم، ولولا هداية الله تعالى وتوفيقه لما وصلنا إلى هذه السعادة، (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [43]، أي: والله لقد صدقنا الرسل فيما أخبرونا به عن الله -عز وجل-، وتناديهم الملائكة أن هذه الجنة أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا.
وقد ختمت السورة الكريمة (سورة الأعراف) بإثبات التوحيد لله -عز وجل-، والتهكم بمـــَن عبدوا ما لا يضر ولا ينفع، ولا يبصر ولا يسمع، من أحجارِ أصنامٍ اتخذوها شركاء مع الله، وهو -جل وعلا- الذي خلقهم وصوَّرهم ويعلم مُتَقَلَّبَهُم ومثواهم.
وهكذا ختمت السورة الكريمة بالتوحيد كما بدأت بالتوحيد، فكانت الدعوة إلى الإيمان بوحدانية الله المعبود في البدء والختام، قال الله تعالى: (قل يا محمد) (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [196-197].
وفي آخر آية من السورة يذكر الله سبحانه حال الملائكة الأطهار: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [206]، فهم لا يستكبرون عن عبادة الله دائماً، ويسبحونه دائماً، ويسجدون له لا لغيره، أسأل الله أن يرزقنا عبادته وتوحيده، وأن لا نستكبر عن ذلك، وأن نكون من المسبحين لله، والساجدين له وحده لا شريك له، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.