الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - كتاب الجهاد |
نزلت هذه السورة الكريمة في أعقاب "غزوة بدر" التي كانت في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة والتي كانت فاتحة الغزوات في تاريخ الإِسلام المجيد، وبداية لنصر الله -عز وجل- لجند الرحمن، حتى سماها بعض الصحابة "سورة بدر"؛ لأنها تناولت أحداث هذه الموقعة بإِسهاب، ورسمت الخطة التفصيلية للقتال، وبيّنت ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من البطولة والشهامة ..
الحمد لله القائل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:1-4].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: في هذه المقدمة أشرنا إلى آيات من سورة الأنفال التي ستكون موضوعنا هذا اليوم إن شاء الله، وسورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها خمس وسبعون آية، وهي سورة مدنية.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نزلت في بدر. وفي لفظ تلك سورة "بدر". وقد عنيت بجانب التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بالغزوات والجهاد في سبيل الله، فقد عالجت بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب الغزوات، وتضمنت كثيراً من التشريعات الحربية، والإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم لأعداء الله، وتناولت جانب السلم والحرب، وأحكام الأسْر والغنائم.
نزلت هذه السورة الكريمة في أعقاب "غزوة بدر" التي كانت في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة والتي كانت فاتحة الغزوات في تاريخ الإِسلام المجيد، وبداية لنصر الله -عز وجل- لجند الرحمن، حتى سماها بعض الصحابة "سورة بدر"؛ لأنها تناولت أحداث هذه الموقعة بإِسهاب، ورسمت الخطة التفصيلية للقتال، وبيّنت ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من البطولة والشهامة، والوقوف في وجه الباطل بكل شجاعة وجرأة وحزم وصمود.
وقد كانت غزوة بدر هي الجولة الأولى من جولات الحق مع الباطل، ورد البغي والطغيان، وإِنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين قعد بهم الضعف في مكة، وأخذوا في الضراعة إِلى الله ليُخرجهم من القرية الظالم أهلها.
وقد استجاب الله لضراعتهم فهيأ لهم ظروف تلك الغزوة، التي تمَّ فيها النصر للمؤمنين على قلة في عددهم، وضعف في عدتهم، وعلى عدم تهيؤهم للقتال، وعرف أنصار الباطل أنه مهما طال أمده، وقويت شوكته، وامتد سلطانه، فلا بدَّ له من يوم يخرّ فيه صريعاً أمام ظهور الحق وقوة الإِيمان، وهكذا كانت غزوة بدر نصراً مؤزراً للمؤمنين، وهزيمة ساحقة للمشركين.
وفي ثنايا سرد أحداث بدر جاءت النداءات الإِلهية للمؤمنين ست مرات بوصف الإِيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) [15، 20، 24، 27، 29، 45]، كحافز لهم على الصبر والثبات في مجاهدتهم لأعداء الله، وكتذكير لهم بأن هذه التكاليف التي أُمروا بها من مقتضيات الإِيمان الذي تحلوا به، وأن النصر الذي حازوا عليه كان بسبب الإِيمان لا بكثرة السلاح والرجال.
أما النداء الأول: فقد جاء فيه التحذير من الفرار في المعركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ) [15-18]، وقد توعدت الآيات المنهزمين أمام الأعداء بأشد العذاب.
وأما النداء الثاني: فقد جاء فيه الأمر بالسمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [20-23]، وقد شبهت الآيات الكافرين بالأنعام السارحة التي لا تسمع ولا تعي ولا تستجيب لدعوة الحق.
وأما النداء الثالث: فقد بيّن فيه أن ما يدعوهم إِليه الرسول فيه حياتهم وعزتهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [24]، أي: أجيبوا رسول الله إذا دعاكم للإيمان الذي تحيا به النفوس وبه تحيون الحياة الأبدية.
قال قتادة: هو القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة، واعلموا أن الله تعالى المتصرف في جميع الأشياء يصرِّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها؛ فيقوي عزائمه، ويغير مقاصده، ويلهمه رشده، أو يزيغ قلبه عن الصراط السوي.
وفي الحديث: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [25]، أي: احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره، واحذروا فتنة إن نزلت بكم، لم تقتصر على الظالم خاصة، بل تعم الجميع وتصل إلى الصالح والطالح؛ لأن الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه، وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك الله أن يعمهم بعذاب من عنده" رواه البخاري.
أما النداء الرابع: فقد نبههم فيه إلى أنَّ إفشاء سر الأمَّةِ للأعداء خيانةٌ للهِ ولرسوله، وخيانة للأمة أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [27]، أي: لا تخونوا دينكم ورسولكم بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين وما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: خيانة الله سبحانه بترك فرائضه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- بترك سنته، وارتكاب المعصية، والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، أي: محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده.
وأما النداء الخامس: فقد لفت نظرهم فيه إِلى ثمرة ذكرهم بأنه أساس الخير كله، وأن من أعظم ثمرات التقوى ذلك النور الرباني، الذي يقذفه الله في قلب المؤمن، وبه يفرق بين الرشد والغيّ، والهدى والضلال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [29].
أما النداء السادس: وهو النداء الأخير في السورة للمؤمنين فقد وضّح لهم فيه طريق العزة، وأُسس النصر، وذلك بالثبات أمام الأعداء، والصبر عند اللقاء، واستحضار عظمة الله التي لا تُحَد، وقوته التي لا تقهر، والاعتصام بالمدد الروحي الذي يعينهم على الثبات، ألا وهو ذكر الله ذكراً كثيراً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [45-46]، أي: ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عند لقاء عدوكم، وتذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور، واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها، فإن الله مع الصابرين بالنصر والعون.
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [47]، أي: لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عُتُوَّا وتكبرا للفخر والثناء، ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام.
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [48]، أي: حسَّن الشيطان لهم أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام وخروجهم لحرب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقال لهم لن يغلبكم محمد وأصحابه وإني مجير لكم ومُعين، فلما تلاقى الفريقان وَلَّى الشيطانُ هاربا مولياً الأدبار وقال إني برئ من عهدكم وجواركم، إني أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك، إني أخاف الله أن يعذبني بشدة عقابه.
عباد الله: هذه لمحة مختصرة عن سورة الأنفال، وفي الخطبة الثانية سنوضح -ما أمكننا- عنها، وأسأل الله أن ينفعنا بها، وبهدي كتابه الكريم، وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم-، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.
عباد الله: استكمالاً للحديث عن سورة الأنفال فإننا نقول وبالله التوفيق الأنفال: الغنائم، جمع نَفل بالفتح، وهي الزيادة، وسميت الغنائم بها لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان، وتسمى صلاة التطوع نقلاً، وولد الولد نافلة.
والحكم فيها لله سبحانه وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [41].
قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطي الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين، سهم من الخمس يُعطَي للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولقرابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم بنو هاشم وبنو المطلب، ولليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة، والمنقطع في سفره من المسلمين، فهذا حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته، وبما أنزل الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل يوم جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والله قادر لا يعجزه شيء من نصر المؤمنين، على قلتهم وكثرة أعدائهم.
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا) [42]، هذا تصوير للمعرك،: أي: وقت كنتم -يا معشر المؤمنين- بجانب الوادي القريب من المدينة، (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى) أي: أعداؤكم بجانب الوادي الأبعد عن المدينة (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي: والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم مما يلي ساحل البحر، (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) أي: ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم، ولكن الله بحكمته يسَّر وتمـــَّم ذلك (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، فكان أمراً محققا واقعا لا محالة، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [42]، أي فعل ذلك الله تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان، ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) [43]، أي: اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم، وتشجعوا على حربهم، (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ) أي: ولو أراك ربك عدوك أنهم كثير لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي: ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم، (وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [43] أي: ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع، وهو عليم بما في القلوب، يعلم ما يغيرها من الشجاعة والجبن والصبر والجزع.
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ) [44] هذه الرؤى باليقظة لا بالمنام، أي: واذكروا -يا معشر المؤمنين- حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم؛ لتزداد جرأتكم، وقللكم في أعينهم؛ حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم، بمعنى أن يقولوا: هؤلاء قلة سنغلبهم. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ الطبري.
وهذا قبل التحام الحرب، فلما التحم القتال كثَّر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهِتُوا وهابُوا، ورأَوا ما لم يكن في الحسبان، (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي: فعل ذلك فجرأ المؤمنين على الكافرين والكافرين على المؤمنين؛ لتقع الحرب، ويلتحم القتال، وينصر الله جنده، ويهزم الباطل وحزبه، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي: مصير الأمور كلها إلى الله يصرفها كيف يريد.
وتمضي السورة في إيضاح أمر الجهاد، ومن ذلك قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [60]، حيث أمرنا الله سبحانه بإعداد القوة لقتال الأعداء.
وقد جاء التعبير عاماً (من قوة) ليشمل القوة المادية والقوة الروحية وجميع أسباب القوة، وإعداد العدة لإرهاب الأعداء، ثم أباح الله سبحانه وتعالى السلم، وأمر به، بشرط العزة والكرامة للمسلمين متى وجد السبيل إليه؛ لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان، ونصرة دين الله، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان.
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [61]، أما إذا أراد الأعداء بالصلح الخيانة والخداع ليستعدوا لك، فقد قال الله تعالى فيه: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [62]، أي: قوَّاك وأعانك بنصره، وشد أزرك بالمؤمنين.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يعني الأنصار. قال تعالى (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي: جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً، (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي: لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضهم بعضاً، (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [62]، أي: ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم، ووفَّق بعزته وحكمته.
ثم تناولت السورة الكريمة حُكم الأسرى، وبيان الولاية الكاملة بين المؤمنين، وأنه مهما تناءت ديارهم واختلفت أجناسهم فهم أمة واحدة، وعليهم نصر الذين يستنصرونهم في الدين، كما أن ملة الكفر أيضاً واحدة، وبين الكافرين ولاية قائمة على أسس البغي والضلال، وأنه لا ولاية بين المؤمنين والكافرين: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [73-75].
عباد الله: هذه معاني بعض آيات سورة الأنفال، وأشرنا إلى بعض أهدافها، وما أرشدت إليه من دروس وعبر، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الفهم، والصبر، والعمل بكتاب الله الكريم، وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنه قريب مجيب الدعاء.
وصَلُّوا وسلِّمُوا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.