البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد بديع موسى |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن المؤمنَ يعمل صالحًا، ويبذُل جُهده في هذه الحياة؛ أن يستقيم على طاعة الله ومنهجه، ويجعل نُصبَ عينيه خاتمة الأعمال، لا يدري ما يُختَم له به، يخاف من تحوُّلٍ من الإيمان إلى الكفر، ومن استقامةٍ إلى انحراف، ومن لزومِ الطريق إلى البُعد عنه، يرَى أناسًا اختلفت أهواؤهم، وتغيَّرت أفكارهم، وتنوَّعت آراؤهم، فهم يومًا دعاةٌ إلى الخير والصلاح، والهدى والنور، ويومًا يَنْقُضون ما بنَوا ..
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
هذه الآية مما كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يذكِّر بها أصحابه، ويعلِّمهم أن يقولوها بين يدي كلامهم، وخُطَبهم ومواعظهم، فيما يُسمَّى بـ"خُطبة الحاجة".
إن المؤمنَ يعمل صالحًا، ويبذُل جُهده في هذه الحياة؛ أن يستقيم على طاعة الله ومنهجه، ويجعل نُصبَ عينيه خاتمة الأعمال، لا يدري ما يُختَم له به، يخاف من تحوُّلٍ من الإيمان إلى الكفر، ومن استقامةٍ إلى انحراف، ومن لزومِ الطريق إلى البُعد عنه، يرَى أناسًا اختلفت أهواؤهم، وتغيَّرت أفكارهم، وتنوَّعت آراؤهم، فهم يومًا دعاةٌ إلى الخير والصلاح، والهدى والنور، ويومًا يَنْقُضون ما بنَوا، ويُبدِّلون ما قالوا، بسوء اعتقادٍ، وفساد أعمال، وانحراف سلوك، فتراه يخاف على نفسه أن يخدعَه الشيطانُ كهؤلاء، فيستولي عليه، فيُنسِيه ذكرَ الله، ويصدَّه عن سبيل الله المستقيم، فيختم له بسوء، فيَلْقى الله على غيرِ هدًى، أعاذنا الله وإيَّاكم من ذلك، وهذا ما حذَّر منه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في آخر الزمان.
روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقِطَع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا، ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا".
من أجْل دراهم معدودة، أو عروض سخيَّة، أو دنيا فانية، سرعان ما يُغيِّر ما كان عليه من استقامة وهدًى وصلاح، فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وينقلب على عَقِبيه؛ ولذا قال الله لعباده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]؛ أي: اتقوا الله بلزوم أوامره، واجتناب نواهيه، وطاعة رسوله، واتِّباع هَدْيه، وهذا هو الدين القَيِّم، فالزَموا الإسلام، واثبتوا عليه، واستقيموا عليه؛ حتى يوافيَكم الموتُ وأنتم على الإسلام ملازِمين، غيرَ مُبدِّلين، ولا مُغيِّرين.
أيها المسلم: فمِن علامةِ توفيقِ الله لك، ومِن علامة خاتمةِ الخير لك: أن توَفَّقَ في بقيَّة عُمرِك لأعمالٍ صالحة؛ تستقيم عليها، تثبُت عليها، تمضي بقيَّةَ عُمرك عليها؛ عن أنس أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، استعمَله"، قيل: كيف يستعمله؟! قال: "يوفِّقه لعملٍ صالح قبل الموت، ثم يقبضه عليه". أخرجه أحمد، والترمذي، صحيح.
فيتداركه الله بتوبةٍ نصوح، فيبدِّل سيِّئاته حسنات، ويتحلَّل من مظالِم العباد، ويتوب إلى الله من سيِّئات الأقوال والأعمالِ، حتى إذا حضرَه الموتُ ودنا انتقالُ الرُّوح من الجسد، إذا هو ثابتٌ على الحقِّ، ثابتٌ على الهُدَى، تُزَفُّ له البِشارة وهو على فراشه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30 - 32].
كما في حديث البَراء -رضي الله عنه-: "إنَّ الملائكة تقول لرُوح المؤمن: اخرجي أيَّتها الرُّوح الطِّيبة في الجسد الطيِّب، كنتِ تَعمرينه، اخرجي إلى رُوح ورَيحان، وربٍّ غير غضبان".
هكذا أولياء الله الصادقون الذين أخْلصوا لله أعمالَهم، وصدقوا مع الله في تعامُلِهم، فلم يكن رِياءً ولا سمعة، ولا محبَّة للشهرة، ولا إرادةً للعُلوِّ في الأرض: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
إنَّ المسلمَ ينبغي دائمًا له أن يسألَ الله حُسْنَ الخاتمة، وأن يختمَ عُمرَه بخير، وأن يجعلَ بقيَّةَ عُمره خيرًا من ماضِيه، فهو دائمًا يقول: اللهمَّ اجعلْ خيرَ أعمارنا أواخرَها، وخيرَ أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيَّامنا يومَ نلقاك.
أيّها المسلم: حُسن الخاتمة أقضَّ مضاجعَ الصالحين، وكدَّر عليهم صفوَ حياتهم، وهذا ليس سوء ظنٍّ بربِّ العالمين، فحاشا ذلك، لكن اشتدَّ خوفهم من أنفسهم أن يؤْتَوا من قِبَل أنفسهم من أعمال سيِّئةٍ استبطنوها ومعاصٍ واصَلوها، يخافون أن لا يمَكَّنُوا مِن توبة، وأن تَستمِرَّ بهم الشهواتُ والملذَّات، فتنقضي الأعمارُ بلا فائدةٍ، فهم يخافون على أنفسهم، ويعلمون قولَ الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
روى البخاري عن سهلٍ بن سعد الساعدي، قال: نظَر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غَناءً عنهم، لا يدع من المشركين شاذَّة ولا فاذَّة، إلاَّ اتَّبعها فضرَبَها بسيفه، فقيل: يا رسول الله: ما أجزأ أحدٌ ما أجزأ فلان، فقال: "مَن أحبَّ أن ينظر إلى رجلٍ من أهل النار، فلينظر إلى هذا"، فتَبِعه رجلٌ، فلم يزلْ على ذلك، حتى جُرِح، فاستعجَل الموت، فقال بذُبابة سيفه فوضَعه بين ثَدْييه، فتحامَل عليه؛ حتى خرَج من بين كَتِفيه، فجاء الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أشْهد أنَّك رسول الله، فقال: "وما ذاك؟!"، فأخبَرَه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبدَ ليعمل -فيما يرى الناس- عملَ أهل الجنة، وإنه لِمِن أهل النار، ويعمل -فيما يرى الناس- عملَ أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها".
وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين: "إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيَسْبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعملِ أهْل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيَسْبِق عليه الكتاب، فيعمل بعملِ أهل النار، فيدخل النار".
فاسألِ الله -أخي المسلم- خاتمةَ خيْرٍ، واسألِ الله أن تلقاه وأنت على الإسلام؛ لَم تُبَدِّل، ولَم تُغيِّر، بل وأنتَ مستقيمٌ على هذا الهدَى، فإن آخِرَ ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لِمَا كانت عليه حياته كلها، فمَن كان مُقيمًا على طاعة الله -عزَّ وجلَّ- بدا ذلك عليه في آخر حياته؛ ذِكرًا وتسبيحًا وتهليلاً، وعبادةً وشهادة.
فهذا نبي الله يوسف كان يخشى على نفسه؛ فيدعو ربَّه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101].
فَهَلُمُّوا ننظر كيف كانت خاتمة أسلافنا الصالحين الذين عاشوا على طاعة الله، وماتوا على ذِكْر الله، يأمُلون فضْلَ الله، ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح، وعلى رأْس هؤلاء رسول الله، فإنه لَمَّا قَرُب أجَلُه، اعتكفَ في رمضان عشرين يومًا، وكان قبل ذلك يعتكف في كلِّ عام عشرة أيام، وختَم القرآن على جبريل مرتين في رمضان، وكان يختمه عليه قبل ذلك مرَّة، وحجَّ حَجَّة الوداع، وكان يقول: "ما أرى ذلك إلاَّ لاقتراب أجَلي".
وفي البخاري عن عائشة أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لَمَّا احتضَر، كان بين يديه رَكْوة أو عُلبة فِيها ماء، فجعل يُدخِل يديه في الماء، فيمسح بهما وجْهَه، يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ"، ثم نصَب يدَه، فجعل يقول: "في الرفيقِ الأعلى"، حتى قُبِِض ومالَتْ يده، وفيه عن أنس: لَمَّا رأتْ فاطمة -رضي الله عنها- ما برسول الله من الكرْب الشديد الذي يتغشَّاه عند الموت، قالت: واكربَ أبَتاه، فقال لها: "ليس على أبيك كرْبٌ بعد اليوم".
حُسْن الخاتمة: هي أن يوفَّق العبد قبل موْته للتوبة عن الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعة، ولحُسن الخاتمة علامات، كل واحدة منها كافية -بإذن الله- في الاستبشار بحُسن الخاتمة من غير جزْمٍ بذلك:
أولاً: النُّطق بالشهادة عند الموت؛ لقوله: "مَن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخَل الجنة". رواه الحاكم.
ثانيًا: أن يرشحَ جَبينه بالعَرَق؛ لقوله: "موْت المؤمن بعَرَق الجَبين". رواه أحمد والترمذي عن ابن بُرَيدة.
ثالثًا: أن يموت يوم الجمعة أو ليلتها وهو مسلم؛ لقوله: "ما مِن مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلاَّ وقَاه الله فِتنة القبر". الترمذي.
رابعًا: أن يموت شهيدًا في سبيل الله، أو وهو مُرابِط في سبيل الله، أو يموت بإحدى الميْتات التي يكون صاحِبُها في درجة الشهيد، وهي المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدْم والحريق، والموت بذات الجَنْب، والمرأة يقتلها ولَدُها؛ أي: تموت وهي حامل، أو بسبب الوضْع.
خامسًا: أن يُختمَ له بعملٍ صالح، كصيام يوم، أو صدقة أو ذِكْر؛ عن جابر -رضي الله عنه- قال: "مَن مات على شيءٍ، بعثَه الله عليه". رواه أحمد، والحاكم، وهو في صحيح الجامع (6419).
وروى أحمد في مسنده قال: "مَن قال: لا إله إلا الله؛ ابتغاءَ وجْه الله وخُتِم له بها، دخَل الجنة، ومَن صام يومًا؛ ابتغاءَ وجْه الله وخُتِم له بها، دخَل الجنة، ومَن تصدَّق بصدقة وخُتِم له بها، دخَل الجنة".
وكم سَمِعنا من الصالحين مَن مات وهو ساجد، أو وهو يتلو القرآن، أو يَذكر الله تعالى.
وقد أخبَر النبي أن المحرِم الذي مات على إحرامه، يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّيًا، وأنَّ الشهيد يُبْعَث يوم القيامة ولون جُرْحه لون الدمِ، ورِيحُه رِيح المسْك، وأنَّ آكِلَ الربا يقوم كالمصروع، والمتكبِّر يحشر في صورة الذَّرِّ، يَطؤه الناس بأقدامهم.
وقد حكَى الإمام ابن القيم، والحافظ الذهبي -رحمهما الله- حكايات كثيرة عن أقوام عجزوا عن قول: "لا إله إلا الله" عند موْتهم، واستبدلوها بما كانوا متعلِّقين به في الدنيا؛ من حرامٍ، أو مُباح.
فرجل كان يلعب الشطرنج، قيل له: قلْ: لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ، ومات، ورجل كان يشرب الخمر، قال: اشربْ واسقني، ثم مات، وقيل لآخر: قلْ: لا إله إلا الله، فجعَل يهذي بالغِناء، ويقول: "تاتا ننتنتا"، فقال: وما ينفعني ما تقول، ولَم أَدَعْ معصية إلاَّ ركبتُها، ثم قضَى، ولَم يقلْها، وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عنِّي، وما أعلم أني صليتُ لله تعالى صلاة، ثم قضَى، ولَم يقلْها، وقيل لآخر ذلك: فقال: هو كافر بما تقول وقضى، وقيل لرجل: قلْ: لا إله إلا الله، فجعَل يقول: أين الطريق إلى حمَّام منجاب، قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أنَّ رجلاً كان واقفًا بإزاء داره، وكان بابها يُشبه باب هذا الحمَّام، فمرَّتْ به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمَّام منجاب؟! فقال: هذا حمام منجاب، فدخَلت الدار، ودخَل وراءها، فلمَّا رأتْ نفسها في داره، وعَلِمت أنه قد خَدَعها، أظهرتْ له البِشْر والفرح باجتماعها معه، وقالتْ -خدعةً منها له، وتحيُّلاً لتتخلَّص مما أوْقَعها فيه، وخوفًا من فعْل الفاحشة-: يصلح أن يكونَ معنا ما يطيب به عيشنا، وتقرُّ به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكلِّ ما تُريدين وتشتهين، وخرَج وترَكها في الدار ولَم يُغْلِقْها، فأخَذ ما يصلح ورجَع، فوجدَها قد خرجَتْ وهرَبت، فهام الرجل وأكثر الذِّكْر لها، وجعَل يمشي في الطُّرق والأزقَّة، ويقول:
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ | أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ |
فبينا يقول ذلك، إذا بجاريته أجابتْه مِن طاق أو كوَّة لها:
هَلاَّ جَعَلْتَ سريعًا إِذْ ظَفِرْتَ بِهَا | حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلاً عَلَى الْبَابِ |
واعلم -أخي المسلم- أنَّ الشيطان يحشد للإنسان كلَّ هِمَّته وقوَّته؛ لإضلاله في هذه اللحظة، والإنسان يكون في أضعف أحواله؛ قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
وقصة الإمام أحمد لَمَّا جاءَه الشيطان وهو في النَّزْع في سكرات الموت، وقال: فُتَّـني يا أحمد، وهو يقول: "لا، بعدُ، لا، بعدُ". أراد أن يوقِعَه في الغرور في هذه اللحظة، لكن الله سلَّم الإمام أحمدَ من ذلك. ابن تيميَّة، الفتاوى الحموية.
أما الخاتمة السيئة، فهي أن تكون وفاة الإنسان وهو مُعرِض عن ربِّه -جل وعلا-، مُقِيمٌ على ما يُسخطه سبحانه، مُضيِّع لِمَا أوْجَبه الله عليه، فكم من الناس مَن يُفاجئه الموت وهو مقصِّر في صلاته، لا يُصَلِّيها في وقتها، بل يُصَلي الفجر قبل دوامه برُبع ساعة، ويحسب أنه أدَّى ما عليه، كم من الناس مَن يُباغته الموت وهو محارِبٌ لله ورسوله؛ بدفْع أقساط الربا الواجبة عليه، أو بأكْل الرشوة، أو ما حرَّم الله من أموال اليتامى وحصص أخواته من الميراث، كم من النساء من أصرَّت على السفور والتبرُّج، والاختلاط مع الرجال ومُمازحتهم، بدعوى الانفتاح والتحرُّر، وترْك الانغلاق والتعصُّب!
كم من الناس مَن لَم يُبالِ أن يَقْبِض الله رُوحه وهو متلبِّس بمعصيته، ولا ريب أنَّ تلك نهاية بئيسة، طالَما خافَها المتقون، وتضرَّعوا إلى ربِّهم سبحانه أن يُجَنِّبهم إيَّاها.
ومن أسباب سوء الخاتمة:
أولاً: أن يُصِرَّ العبد على المعاصي ويألفَها، فإن الإنسان إذا ألِف شيئًا مدة حياته، وأحبَّه وتعلَّق به، فالغالب أنه يموت عليه؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "إنَّ الذنوب والمعاصي والشهوات تخذُل صاحبها عند الموت".
ولقد آلَمتني والله قصة مُصَلٍّ كان معنا في أحد المساجد، لكنَّه كان مُدْمِنًا على الدُّخَان، فاشتعلتْ به النار وهو في بيته بسبب دُخَانه، وكان يُشير لأبنائه بأصابعه عند احتضاره يريد سيجارة.
ويقول ابن القيِّم -رحمه الله-: "وسوء الخاتمة لا تكون لِمَن استقام ظاهرُه وصلح باطنه، إنما تكون لِمَن له فساد في العقيدة، أو إصرارٌ على الكبيرة، أو إقدام على العظائم، فرُبَّما غلَب ذلك عليه، حتى ينزلَ عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطويَّة، ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله ".
ثانيًا: ومن أسباب سوء الخاتمة: الركونُ إلى الدنيا وشهواتها وزُخرفِها، وعدمُ المبالاة بالآخرة، وتقديم محبَّة الدنيا على محبَّة الآخرة؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7، 8].
ثالثًا: ومن أسباب سوء الخاتمة: أمراضُ القلوب؛ من الكِبْر والحسَد، والحِقد والغِلِّ، والعُجب واحتقار المسلمين، والغدر والخيانة، والمكْر والخِداع والغِشِّ، وبُغض ما يحبُّ الله، وحب ما يُبغِض الله تعالى؛ قال تعالى: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 87 - 89].
رابعًا: ومن أسبابِ سوء الخاتمة: البِدَع التي لَم يشرعها الرسول، فالبِدعة شُؤمٌ وشرٌّ على صاحبها وعلى الدِّين، وهي أعظم من الكبائرِ، وفي الحديث عن النبي: عن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا فرَطُكم على الحوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ معي رجالٌ منكم، ثم لَيُخْتَلَجُنَّ دونِي، فأقول: يا رب: أصحابِي، فيقال: إِنَّك لا تدرِي ما أحدثوا بعدك". البخاري.
خامسًا: ومن أسباب سوء الخاتمة: عقوقُ الوالدين، وقطيعة الأرحام.
سادسًا: ومِن أسباب سوء الخاتمة: الوصِيَّة الظالِمة المخالِفة للشرْع الحنيف.
إخواني: والواجب علينا إن مات أحد المسلمين مِيتَة سوء -وهو على معصية من المعاصي- أن نستعيذَ بالله من مِيتةٍ كمِيتَته، وأن ندعوَ له، وأن لا نُشَهِّر به في المجالس، فقد أفْضَى إلى ما قدَّم.
الخطبة الثانية:
من العلامات التي يظهر بها للعبد حُسْن خاتمته، ما يُبشَّر به عند موْته من رضا الله تعالى واستحقاقه كرامته تفضُّلاً منه تعالى؛ كما قال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]، وهذه البِشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم وفي قبورهم، وعند بعْثهم يوم القيامة.
وهذه العلامة هي التي وردت في الصحيحين عن عُبادة بن الصامت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أحبَّ لقاء الله، أحبَّ الله لقاءَه، ومَن كَرِه لقاء الله، كَرِه الله لقاءَه"، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذاك، ولكنَّ المؤمن إذا حضَره الموت، بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحبَّ إليه مما أمامه، فأحبَّ لقاء الله، وأحبَّ الله لقاءَه، وإنَّ الكافر إذا حُضِر الموت، بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيءٌ أكْرَهَ إليه مما أمامه، كَرِه لقاء الله، وكَرِه الله لقاءه"، قال النووي -رحمه الله-: "وهي الحال التي لا تُقْبَل فيها التوبة".
ولكي يُدرك العبد المؤمن حُسْنَ الخاتمة، فينبغي له أن يلزمَ طاعة الله وتقواه، والحذَر من ارتكاب المحرَّمات، فقد يموت عليها، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب، وهذه هي حقُّ التقوى في قوله سبحانه: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102].
بل على المسلم أن يوصي أولادَه وذُريَّته بالثبات على هذا الدين الحنيف، واسمع ما قال الله عن نبيِّه يعقوبَ: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132].
الْزَموا الإسلام؛ عِلمًا وعملاً، عقيدةً وسلوكًا، في الباطن والظاهر، وسَلوا الله الثباتَ على الحقِّ؛ فإنَّ الله بيده قلوبُ العباد يقلِّبها كيف يَشاء، وسيِّدُ ولدِ آدمَ سيِّد الأوَّلين والآخرين وإمامُ المرسلين، كان يقول دائمًا: "يا مُقَلِّبَ القلوب: ثبِّت قلبي على دينك"، قال أنس: قلت: يا نبي الله: آمَنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟! قال: "نعم، إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الله، يُقَلِّبها كيف يشاء". رواه الترمذي، وابن ماجه.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].