البحث

عبارات مقترحة:

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

سيادة الشريعة

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - فقه النوازل
عناصر الخطبة
  1. التسليم للشريعة من مُحْكَمَاتِ الإسلام وحقيقة الإيمان .
  2. أصوات علمانية تطالب بإقصاء الشريعة بعد سقوط الأنظمة الدكتاتورية .
  3. مقارنة بين تلك الأصوات وبين كفار قريش .
  4. الإجماع على كفر من أجاز الخروج على الشرع .
  5. الخلط بين العلمانية والشورى .
  6. إلباس العلمانيين أفكارهم الخبيثة ثوب الحرية الفضفاض .
  7. الرد البليغ على العلمانيين بأحوال هذه البلاد من تمكينٍ للشريعة مع مواكبة للتقدم .

اقتباس

وَتَيَّارَات تَزعُمُ أَنَّهَا وَسَطِيَّةٌ تَنوِيرِيَّةٌ، خَرَجَت هِيَ الأُخرَى عَلَى النَّاسِ بِفِكرَةٍ خَالَفَت بها إِجمَاعَ المُسلِمِينَ، وَاتَّبَعَت غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، وَوَافَقَت فِيهَا الكُفَّارَ وَالعِلمَانِيِّينَ، إِذْ زَعَمَت أَنَّ الإِيمَانَ بِالشَّرِيعَةِ اعتِقَادٌ قَلبيٌّ شَخصِيٌّ، وَأَنَّهُ يَكفِي المَرءَ أَن يُؤمِنَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعمَلَ بهما في نَفسِهِ، أَو يَتَعَبَّدَ في بَيتِهِ أَو مَسجِدِهِ كَيفَ يَشَاءُ، وَأَمَّا تَحكِيمُ الشَّرِيعَةِ وَالتَّحَاكُمُ إِلَيهَا، فَيَرَى هَؤُلاءِ المُخَلِّطُونَ أَنَّ النَّاسَ لا يُلزَمُونَ بِهِ إِلاَّ إِذَا أَرَادُوهُ لأَنفُسِهِم وَاختَارُوهُ!!

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الأنفال:29].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: المُؤمِنُ الِّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولاً، يَعلَمُ عِلمَ يَقِينٍ لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مِن أَعظَمِ مُحْكَمَاتِ الإِيمَانِ التَّسلِيمَ لِلشَّرِيعَةِ في كُلِّ أَمرٍ مِنَ الأُمُورِ، صَغُرَ أَو كَبُرَ، وَعَدَمَ تَقدِيمِ رَأيٍ أَو عَقلٍ أَو هَوًى عَلَى مَا جَاءَ مِن عِندِ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ - تَعَالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1].

فَلا أَغلَبِيَّةَ وَلا أَكثَرِيَّةَ، وَلا سِيَادَةَ أُمَمِيَّةً وَلا شَعبِيَّةً، وَلا حُرِّيَّةَ مُطلَقَةً وَلا فَوضَوِيَّةَ، بَل هِيَ هَيمَنَةُ الشَّرِيعَةِ وَحَاكِمِيَّتُهَا وَالقَبُولُ بها قَولاً وَعَمَلاً، فَذَلِكَ هُوَ الإِيمَانُ الحَقَّ، وَتِلكَ هِيَ العُبُودِيَّةُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ، وَإِلاَّ فَمَا ثَمَّةَ إِلاَّ الحَرَجُ وَالشَّكُّ وَالتَّذَبذُبُ، وَمِن ثَمَّ فَلا إِيمَانَ وَلا تَسلِيمَ، قَالَ -تَعَالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [النساء:65].

يُقَالُ هَذَا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَالأُمَّةُ لم تَكَدْ تَرفَعُ الرُّؤُوسَ ابتِهَاجًا بِسُقُوطِ أَكثَرَ مِن رَمزٍ مِن رُمُوزِ العَلمَنَةِ وَإِقصَاءِ الشَّرِيعَةِ عَنِ الحُكمِ، حَتى بُلِيَت بِكُتَّابٍ يَتَسَاءَلُونَ: هَل تَصلُحُ الشَّرِيعَةُ لِحُكمِ الشُّعُوبِ وَقِيَادَتِهَا؟ وَآخَرِينَ يَرفَعُونَ أَصوَاتَهُم: هَل يَتَمَكَّنُ الإِسلامِيُّونَ مِن بِنَاءِ دُوَلٍ حَضَارِيَّةٍ حَدِيثَةٍ تُوَاكِبُ الدُّوَلَ المُتَقَدِّمَةَ؟.

وَتَيَّارَات تَزعُمُ أَنَّهَا وَسَطِيَّةٌ تَنوِيرِيَّةٌ، خَرَجَت هِيَ الأُخرَى عَلَى النَّاسِ بِفِكرَةٍ خَالَفَت بها إِجمَاعَ المُسلِمِينَ، وَاتَّبَعَت غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، وَوَافَقَت فِيهَا الكُفَّارَ وَالعِلمَانِيِّينَ، إِذْ زَعَمَت أَنَّ الإِيمَانَ بِالشَّرِيعَةِ اعتِقَادٌ قَلبيٌّ شَخصِيٌّ، وَأَنَّهُ يَكفِي المَرءَ أَن يُؤمِنَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعمَلَ بهما في نَفسِهِ، أَو يَتَعَبَّدَ في بَيتِهِ أَو مَسجِدِهِ كَيفَ يَشَاءُ، وَأَمَّا تَحكِيمُ الشَّرِيعَةِ وَالتَّحَاكُمُ إِلَيهَا، فَيَرَى هَؤُلاءِ المُخَلِّطُونَ أَنَّ النَّاسَ لا يُلزَمُونَ بِهِ إِلاَّ إِذَا أَرَادُوهُ لأَنفُسِهِم وَاختَارُوهُ.

وَالحَقُّ أَنَّ هَذَا التَّصَوُّرَ المُتَنَاقِضَ غَايَةَ التَّنَاقُضِ، مَا هُوَ إِلاَّ كُفرٌ وَشِركٌ، إِذْ مَا مَعنى إِيمَانِ المَرءِ بِاللهِ وَإِسلامِهِ الوَجهَ لِرَبِّهِ، وَمَا فَائِدَةُ اعتِقَادِهِ أَنَّ هَذَا حَلالٌ وَذَاكَ حَرَامٌ، إِذَا هُوَ لم يُقِرَّ بِشَرعِيَّتِهِ إِلاَّ بَعدَ أَن تُقِرَّ بِهِ أُمَّةٌ أَو يَختَارَهُ شَعبٌ أَو يُوَافِقَ عَلَيهِ مَجلِسٌ؟ إِنَّهَ بهذا يَجعَلُ الشَّعبَ هُوَ الحَاكِمَ، وَيَعتَقِدُ أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ المُشَرِّعَةَ، وَلَيسَ اللهَ -سُبحَانَهُ- وَلا رَسُولَهُ.

وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ، فَمَا الفَرقُ بَينَهُ وَبَينَ كُفَّارِ قُرَيشٍ، الَّذِينَ استَنكَرَ اللهُ عَلَيهِم مِثلَ هَذَا حَيثُ قَالَ -سُبحَانَهُ-: (أَم لَهُم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظَّالمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى:21].

إِنَّهُ لا فَرقَ بَينَ أُولَئِكَ الكُفَّارِ الأَصلِيِّينَ وَهَؤُلاءِ المُشرِكِينَ المُحدَثِينَ، وَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ قَدِ اتَّبَعُوا آبَاءَهُم وَأَجدَادَهُم فِيمَا أَحَلُّوهُ وَحَرَّمُوهُ مِن تِلقَاءِ أَنفُسِهِم أَو أَملَتهُ عَلَيهِمُ الشَّيَاطِينُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ العِلمَانِيِّينَ لم يَخرُجُوا عَمَّا قَرَّرَتهُ شَيَاطِينُ الغَربِ في قَوَانِينِهَا، ممَّا أَسمَتهُ بـ "سِيَادَةِ الأُمَّةِ"، حَيثُ أَعطَت لِلأُمَّةِ أَوِ الشَّعبِ السُّلطَةَ العُليَا في التَّشرِيعِ، فَلا قَانُونَ لَدَيهَا إِلاَّ مَا أَقَرَّتهُ الأُمَّةُ وَرَضِيَتهُ، وَلا إِذعَانَ إِلاَّ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيهِ الشَّعبُ وَاختَارَهُ؛ لأَنَّ الأُمَّةَ وَالشَّعبَ -في رَأيِهِم- هُمُا المُستَحِقَّانِ لِلتَّشرِيعِ المُطلَقِ.

وَهَذَا يَعني أَنَّ الأُمَّةَ أَوِ الشَّعبَ لَو أَحَلُّوا حَرَامًا أَو حَرَّمُوا حَلالاً، فَيَجِبُ القَبُولُ بِهِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِ، وَلا يَجُوزُ الخُرُوجُ عَنهُ وَلا تَجَاوُزُهُ، وَهَلِ الحُكمُ بِغَيرِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلاَّ هَذَا؟! وَهَلِ الكُفرُ وَالرِّدَّةُ إِلاَّ ذَلِكَ؟! قَالَ -تَعَالى-: (وَمَن لم يَحكُمْ بما أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) [المائدة:44].

إِنَّ سِيَادَةَ الشَّرِيعَةِ وَهَيمَنَتَهَا في الحُكمِ بَينَ النَّاسِ، هِيَ الأَصلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الإِسلامُ وَأَمَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- قَالَ -تَعَالى-: (وَأَنِ احكُمْ بَينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم وَاحذَرْهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيكَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَاعلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49].

وَقَد أَجمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى كُفرِ مَن أَجَازَ الخُرُوجَ عَلَى الشَّرعِ أَو سَوَّغَ لِلنَّاسِ ذَلِكَ، وَمِن قَوَاعِدِ الإِسلامِ الكُبرَى الَّتي لا يُمَارِي فِيهَا أَقَلُّ النَّاسِ عِلمًا، أَنَّهُ لا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ، فَلا طَاعَةَ لِوَالِدٍ أَو وَليِّ أَمرٍ أو عَالِمٍ، إِذَا هُم أَمَرُوا بما لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ أَو خَالَفُوا الشَّرِيعَةَ، قَالَ -تَعَالى-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشرِكَ بي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) [لقمان:15]، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "السَّمعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرءِ المُسلِمِ فِيمَا أَحَبَّ أَو كَرِهَ مَا لم يُؤمَرْ بِمَعصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمعَ وَلا طَاعَةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

هَذَا مَعَ عِظَمِ حَقِّ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ وَوَليِّ الأَمرِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَقَالَ -تَعَالى- مُستَنكِرًا عَلَى النَّصَارَى طَاعَتَهُم لأَحبَارِهِم وَرُهبَانِهِم في التَّحلِيلِ وَالتَّحرِيمِ: (اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابنَ مَريَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبحَانَهُ عَمَّا يُشرِكُونَ) [التوبة:31]، فَاللهُ -سُبحَانَهُ- يَستَنكِرُ عَلَى النَّصَارَى تَغيِيرَ حُكمِهِ، وَلَو كَانَ المُغَيِّرُ لَهُ مِن أَكَابِرِ العُلَمَاءِ أَوِ العُبَّادِ، فَكَيفَ يُقَالُ بِجَوَازِ أَن يَختَارَ عَوَامُّ النَّاسِ مَا يُحكَمُونَ بِهِ وَلَو كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرعِ؟!.

وَقَد يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ إِعطَاءَ الشَّعبِ المَجَالَ لِيَختَارَ القَانُونَ الَّذِي يُرِيدُ أَن يَحكُمَ بِهِ، إِنَّهُ مِن بَابِ الشُّورَى، وَهِيَ ممَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ وَدَعَا إِلَيهِ، فَيُقَالُ تَصحِيحًا لِهَذَا اللَّبسِ، وَإِزَالَةً لِهَذَا الغَبَشِ وَالغُمُوضِ: إِنَّ الشُّورَى الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ وَأَقَرَّهَا، لا تَكُونُ إِلاَّ في الأُمُورِ المُبَاحَةِ، وَأَمَّا فِعلُ الوَاجِبَاتِ، وَاجتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ، فَلا شُورَى فِيهَا وَلا اختِيَارَ، بَلِ الأُمَّةُ مُلزَمَةٌ بِهِ أَفرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، قَالَ -تَعَالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم) [الأحزاب:36].

وَقَالَ -تَعَالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [النساء:65]، هَذَا هُوَ مُقتَضَى العُبُودِيَّةِ للهِ، فَكَيفَ تُجعَلُ الشَّرِيعَةُ بِكُلِّ وَاجِبَاتِهَا وَمُحَرَّمَاتِهَا مَوضُوعًا قَابِلاً لِلتَّشَاوُرِ بَينَ البَشَرِ، إِنْ أَجَازُوهُ طُبِّقَ وَحُكِمَ بِهِ، وَإِنْ لم يُجِيزُوهُ لم يُطَبَّقْ وَلم يُحكَمْ بِهِ؟! سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ!.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَقُولُ -سُبحَانَهُ-: (إِنِ الحُكمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ) [يوسف:40]، فَالحُكمُ لَهُ -سُبحَانَهُ- وَحدَهُ، وَتَحقِيقُهُ مِن تَوحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَمَّا التَّحَاكُمُ إِلى غَيرِهِ كَائِنًا مَن كَانَ، فَهُوَ مِنَ التَّحَاكُمِ إِلى الطَّاغُوتِ، وَقَد قَالَ -تَعَالى-: (فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً) [النساء:59].

وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الأُمَّةُ قَد عَانَت مِنَ الحُكَّامِ الظَّلَمَةِ عُقُودًا مِنَ الزَّمَنِ، ثم استَطَاعَت أَن تَتَخَلَّصَ مِن بَعضِهِم وَتَتَنَفَّسَ شَيئًا ممَّا قَد يُسَمَّى بِالحُرِّيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ أَن تَعتَقِدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيهَا أَن تَتَخَلَّصَ مِن أَيِّ سِيَادَةٍ مُطلَقًا، وَلَو كَانَت سِيَادَةَ الدِّينِ وَالشَّرعِ، أَو تَزعُمُ أَنَّهَا هِيَ الأَحَقُّ بِالتَّشرِيعِ وَالهَيمَنَةِ المُطلَقَةِ عَلَى نَفسِهَا، ظَانَّةً أَنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ حُرِّيَّتِهَا وَتَمَتُّعِهَا بما تُحِبُّ، كَلاَّ وَاللهِ لا يَجُوزُ لها ذَلِكَ.

وَكَونُهَا تَرفَضُ الظُّلمَ، وَتَأبى الاستِبدَادَ، وَتُحَارِبُ سِيَاسَةَ تَورِيثِ الحُكمِ، أَو نَقلِ الرِّئَاسَةِ لِمَن لا يَستَحِقُّهَا؛ فَهَذَا أَمرٌ مَحمُودٌ، أَمَّا أَن تَرفُضَ تَحكِيمَ الشَّرِيعَةِ، وَتَرُدَّ ذَلِكَ إِلى مُوَافَقَتِهَا وَإِجَازَتِهَا وَالإِقرَارِ بها، فَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ مِنهَا كَبِيرَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الحُدُودِ شَنِيعٌ، بَل جَهلٌ ذَرِيعٌ بما هُوَ مِن صُلبِ الدِّينِ الَّذِي تَدِينُ بِهِ.

إِنَّ الشُّعُوبَ، وَإِن هِيَ خَرَجَت مِن ظُلمِ أُولَئِكَ الحُكَّامِ المُجرِمِينَ، فَقَد دَخَلَت في نَفَقِ أَقوَامٍ مِنَ المُنَافِقِينَ وَالمُرَاوِغِينَ، الَّذِينَ يَعلَمُونَ أَنَّهُم لَو قَالُوا لَهَا: دَعِي الإِسلامَ وَاختَارِي الكُفرَ أَو أَيَّ دِينٍ مُحَرَّفٍ، لامتَنَعَت، وَأَبَتْ، وَقَاتَلَتهُم حَتى آخِرِ قَطرَةٍ مِن دَمِهَا.

لِكَنَّهُم أَتَوهَا بِهَذِهِ الفِكرَةِ العِلمَانِيَّةِ الخَبِيثَةِ، وَالَّتي وَإِنْ كَانَ العِلمَانِيُّونَ الأَوَّلُونَ قَد صَرَّحُوا بها بِلا التِوَاءٍ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ قَد أَلبَسُوهَا ثَوبَ الحُرِّيَّةِ الفَضفَاضَ، وَدَغدَغُوا بها عَوَاطِفَ الشُّعُوبِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَن يَكُونَ لأَحَدٍ غَيرِهَا الخِيَارُ في حُكمِهَا، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتي سَتَختَارُ القَانُونَ الَّذِي يَكفَلُ لها مَا تُرِيدُ، وَيُحَقِّقُ لها مَا تَصبُو إِلَيهِ.

وَمَا عَلِمَت تِلكَ الشُّعُوبُ المُستَغفَلَةُ أَنَّهَا بِرَفضِهَا العُبُودِيَّةَ لِرَبِّ العَالمِينَ، وَتَركِهَا تَحكِيمَ شَرِيعَتِهِ، تَخرُجُ مِن ظُلمَةٍ إِلى ظُلمَةٍ، وَتَنتَقِلُ مِن سَيِّئٍ إَلى أَسوَأَ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لا طَاعَةَ إِلاَّ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلا حُكمَ يُصلِحُ البَشَرَ إِلاَّ حُكمُ اللهِ وَرَسُولِهِ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَّانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً * أَلم تَرَ إِلى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بما أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) [النساء:59-61].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَا يُدعَى إِلَيهِ مِن جَعلِ حُكمِ الشَّعبِ لِلشَّعبِ، حَتى في اختِيَارِ القَانُونِ الَّذِي يُحكَمُ بِهِ وَلَو كَانَتِ الشَّرِيعَةَ، إِنَّهُ لَضَلالٌ عَن سَبِيلِ اللهِ، إِذْ مَا في عُقُولِ كَثِيرٍ مِنَ البَشَرِ إِلاَّ الظُّنُونُ وَالتَّخَرُّصَاتُ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَإِن تُطِعْ أَكثَرَ مَن في الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ) [الأنعام:116-117]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ) [يوسف:103].

وَإِنَّ في تَجرِبَةِ هَذِهِ البِلادِ في تَحكِيمِ الشَّرِيعَةِ الإِسلامِيَّةِ، وَتَمَتُّعِهَا بِالأَمنِ وَالاطمِئنَانِ وَالاستِقرَارِ، مَعَ مُوَاكَبَتِهَا الرُّقِيَّ وَالتَّقَدُّمَ في جَمِيعِ مَجَالاتِهِ، إِنَّ في ذَلِكَ لأَكبَرَ رَدٍّ عَلَى مَن يَزعُمُونَ أَنَّ الإِسلامِيِّينَ لا يَستَطِيعُونَ أَن يَجمَعُوا بَينَ الحُكمِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَوَاكَبَةِ الحَضَارَةِ، فَهَا هِيَ بِلادُ الحَرَمَينِ تَنعُمُ بِحُكمِ الشَّرِيعَةِ، وَتَمشِي في رَكبِ الحَضَارَةِ بِلا تَخَلُّفٍ أَو تَأَخُّرٍ.

وَمَا يَكُنْ مِن ضَعفٍ في جَانِبٍ أَو مَجَالٍ، فَإِنَّمَا مَرَدُّهُ إِلى ضَعفٍ بَشَرِيٍّ مُلازِمٍ، أَو تَضيِيعِ أَمَانَةٍ حَادِثٍ، أَو تَقصِيرٍ في عِلمٍ لازِمٍ، وَأَمَّا الشَّرِيعَةُ فَهِيَ كَامِلَةٌ مُكَمَّلَةٌ، شَامِلَةٌ لِلصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِن عُلُومِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: (وَنَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبيَانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ) [النحل:89]، وَعَن أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلاَّ عِندَنَا مِنهُ عِلمٌ" رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.