الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبد الكريم بن صنيتان العمري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العمل، وحثتهم على التكسب وطلب الرزق، وبينت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وهو سبيل أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، وحذّرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم؛ لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة ..
لقد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العمل، وحثتهم على التكسب وطلب الرزق، وبينت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وهو سبيل أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، وحذّرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم؛ لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، فيأتي به فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه". متفق عليه. وعن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم". رواه البخاري ومسلم.
لقد أمر الله تعالى المؤمنين بترك البيع والشراء والتجارة ساعة أداء العبادة المفروضةِ عليهم، وذم من يشتغل بالتكسب في ذلك الوقت، وأذن لهم بالانتشار وطلب الرزق بعد أدائها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9].
يقول القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ): "مَنَعَ اللهُ -عز وجل- البيع عند صلاة الجمعة، وحَّرمه في وقتها على من كان مخاطبًا بفرضها، والبيع لا يخلو عن شراء، فاكتفى بذكر أحدهما، وخص البيعَ لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق". ثم قال عند قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]: "هذا أمر إباحة، أي: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم، (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: من رزقه، ونُقل عن عِراك بن مالك -رحمه الله وهو من أعلام التابعين- أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: "اللهم إني أجبتُ دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين".
وبيّن الله تعالى في كتابه الكريم أن العمل لكسب العيش وتحصيل ما لا بد منه كان دأب أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-؛ قال تعالى: (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) [الفرقان:20].
قال القرطبي -رحمه الله-: "هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك"، وقال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى مخبرًا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين: إنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمنافٍ لحالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة القاهرة ما يستدل به كل ذي لبٍّ سليم وبصيرةٍ مستقيمة على صدقِ ما جاؤوا به من الله". انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
وأخبر -جل وعلا- عن داود -عليه السلام- بقوله -جل شأنه-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80]، والمراد باللبوس هنا الدروع.
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله-: "هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهلِ العقول والألباب، لا قول الجهلةِ الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شُرع للضعفاء، فالسببُ سنةُ الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونَسَبَ من ذكرنا إلى الضعفِ وعدمِ المنَّة، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود -عليه السلام- أنه كان يصنع الدروع والخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدمُ حَرّاثًا، ونوح نجارًا، ولقمان خياطًا، وطالوت دباغًا، وقيل: سقّاء، فالصنعة يكف بِها الإنسان نفسه عن الناس". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وعن المقدام بن معدي كرب -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". رواه البخاري.
والحكمة في تخصيص داود بالذكر -كما يقول الحافظ ابن حجر- أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة الله في الأرض، وإنما ابتغى الأكل من طريق أفضل.
وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان زكريا نجارًا". قال الإمام النووي: "فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلة".
لقد باشر الأنبياء كلهم -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام-، باشروا رعي الغنم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
وكان كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفضلهم يحترفون بأيديهم، وعلى رأسهم الخليفة الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. قالت عائشة -رضي الله عنها-: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: "لقد علم قومي أن حِرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه".
لقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتَّجرون وهم فقراء، فيغنيهم الله من فضله، وفي قصةِ عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ما يوضح ذلك ويبينه، روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئًا من أقط وشيئًا من سمن، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أيام وعليه صفرة، فقال: "مَهْيَمْ يا عبد الرحمن؟!"، فقال: تزوجت أنصارية، فقال: "فما سقت إليها؟!"، قال: وزن نواة من ذهب، قال: "أولم ولو بشاة". رواه البخاري.
يتضح من كل ما تقدم تأكيد الشريعة الإسلامية على أهمية العمل والاكتساب، وأن على كل فرد قادر أن يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقومات الحياة، والله تعالى قد قدر الأرزاق وكتبها، وعلى المرء أن يأخذ بجميع الأسبابِ الممكنة لتحصيل الرزق وجمعه، وأن لا يبقى خاملاً ينتظر رزقه، فإن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والتنقل بين أرجائها طلبًا للعمل والكسب، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
قال ابن كثير -رحمه الله-: أي:" سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات"، وقد روى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا". رواه أحمد والترمذي، فأثبت لها رواحًا وغدوًا لطلب الرزق مع توكلها على الله -عز وجل-، وهو المسخر المسير المسبب.
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض"، وتلا قول الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
ومع أن الخروج في طلب الرزق وتحصيله مما وجه إليه الشرع ورغَّب فيه فهو سبب لمغفرة الذنوب، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له". رواه الطبراني.
كما أن السعي لكسب العيش وطلب الرزق جهاد في سبيل الله تعالى، فعن كعب بن عجرة –رضي الله عنه- قال: مرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فرأى الصحابةُ من قوته ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله!! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفها فهو في سبيل الله". رواه الطبراني.
وهكذا فإن الإسلام رغَّب في الكد والعمل والتحصيل، وذم البطالة بشتى صورها، وحذر منها لما فيها من الجمود والاتكالية، فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برهم وعطفهم، ويخاف شرَّهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنةً، يكتسب من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه ومجتمعه.
الخطبة الثانية:
لم ترد.