المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ولا عجب؛ فإن الفتن بأنواعها تنساب إلى من لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه" متفق عليه. أي من تطلع إليها وتعرض لها واتته فوقع فيها ..
الحمد لله علام الغيوب مقلب القلوب، فارج الكروب، رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
أحمده وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأسأله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل جل من قائل: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء:74]
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وصفوته من خلقه الذي كان من دعائه: "اللهم مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك". اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أذكركم، وما أشد وقع التذكير لدى مناسباته، أذكر بما يعايشه المسلم في حياته، من فتن عظمى تموج أعاصيرها كموج البحار، فتن الشهوات المتعددة التي كثيراً ما يواجه بها ضعفاء الإيمان.
وفتن الشبهات العارمة التي كثيراً ما تواجه ضعفاء البصائر؛ بل وفتن تضارب الآراء ولاسيما عند تفاوت المشارب، واختلاف الأهداف؛ الأمر العظيم الخطر على معتقد المسلمين في الله، وعلى وحدة المسلمين وترابطهم.
إن واجب المسلم تجاه هذه الفتن، المسلم المستشعر لما أنعم الله به عليه من نعمة الإسلام العظمى التي لا يعادلها أي نعمة، الطامع في أن يلقى الله عليها -أن يسعى جاداً مخلصاً في طلب ما يرسخها ويعين على حفظها واستمرارها في نفسه؛ كي لا تزل به قدم في خضم هذه الأحداث؛ فيخسر هذه النعمة وما رتب عليها، لا قوة إلا بالله.
ولا عجب؛ فإن الفتن بأنواعها تنساب إلى من لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه" متفق عليه. أي من تطلع إليها وتعرض لها واتته فوقع فيها.
ولقد كان هذا الأمر -أعني الحرص على تثبيت الإيمان في النفوس، والخوف كل الخوف عليه من الانزلاق عند تضارب الآراء، وظهور الأهواء- محل اهتمام سادات الأمة، قال سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران:8] وقال: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [آل عمران:147] وقال: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) [البقرة:250]
وروى البخاري في صحيحه -رحمه الله- عن البراء ابن عازب -رضي الله عنه- قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق؛ حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا
ويرفع بها صوته (أبينا أبينا) وفي رواية له يرتجز بكلمات ابن رواحة ف7 ص399.
وإن مما يعين على مواجهة الفتن وتحصين الإيمان من الانزلاق أمور منها:
1- أن يقبل المسلم على كتاب ربه بروحه ومشاعره بقوله وعمله واعتقاده تعلماً وتعليماً وتلاوة وتدبراً، ففيه العصمة لمن اعتصم به والثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طـه:123] وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل:102] وقال: (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120]
2- ومنها: العلم المخلص في تحصيله المتقي الله في تطبيقه، علم من عنوا بقول الله سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) [آل عمران:18] وقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] وقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام:122]
3- ومنها: كثرة الأعمال الصالحة المخلصة لله المتبع فيها رسول الله، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم:27]
والإيمان الذي يسبب الثبات، هو الإيمان الإيقاني السليم من الشكوك والشبه والريب، والاعتقادات المخالفة لمذهب السلف أهل السنة والجماعة؛ المنبثق منها القول الصادق والعمل الصالح، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]
ونصر الله هو نصر دينه الذي هو سبب في النصر والثبات في الأمر، وقال صلى الله عليه وسلم -مما يفيد أن الأعمال الصالحة مصاد للفتن ووقاية منها-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا" رواه مسلم.
4- ومنها: البعد كل البعد عن مظان الافتتان بملبوس أو مأكول أو مشروب أو مركوب أو مجالس أو مقروء، ومن المجالسة الضارة: مجالسة المنحرفين في اعتقاد أو فكر أو سلوك أو غير ذلك.
ومن المقروءات الضارة: قراءة كتبهم وكتب أهل الأهواء، ولاسيما من يعبر عنهم بأهل المدرسة العقلانية المقدمين للعقل على الشرع؛ أنار الله بصائرهم، وردهم للحق الذي عليه سلف هذه الأمة من رسل وصحب وأتباع بإحسان.
5- ومنها: البعد كل البعد عن الحرص على المال والشرف، سيما أن انضم إلى ذلك ابتغاءه بعلم، أو على أعتاب أبواب السلاطين، الأمر الذي طالما أذل أعناقاً، وأخرس ألسناً عن النطق بالحق؛ قال عليه الصلاة والسلام: "ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم؛ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" رواه الترمذي.
وقال: "من بد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً" صحيح الجامع، السلسلة الصحيحة، كشف الخفاء، المقاصد الحسنة في من بدا ومن سكن.