العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن للمتقين من كمالِ السعيِ إلى بُلوغِ رِضوانِ الله ما لا نظيرَ له، وإن لهم في سبيلِ الفوزِ بالنعيمِ المُقيمِ في الجنةِ دارِ كرامتِهِ ونُزُلِ أوليائه مسالِك يسلُكُونها، وطرائِق يتفرَّدون بها، وهِممًا يسمُون بها ويفوقون غيرَها، وتبعثُهم على دوامِ المُسارَعةِ إلى المغفرةِ من ربِّهم، والحَظوةِ برِضوانِه، ودخولِ روضاتِ جنَّاته. وكيف لا يكون لهم هذا الحالُ، وهم مع إيمانهم بالله ورُسُله وأدائِهم حقَّه سبحانه؛ بفعلِ ما أمرَهم به، وتركِ ما نهاهُم عنه، والاستقامةِ على ذلك، والاستِمساكِ به ..
الحمد لله يصطفِي من عباده من يشاء، أحمده سبحانه حمدًا يُكافِئُ الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الصفاتُ العُلَى والحُسنى من الأسماءِ، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ الرُّسُل وخاتمُ الأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ البَرَرة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنُشور والجزاء.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، فأعِدُّوا لذلك اليوم عُدَّتَه، وخُذوا له أُهبَتَه.
أيها المسلمون: إن للمتقين من كمالِ السعيِ إلى بُلوغِ رِضوانِ الله ما لا نظيرَ له، وإن لهم في سبيلِ الفوزِ بالنعيمِ المُقيمِ في الجنةِ دارِ كرامتِهِ ونُزُلِ أوليائه مسالِك يسلُكُونها، وطرائِق يتفرَّدون بها، وهِممًا يسمُون بها ويفوقون غيرَها، وتبعثُهم على دوامِ المُسارَعةِ إلى المغفرةِ من ربِّهم، والحَظوةِ برِضوانِه، ودخولِ روضاتِ جنَّاته.
وكيف لا يكون لهم هذا الحالُ، وهم مع إيمانهم بالله ورُسُله وأدائِهم حقَّه سبحانه؛ بفعلِ ما أمرَهم به، وتركِ ما نهاهُم عنه، والاستقامةِ على ذلك، والاستِمساكِ به، يسمَعون نداءَ ربِّهم الرحيمَ الذي يدعوهم فيه إلى ما يُحيِيهم، وما يعلُو به قدرُهم، ويعظُمُ به شأنُهم، ويحسُنُ به مآبُهم، وتطيبُ به عنده عُقباهم ببيانِه لهم أسبابَ مغفرتِهِ ودخول جنَّته، وبحثِّه سبحانه لهم على المُبادَرة إليها، والعملِ بها في غير توانٍ ولا تردُّدٍ ولا إبطاءٍ؛ ليُحسِنوا بذلك إلى أنفسهم، ويُحسِنوا إلى غيرهم من عبادِ الله بجُملةٍ من الصفاتِ الجميلة، والفِعالِ الجليلة التي جاءَت مُبيَّنةً أوضحَ بيان في قولِ الرحيمِ الرحمنِ -عزَّ اسمُه-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133- 136].
إنه إحسانٌ إلى النفسِ وإلى الخلقِ لا حُدودَ له، إحسانٌ يتجلَّى في بذلِ المالِ في وجوهِ الخيرِ في كل الأحايين، لا فرقَ في ذلك بين حالِ المُنفِقِ في الرخاءِ وحالِهِ في الشِّدَّة؛ فهو ماضٍ في بذلِهِ، مُقيمٌ على جُوده وسخائِه؛ لأنه مُوقِنٌ بحُسنِ الإخلافِ من ربِّه القائلِ -عزَّ شأنُه-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]، والقائل: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 272].
ومُتأسٍّ بهذا النبيِّ الكريمِ -عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم- الذي قال يومًا لأبي ذرٍّ الغِفاريِّ -رضي الله عنه-: "هل ترى أُحُدًا؟!". قال: نعم، قال: "ما أُحبُّ أن أُحُدًا لي ذهبًا يأتي عليَّ ليلةٌ أو ثلاثٌ عندي منه دِينار إلا دينارًا أرصُدُه لدَيْنٍ، إلا أن أقولَ به في عبادِ الله هكذا وهكذا وهكذا -عن يمينه وشمالِه، ومن أمامه ومن خلفِه-". يعني: في الإنفاق.
وأن يفعلُوا ذلك رغبةً في أن يشملَه دعاءَ الملَك الوارِدِ في الحديثِ الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يومٍ يُصبِحُ العبادُ فيه إلا ملَكَان ينزِلان، فيقولُ أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفِقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًا".
وهو إحسانٌ يتجلَّى أيضًا في صفةٍ تُصوِّرُ السخاءَ والكرمَ النفسيَّ في أجملِ صورةٍ؛ تلك هي: كظمُ الغيظِ حين تبدُرُ بوادِرُ الإساءة، والترقِّي من ذلك إلى مُقابلتها بالعفوِ عن المُسيءِ، والصفحِ والتغاضِي عما بدَرَ منه؛ رغبةً في نَيلِ الجزاء الضافي والأجرِ الكريم الذي أخبرَ به نبيُّ الرحمةِ -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: "من كظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفِذَه دعاهُ الله -عز وجل- على رُؤوس الخلائِقِ يوم القيامة حتى يُخيِّرَه من أيِّ الحُورِ شاءَ". أخرجه الإمامُ أحمد في مُسنده، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ حسنٍ من حديثِ سهلِ بن مُعاذٍ، عن أبيه -رضي الله عنه-.
وبقولِنا يكونُ شأنُ من زلَّت به القدَمُ فظلَمَ نفسَه بإتيانِ ما حرَّم الله عليه أو تركِ ما أوجبَ عليه أن يذكُرَ عظمَة ربِّه الذي عصاهُ، وآلاءَه التي تفضَّلَ بها عليه، وشديدَ عذابِهِ وأليمَ عقابِه لمن لم يرْجُ له وقارًا فبارَزَه بالعِصيان.
فيحمِلُه هذا التذكُّرُ على المُبادَرَة إلى التوبةِ النَّصُوحِ بالإقلاعِ عمَّا تلوَّثَ بأرجاسِه، وبالنَّدَم على ما كان، وبالعزمِ على عدمِ العودة إليه -إلى ذلك الذنبِ-، وبردِّ الحقوقِ إلى أهلها؛ لأنه يعلمُ أنه لا يغفِرُ الذنوبَ غيرُه سبحانه، ولا يقبَلُ العثَرات سِواه، وأنه كريمٌ لا يُعاجِلُ بالعقوبة، كثيرُ السترِ للخطايا والقَبول للتوبةِ التي جعلَ بابَها مفتوحًا للتائبين حتى تطلُع الشمسُ من مغربِها.
وهذا شأنُ المُتقين، وسبيلُ المُخبتين، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيبِ، ذلك هو الذي أعقبَهم عند ربِّهم مغفرةَ الذنوبِ بالسترِ الجَميل، وبرفعِ المُؤاخَذة والإكرامِ بإدخالِهم الجنةَ دارَ السلام خالدين فيها، ونِعمَت الجنةُ وروضاتُها ونعيمُها، ثوابًا للعامِلين المُخلِصين لله في أعمالهم، المُبتغين بها وجهَه سبحانه، والمُتابعين فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، والمُهتدين بهديِه، والمُستنِّين بسُنَّته.
وما أجدرَ كلَّ عاقلٍ حريصٍ على حيازةِ الخيرِ لنفسِهِ، وعلى صيانتِها من التردِّي في وحدةِ الباطلِ في كلِّ صُورهِ المُفضِيَةِ إلى التَّبابِ، المُورِثةِ للخُسرانِ المُبين في الدنيا ويوم يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، ما أجدَرَه أن ينهَجَ هذا النهجَ، ويسيرَ هذا السيرَ، ويمضِيَ على هذا الطريقِ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وخيرُ خلقِ الله أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابتهِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن من أظهرِ صفاتِ المُتقين التي نالُوا بها الدرجاتِ العُلَى عند الربِّ الكريمِ: دوامَ استِحضارِهم عظمَةَ خالقِهم سبحانه وعظيمَ حقِّه عليهم، ذلك الاستِحضار الذي أورثَهم استِحياءً منه، وهيبةً له، ومحبَّةً وشوقًا إلى لقائِه، ذلك الشوقُ الذي أعقبَهم كمالَ حِرصٍ على العملِ بطاعتهِ، والنُّفرةِ من معصيتِهِ، والتزوُّد بخيرِ زادٍ يصحَبُهم في سيرِهم إليه سبحانه، إنه زادُ التقوى الذي أمرَهم به -عز وجل- بقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
ولا عجبَ أن يكون المُتزوِّدون بهذا الزادِ خيرَ الناسِ وأفضلَ الخلقِ بعد النبيين، وأجلَّهم قدرًا، وأنبَهَهم ذِكرًا، وأحراهُم بنَيْلِ كلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وأجدَرَهم بالسعادةِ والرِّيادةِ، وأحظاهم بمحبَّةِ الله والناسِ أجمعين.
فاتقوا الله -عباد الله-، واعمَلوا على التخلُّق بصفاتِ المُتقين، وانتهاجِ نهجِهم، وسُلُوكِ سبيلِهم؛ تكونوا من المُفلِحين الفائزين بمغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السماوات والأرضُ.
واذكروا على الدوامِ أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خيرِ الأنامِ، فقال -في أصدقِ الحديثِ وأحسنِ الكلامِ-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.