القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | سعد بن سعيد الحجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
ولا يتحقق هذا الدين ولا يكمل هذا البناء إلا بالنصيحة، والدين النصيحة لأن المؤمنين كالجسد الواحد فمن نصح لنفسه وجب أن ينصح لغيره لأن الجسد واحد والبناء واحد والمؤمنون كالرجل الواحد
الحمد لله الذي جعل الدين النصيحة ورفع بها المعادن النفيسة ووضع المعادن الرخيصة، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أيَّد أهل النصيحة بالآيات الصريحة والسنة الصحيحة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الناصحين وسيد الأولين والآخرين صلى الله وسلم عليه كلما اجتهد الناصحون وقل المخذلون.
أما بعد :
فيا أيها المسلمون اتقوا الله الذي خلقكم من ذكر وأنثى وجعلكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير، وكونوا بهذا الدين إخوة وأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب. واعلموا أن قوتكم التي تتقوون بها وعزكم الذي تعتزون به وفخركم الذي تفخرون به وفلاحكم الذي تظفرون به لتفوزوا بالمطلوب وتنجوا من المرهوب هو دين الإسلام، فلا عز لنا بغيره ولا فخر لنا بسواه ولا ميزان لنا إلا به ولا سعادة لنا إلا بالتمسك به. لا ينظر الله إلى الصور ولا إلى الأموال ولا إلى المناصب ولا إلى الأولاد ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فمن صلح قلبه صلح بدنه وصلح عمله وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
يقول الله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"
ويقول عمر رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله". ودين الإسلام هو الدين العالي على جميع الأديان وأهله عالون على جميع الناس، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) [الفتح:28]، ويقول: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ ) [آل عمران: من الآية19]، وهو الدين الذي رضيه الله لنا ويجب أن نرضى بما رضيه الله يقول تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً ) [المائدة: من الآية3]. وهو الدين الذي نعبد الله به ولا نعبد الله بسواه ومن ابتغى ديناً غيره فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين يقول تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وهو الدين الذي أخرجنا الله به من ظلمات الهوى والغي والشهوات والعادات إلى نور الطاعات، وحررنا به من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. وهو الدين الذي سلمت به النفوس وسلمت به الأموال والأعراض ليعيش المسلم آمناً في سربه معافى في بدنه ويجد قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. يقول صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع: "أي يوم هذا؟" قالوا يوم حرام، قال: "أي شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام، قال: "أي بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
وهو الدين الذي ألَّفَ الله به القلوب فتآخت وتآلفت وتحابت وآثر بعضها بعضاً وكانوا كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً، يقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ولا يتحقق هذا الدين ولا يكمل هذا البناء إلا بالنصيحة، وكان الدين النصيحة لأن المؤمنين كالجسد الواحد فمن نصح لنفسه وجب أن ينصح لغيره لأن الجسد واحد والبناء واحد والمؤمنون كالرجل الواحد يقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتآلفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"؛ ولأن الإنسان ينسى ويغفل قال تعالى عن أبي الإنسان آدم (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طـه:115]، ولا علاج للنسيان إلا النصيحة لأنها تذكير للعبد يقول الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، والنصيحة علامة الإخلاص لأن النصح هو الإخلاص قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة:91]، والإخلاص مطلوب في العمل قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [البينة: من الآية5].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة"، بل ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً له قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف: من الآية110]، بل ولا يدخل الجنة إلا أهل الإخلاص قال تعالى: (إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الصافات:40-43]، والإخلاص حرز دائم من الشيطان يقول الله تعالى: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [صّ:82] ، (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر:40]، والنصيحة علامة الصدق؛ لأنه لما صدق في انقياده واستسلامه لله صدق في نصح الناس إلى الانقياد والاستسلام لله فصدق مع ربه وصدق مع نفسه وصدق مع إخوانه، وديننا هو دين الصدق والله يحب الصادقين والله مع الصادقين، والصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ودرجة الصديقية بعد درجة النبوة ولذا بلغ أبو بكر درجة الصديقية في إيمانه واستسلامه، قال أبو بكر المزني: "ما فاق أبو بكر صحابة محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة ولكن بشيء كان في قلبه" والذي كان في قبله الحب لله تعالى والنصيحة في خلقه يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم: من الآية8] ، أي توبة صادقة والنصيحة علامة الإيمان، والإيمان عزيز ولا يتصف به إلا الأعزاء، رفع الله أهله الدرجات العالية قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [المجادلة: من الآية11]، وأمن الله أهل الإيمان في الدنيا وأمنهم في الآخرة وجعلهم مهتدين قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
وجعل أهله هم خير البرية قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة:7]، وجعلهم به أولياءه الذين أخرجهم به من الظلمات إلى النور وأولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة: من الآية257].
وقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63]، وأعلى منازلهم في الجنة بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء"، قالوا يا رسول الله درجة الرسل لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى؛ والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: من الآية71].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" والنصيحة أمن من العذاب لأنها إصلاح للمجتمع ووقاية له من المعاصي ووقاية له من الرذائل وحث على الفضائل يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يرسل عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
وقد توعد الله الذين تركوا النصيحة باللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79]، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:159-16]، والنصيحة سفينة النجاة فنحن في بحر متلاطم بالفتن التي يصبح فيها الإنسان مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا الفانية يقول صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كقوم استهموا على سفينة كان بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً لم نؤذ من فوقنا فلو تركوهم جميعاً ولو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعاً"؛ ولأنها خيرية هذه الأمة فإن داومت علها دامت لها الخيرية وإنْ تركتها ذهبت عنها خيريتها قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: من الآية110].
وبهذا الخير فتح الله القلوب قبل فتح البلاد وبه دخل الناس في دين الله أفواجاً وبه تمكن الإيمان من القلوب وبه يثبت الناس على صراط الله المستقيم وتصفوا من الشيطان الرجيم ويسلموا من طرق أهل الجحيم، والنصيحة رسالة الرسل عليهم السلام فما من رسول إلا وقال لقومه: إني لكم ناصح أمين، ونصح صلى الله عليه وسلم أمته منذ أرسله الله تعالى إلى أن توفاه، وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وبَيَّنَ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة قال عمرو بن أخطب: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضور صلاة الظهر ثم نزل فصلى بنا الظهر ثم صعد فخطبنا حتى حضور العصر ثم نزل صلى بنا العصر ثم صعد فخطبنا حتى حضور صلاة المغرب فبين لنا ما كان وما هو كائن".
والنصيحة ربح لأنها إيمان وعمل صالح وتواص بالحق وتواص بالصبر ولأنها مضاعفة للأجر ومغفرة للوزر ورفعة في القدر يقول تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد بين صلى الله عليه وسلم أهمية النصيحة وشمولها للدين كله لأنها تدعو المسلم إلى سلامة الناس من لسانه ويده، وتدعو المؤمن إلى أمن الناس منه على أنفسهم وأموالهم، وتدعو المحسن إلى أداء حق الله تعالى ليعبده وكأنه يراه فإن لم يكن يرى الرب فإن الرب تعالى يراه، وأداء حقوق الخلق. وتدعو المهاجر إلى أن يهجر ما نهى الله عنه يقول صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"
فهي واجبة لجميع طبقات الناس الخاصة والعامة وذلك لحاجتهم إليها أشد من حاجتهم للطعام والشراب؛ لأن حاجتهم إلى الطعام والشراب محدودة وحاجتهم إلى النصيحة غير محدودة وأهل النصيحة أبر بالأمة من الآباء والأمهات؛ لأن الآباء والأمهات يمنعون من نار الدنيا وأهل النصيحة يمنعون من نار الآخرة، يقول جرير بن عبد الله البجلي: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" ولما قدم عليه ضماد وقال: أقرأ عليك يا محمد من المس، قال: "اسمع مني"، فأسمعه: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" قال: أعد علي، فأعاد عليه ثلاثاً، قال: لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والمشعوذين فما سمعت مثل كلامك هذا، امدد يدك أبايعك. قال: "وعلى قومك"؟ قال: وعلى قومي. لماذا على قومه؟ لأن الدين النصيحة. ولقد بلغ صلى الله عليه وسلم النصيحة للصغار والكبار والذكور والإناث والعرب والعجم والملوك ورعاياهم وبلَّغها للزوجين في فراشهما وللصبي على الطعام وللغلام على الحمار وللناس في أسواقهم واجتماعاتهم بل وفي البيوت وغادر الدنيا على النصيحة، إذ يقول وهو على فراش الموت: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال وهو في غرغرة الموت: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم" حتى انقطع صوته وقد ورّثَ أمته هذا الواجب العظيم وجعلها عامة على الجميع كل بحسبه إذ يقول: "بلغوا عني ولو آية"، ويقول: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار"، وقد جعل النصيحة خمسة أقسام:
النصيحة لله تعالى: وذلك بإفراده بالعبادة في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأداء حقه والإخلاص له وطلب محبته والخوف منه ومراقبته واللجوء إليه ورجائه وصرف أنواع العبادة له والعمل بأوامره وترك نواهيه.
والقسم الثاني: النصيحة لكتاب الله: أي القرآن الكريم، وذلك بقراءته والعمل به والتحاكم إليه وطلب الاستشفاء به والائتمار بأوامره والانتهاء بنهيه وتصديق خبره والعمل بحكمه ودعوة الناس به ودعوتهم إليه وتوقير أهله.
والقسم الثالث :النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: وذلك بتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ومحبته أكثر من محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين والاقتداء به والتمسك بسنته والتخلق بأخلاقه وهذه الثلاث نصيحة للنفس بأداء حق الله تعالى والعمل بكتابه والاقتداء برسوله.
والقسم الرابع :النصيحة لولاة الأمر: بإعانتهم على الحق وتحذيرهم من الباطل وطاعتهم في غير معصية الله وعدم الخروج عليهم إلا أن يرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان والدعاء لهم بالصلاح والرشد وحب اجتماع الأمة عليه.
والقسم الخامس :النصيحة لعامة المسلمين: وذلك بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومحبة الخير لهم كمحبته للنفس ويدخل فيهم دخولاً أولياً الأهل والأقرباء، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: من الآية6]، وقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الرجل راع في أهله مسؤول عن رعيته"، وقوله: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصح لم يجد رائحة الجنة"، ويدخل في هذا عموم الناس يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره منهم ما يكره من نفسه، يدعوهم إلى الطاعة ويحذرهم من المعصية يأمرهم بكل خير ويحذرهم من كل شر وينكر عليهم المنكر حسب الاستطاعة إما باليد وإما باللسان وإما بالقلب وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان.
فيا أيها المسلمون إن هذا الواجب الذي ضيعناه، أي نصيحة النفس في هيئتها وفي لباسها وفي كسبها وفي نيتها وفي قولها وفي فعلها وفي تعاملها، كم من المخالفات أقررناها ورضينا بها وعملناها .وأين نصيحة الأهل في البيوت والطرقات والأسواق والمدارس؟ كم من المنكرات في البيوت؟ وكم من المنكرات في الألبسة وفي التعامل؟ وأين نصيحة عموم المسلمين؟ كم من المعاصي والمنكرات لا ننكرها ولو بالدعاء، ولو ببغض أهلها، ولو بالتحذير منها ومن أهلها؟ وكم من الغش من بعضنا لبعض؟ ونسينا أن "من غشنا فليس منا"، ونسينا أن "المؤمن مرآة أخيه" وأنه كنفسه. يقول تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء: من الآية29]، واتقوا الله أيها المسلمون وقوموا بهذا الواجب العظيم الذي ضيعناه فضاعت أنفسنا وأهلنا والمجتمع كله واعلموا أن ضياع النصيحة إيذان بعذاب عاجل ولا يظلم ربك أحداً.