الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
إن شجرةَ الإيمان شجرةٌ عظيمة النفع، كبيرةُ الفائدة، عظيمةُ الأثَر، لها مكانٌ تُغرَس فيه، ولها سقيٌ خاص بها، ولها أصل وفرع و ثَمَر؛ أما مكانها الذي توضع فيه فسائلُها وبذورها، ومنه تنشأ فروعها، فهو قلب المؤمن... أما سقيها فهُو وحْيُ الله جلا وعلا؛ أما أصلُها فهو أُصُولُ الإيمانِ الستةِ، وأما فروعها فإنها الطاعات الزاكية، والقربات المتنوعة، وأما ثمارها فهي كُلُّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وكُلُّ نِعْمَةٍ ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين.. عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، وراقبوه مراقبة مَن يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
عباد الله: كم هو جميل بعبد الله المؤمن أن يستفيد من هذه الحياة الدنيا من تجدد أوقاتها، وتنوع منافعها، أن يستفيد من ذلك رفعة في الإيمان، وقوة في الطاعة، وحسن إقبال على الله -جلا وعلا-، وتزود بزاد التقوى التي هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله.
عباد الله: وحيث إننا في هذه الأيام نعيش موسما كريما، ألا وهو قطف ثمار النخيل، وجني الرطب، وهو موسم كريم، له شأنه منذ القدم، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان الناس إذا رأوا أول الرطب أو أول ثمر النخيل جاءوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أخذه قال: "اللهم بارك في ثمرنا، اللهم بارك في مدينتنا، اللهم بارك لنا في مُدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم إن إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك، وإن إبراهيم دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه، ثم أخذ الثمر وأعطاه لأصغر وليد له".
عباد الله: إن لهذا الموسم شأنا في تجدد هذه النعمة، وحصول هذه المنة التي يتلقاها أهل الإيمان بحمد المنعم وشكره -جلا وعلا- على أفضاله المتوالية، ونعمه المتتالية .
عباد الله: وكيف يتم للمسلم أن يستفيد من مثل هذا الموسم زيادة في الإيمان، وإصلاحا لحاله مع الله -جلا وعلا-؟ روى الترمذي في سننه، عن شعيب بن الحبحاب -رحمه الله- قال: أُتي أنس بن مالك -رضي الله عنه- بطبق فيه رطب، فقال أنس -رضي الله عنه-: يا أبا العالية، كلْ من هذا التمر، من الشجرة التي جعلها الله مثلا للمؤمن، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:24-25].
وقد جاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد بهذه الشجرة النخلة، كما في حديث ابن عمر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أخبروني عن شجرة لا يتحاتّ ورقها"، وذكَر شيئا من صفاتها، قال: "جَعَلَهَا اللهُ مَثَلَاً للمسلم"، قال: فخاض الناس في شجر البوادي، فلما لم يقولوا شيئا قال -عليه الصلاة والسلام-: "هي النخلة". وجاء في حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من الشجر لشجر بركته كبركة المؤمن"، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- في هذا المعنى ألفاظ عديدة.
وهاهنا -عبادَ الله- نقف وقفة إيمانية في التأمُّلِ في هذا المثَلِ البديع الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للإيمان وللمؤمنين؛ تبيانا لهذا الأمر، وتجلية له، بأمر مشاهد محسوس، ومرئيٍّ ملموس، فكلنا نرى النخيل، ونرى تنوعها، وتنوع ثمارها، وعموم منافعها، وكثرة فوائدها.
فهذه الشجرة المباركةُ -عباد الله- جعلها ربنا -عز وجل- مَثَلاً للمؤمن، بحيث يستفيد المؤمن من هذا المثل معرفة لأصوله الراسخة، وفروعه الباسقة، وثماره اليانعة، وفوائده العميمة في الدنيا والآخرة.
وفي الآية ذَكَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- أربعة أوجه للشبه بين المؤمن و النخلة:
أما الأول: عباد الله، فهو وصفُ الشّجرة بأنها طيبة، وهكذا الشأن في المؤمن؛ فإنه طيّب في أقواله، وفي أعماله، وفي حَرَكَاته وسكناته؛ ولهذا يقال له يوم القيامة عند دخوله الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73].
ثم الأمر الثاني أنّ الشجرة لها أصل ثابت، وكذا الإيمان له أصل ثابت، وأساس راسخ في قلب المؤمن.
والأمر الثالث أن الشجرة لها فروع باسقة، وكذا الإيمان له فروع عظيمة، وهي الأعمال الزاكية، والطّاعات العظيمة، والقربات المتنوعة التي يتقرب بها المؤمنُ إلى الله.
وأما الأمر الرابع -عباد الله- فهو وصف الله -جلا وعلا- لهذه الشجرة بأنها تؤتي أكُلَها كُلَّ حِينٍ، وهكذا الشأن في المؤمن، ثمار إيمانه لا حَدَّ لها، ولا عَدَّ لها في الدنيا والآخرة.
عباد الله: وتأمَّلْ هُنَا وصف الله -جلا وعلا- للمؤمن وللإيمان بالنخلة؛ فإن الحكمة في ذلك ظاهرة، فإن النخلة لا بد فيها من ثلاثة أشياء: عِرْقٌ راسخٌ، وأصلٌ قائمٌ، وفرعٌ مثمرٌ، وهكذا الشأن في المؤمن، وهكذا الشأن في الإيمان، لا بد فيه من ثلاثة أشياء: اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح بطاعة الله -جلا وعلا-.
عباد الله: إن شجرة الإيمان شجرةُ عظيمة النفع، كبيرة الفائدة، عظيمة الأثَر، لها مكان تُغرس فيه، ولها سقيٌ خاص بها، ولها أصل وفرع و ثَمَر.
أما مكانها الذي توضع فيه فسائلها، وتوضع فيه بذورها، ومنه تنشأ فروعها، فهو قلب المؤمن، قال الله -تبارك وتعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر:22]، فمكان هذه الشجرة -عباد الله- هو قلب المؤمن، يقول الله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) [الأنعام:125]، فمكانها الذي فيه تُغْرَسُ هو قلب المؤمن.
أما سقيها -عباد الله- فهو وحْيُ الله -جلا وعلا-، كلامُهُ -سبحانه-، وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فبهما تحيا هذه الشجرة وتنمو نموا مُطَّرِدا، يقول الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122]، والنور هنا وحي الله -تبارك وتعالى- الذي به تحيا هذه الشجرة، ويقول -جلا وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيِكُمْ) [الأنفال:24].
أما أصلُها -عبادَ اللهِ- فهِيَ أُصُولُ الإيمانِ الستةِ التي لا قيام للإيمان، ولا صلاح للدين، ولا استقامة للإسلام إلا بها، وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ قال الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة:177]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:136]، ويقول -جل وعلا-: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة:5]، ويقول تعالى: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285].
وأما فروعها -عباد الله- فإنها الطاعات الزاكية، والقربات المتنوعة؛ فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج من الإيمان، وكل طاعة يتقرب بها المؤمن إلى الله فهي من الإيمان، وكذلك بُعد العبد عن الحرام كله ذلك من الإيمان، بُعْدُهُ عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك من المحرمات، كل ذلك من فروع شجرة الإيمان، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهْبَةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وأما ثمارها -عبادَ اللهِ- فهُو كُلُّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وكُلُّ نِعْمَةٍ، ذلك كلّه من ثمار الإيمان، ثمار الإيمان في الدنيا حياة طيبة وحياة سعيدة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
أما ما أعدّه الله -تبارك وتعالى- في الآخرة لأهل الإيمان من الثمار المباركة، والنتائج الطيبة، والنعم التي لا تعد ولا تحصى، فأمْرٌ لا حصر له: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]، والآيات -عباد الله- في القرآن كثيرة، المبيّنة لثمار الإيمان، وعظيم عوائده على أهله في الدنيا والآخرة.
وإنا لَنسأل الله -جَلَّ وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يُزَيِّنَنَا بزينة الإيمان، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، ثم اعلموا -رعاكم الله- أن الحياة شجرة، السَّنة فروعها، والأيام أغصانها، فمن كانت أنفاسه في حياته ذِكرٌ وطاعةٌ فثمرةُ شجرتِه خيرٌ وبَركَةٌ في دنياه وأخراه؛ وأما من كانت أنفاسه في هذه الشجرة أنفاسا ليست بطيبة فإنه يجني من هذه الشجرة ثمرة هي ثمرة الحنظل، عياذا بالله!.
عباد الله، ألا فلنتقِ الله ربنا، ولنحافظ على طاعته في حياتنا وأيامنا وأوقاتنا، ولتكن الحياةُ لنا سُلَّما لطاعة الله، ومُرْتَقَىً لما يقرِّب إلى الله، وبُعد عن ْكُلِّ ما يُسخطه جل وعلا، هدانا الله وإياكم أجمعين لأقرب من هذا رشَدا، ووفَّقَنا لاتباع رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
واعلموا -رعاكم الله- أن الكيِّسَ مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمَرَكُم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلَّى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد على آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...