الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | بركات أحمد بني ملحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
سارعوا إلى جنة لا توصف، تحار فيها العقول، مَن يدخلْها ينعم ولا ييأس، لا تَبْلَى ثيابُه، ولا يفنى شبابه، ولا يمل مقامه؛ كيف لا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" رواه البخاري؛ الدنيا الحقيرة التي لا قيمة لها، فلو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما شرب منها كافر شربة ماء ..
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعبادة المتقين نزلا، ونوع لهم الأعمال الصالحات ليتخذوا منها إلى الجنة سبلا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى ولم يتخذ -صلى الله عليه وسلم- سواها مقصدا وشغلا، وعلى آله وصحبة الطاهرين ماتتابع القطر والندى.
يقول -سبحانه و تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [الزمر:73-75].
يا حبذا الجنة واقترابها | طيبة وبارد شرابها |
عباد الله: سارعوا إلى دارٍ فيها مالا عينٌ رأَتْ، ولا إذن سمعَت، ولا خطر على قلب بشر؛
سارعوا إلى دار مفتاحها لا اله إلا الله، أسنانه شرائع الإسلام، مَن جاء بمفتاح له أسنان فتحت له أبواب الجنان، ومَن جاء بمفتاح ليس له أسنان وقف ببابها حيران.
سارعوا إلى جنة، وما أدراك ما الجنة! نورٌ يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصرٌ مَشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وملك كبير، وصحبة دائمة، وحياة لا تنقطع, هي هدفنا المنشود، وأملنا المقصود، تستأنس بها النفوس الزكية، وتشرئب إليها العقول الذكية.
سارعوا إلى جنة لا توصف، تحار فيها العقول، مَن يدخلْها ينعم ولا ييأس، لا تَبْلَى ثيابُه، ولا يفنى شبابه، ولا يمل مقامه؛ كيف لا؟ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" رواه البخاري؛ الدنيا الحقيرة التي لا قيمة لها، فلو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما شرب منها كافر شربة ماء.
سارعوا إلى جنة ثمن طوب قصورها ذِكْرُ الله وسبحان الله والحمد لله، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى وهو في السماء في رحلة المعراج ملائكة يبْنون قصراً لَبِنَة من ذهب ولبنة من فضة، ثم رآهم وهو نازل قد توقفوا عن البناء، فسأل: لماذا توقفوا؟ قيل له: إنهم يبنون القصر لرجل يذكر الله، فلما توقف عن الذكر توقفوا عن البناء في انتظار أن يعاود الذكر ليعاودوا البناء.
عباد الله: إننا بحاجة إلى أن نتذكَّرَ أوصاف الجنة دائما للشوق إليها، وللزهد في هذه الدنيا الزائلة التي نتقاتل من أجلها، ونتباغض بسببها، وبحاجة للإكثار من الأعمال الصالحة، فكلما أراد المسلم أن يهم بمعصية تذكَّرَ أنَّهُ لو تركها عوَّضَهُ الله خيرا منها، ومَن هَمَّ بفاحشةٍ تذكَّر أنَّ الحُورَ العِين بانتظاره، ومَن همَّ بالخَمر تذكَّر خمر الجنة، أنهارٌ من خَمْرٍ لَذَّة للشاربين... الجنة "فيها مالا عينٌ رأَتْ، و لا أُذُنٌ سمِعَتْ، و لا خَطَرَ على قلبِ بشَر"، "لَمَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنة خيرٌ مِن الدنيا وما فيها".
هل رجوتَ الجنة يوماً؟ هل سكبت لها الدمع شوقا؟ هل تخيلت اليوم الذي ستدخل فيه الجنة؟ هل تخيلت أسوارها وأنوارها وقصورها وحورها؟ هل تخيلت الملائكة وهي بانتظارك عند كل باب؟ هل تخيلت خزنتها يقولون لك: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين؟ هل تخيلت الملايين من البشر على أبواب الجنة؟ ماذا أعدت لها؟ بماذا ضحيت لها؟.
نعم يا عبد الله، تعال معنا لنتحدث عن شيء من أوصاف دار الخلد، دار السلام، جنة الله؛ أما بالنسبة لعدد الجنان فهي ليست جنة واحدة، وإنما جنانٌ كثيرةٌ، في كل جنةٍ درجاتٌ ومنازلُ، أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ -وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ- فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ -وفي رواية إنها جنان كثيرة- وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" رواه البخاري.
إذا -عباد الله- فهي ليست جنة واحدة، إنها جنان تتفاوت في الدرجات والنعيم، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55]، وعنه -صلى الله عليه وسلم-: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهَا وَمَا فِيهَما، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهَا وَمَا فِيهَما، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءَ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" رواه البخاري ومسلم.
وأما بالنسبة لدرجات الجنة -عباد الله- فقد جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ" فيض القدير للمناوي.
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إنَّ عددَ درجاتِ الجنَّةِ بعددِ آيِ القرآن، فمَن دخل الجنة ممن قرأ القرآن فليس معه أحدٌ؛ لذلك يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "في الجنة مئة درجة أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيل الله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللهَ فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، منه تفجر انهار الجنة" رواه البخاري ومسلم.
وأما بالنسبة لارتفاع درجات الجنة -عباد الله- فإن الجنة ذات درجات عالية، وجاءت أحاديث تصف أن بين الدرجة والأخرى كبعد الكوكب الغابر في الأفق عن الأرض؛ وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الدرجات يراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم"، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" رواه البخاري ومسلم.
وأما بالنسبة لتفاوت نعيم أهل الجنة -عباد الله- فكما أن أهل الدنيا في الدنيا يتفاوتون في النعيم، كذلك في الجنة تفاوُت بين أهلها في النعيم، فأهل الدرجات ليسو في نعيم واحد؛ وإنما لكل درجة صفاتها الخاصة ونعيمها الخاص، لا يوجد في غيرها، فكلما علت الدرجات اتسعت واتسع نعيمها معها.
فالشهيد يُزَوَّجُ باثنتين وسبعين من الحور العين، فعنه -صلى الله عليه وسلم-: "للشهيد عند الله -عز وجل- ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" رواه أحمد.
أما تفاوتهم في الحسن والجمال فإن أهل الجنة يتفاوتون في الحسن والجمال وذلك بتفاوت مراتبهم وجناتهم، فروى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أولُ زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بيينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يُرَى مُخُّ ساقِها من وراء لحمها من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشيا، لا يسقمون، ولا يتمخطون، ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، وقود مجامرهم الألوة -قال أبو اليمان: يعني العود- ورشْحهم المسك" رواه البخاري ومسلم.
وأن هذا الحسن والجمال لا يتوقف عند حد معين بل يزيد و يتجدد أبدا، حتى روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة لَسُوقَاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله! لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا!" رواه ومسلم؛ وكما روي بأسانيد فيها ضعف بأن أهل الجنة يتفاضلون في رؤية الله -عز وجل- فمنهم من ينظر إليه -جل وعلا- بكرة وعشيا, ومنهم من ينظر إليه كل جمعة.
فحري بك -يا عبد الله- أن تطمح للدرجات العلى في الجنة ليزداد نعيمك بكل صوره وأن لا ترضى لنفسك بالدرجات الدنيا منها مستجيبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "فإذا سألتم الله فأسالوه الفردوس؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، منه تفجر انهار الجنة".
فكما أن الناس يتفاضلون في المنازل في الدنيا فإنهم سيتفاضلون في الآخرة، كلٌّ على قدر عمله الصالح، قال تعالى: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21].
إن من العجب العجاب -عباد الله- من بعض الناس أنه لو تقدم عليه أحدٌ من أقرانه أو زملائه بزيادة درهمٍ أو علو منصبٍ ضاق صدره، وتنغص عليه عيشه، فيحاول جاهداً أن يسبقه وينافسه، بينما لا نجد هذا الشعور وهذا التنافس بمن سبقه في مجال الطاعات والعمل الصالح؛ فهل نتنافس على درجات الدنيا الزائلة وندع درجات الجنة الباقية؟.
عباد الله: إن الموظف منا يسعى أن يرفع درجته في المجتمع ليعيش منعماً فتراه يدخل في مسابقاتٍ وظيفية أو يتغرب عن أهله طلباً للشهادة العالية، ويطالب بترقيةٍ في السلم الوظيفي لترتفع درجته وعلاوته في تلك الدائرة وبالتالي ترتفع مكانته ووجاهته في مجتمعه، مع أن هذه الوظيفة وتلك الدرجة وذلك الكرسي الذي يحرص عليه وينافس من أجله لن يدوم فيه وقد يموت قبل أن يصل إليه، وليس هكذا طموح الإنسان في الدنيا، وأن المؤمن الكيِّس الفطن ينبغي أن يحرص كل الحرص على أن يرفع درجته في جنةٍ سيخلد فيها أبداً إن شاء الله تعالى، ليزداد نعيمه وملكه فيها فتزداد لذته وسعادته.
عباد الله: إن الغرفة والدرجات العالية من الجنة لا تنال بكثرة المال أو الجاهِ أو الأولاد وإنما تنال بالإيمانِ والعملِ الصالح، قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ:37].
ولقد اخبرنا الله تعالى بأن كل المؤمنين الذين يعملون الصالحات ستكون لهم درجات عالية في الجنة, قال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا) [طه:75].
كما بين لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن كل عملٍ صالح يزيدنا حسنات، ويرفعنا درجات، حيث قال: -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازدت درجةً ورفعة".
لا دارَ للمرءِ بعدَ الموتِ يَسكُنُها | إلَّا التي كانَ قَبَلَ الموتِ يَبنيها |
فَإِنْ بَناهاَ بخيرٍ طابَ مَسكَنُهُ | وإِنْ بناهاَ بِشَرٍّ خابَ بانيها |
لا تَركَنَنَّ إلىَ الدُنياَ وزينَتِها | فالموتُ لاَ شَكَّ يُفنيهاَ وَيُبديها |
واعمَل لدارٍ غَداً رِضوانُ خَازِنِهَا | والجارُ أَحمدُ والرحمنُ بانيها |
قُصورًهاَ ذَهَبٌ والمِسكُ طِينَتُها | والزعفرانُ حَشيشٌ نابتٌ فيها |
الخطبة الثانية:
نعم يا عبد الله، حاول أن ترفع رأسك إلى السماء عند المساء, ثم انظر إلى أي نجم يلوح لك، وانظر الى بعده الساحق عنك، وتخيل انك سترى درجة من فوقك في الجنة كما ترى هذا النجم.
ألا تريد أن ترفع درجتك إلى مثل هذه الدرجة العالية؟ أليس لك نفسا تواقة إلى الدرجة العالية من الجنة؟ ألا تحرك قلبك و تسأل ربك من أعماق قلبك بأن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنة؟ ألا تشمِّر إلى درجات رفيعة وزوجات حسان كثيرة ونعيم أبدي لا ينتهي؟ ألست في هذه الدنيا تزرع لآخرتك و ليس لدنياك؟ إلى متى تسوِّف توبتك وعزيمتك لنيل هذه الدرجات التي تريد منك عملا صادقا وإخلاصا؟.
اعلم بأن من أكثر الأمور التي تحرم العبد من الدرجات العلى في الجنة هو تضيعه للأوقات فيما لا ينفع؛ فإن تضييع الوقت هو في الحقيقة انشغال عن الأعمال الصالحة التي ترفع الدرجات,
فتفكَّرْ -رحمك الله- بالذين يمضون وقتهم في الجلوس في معصية الله إما تفكُّها في أعراض الناس، أو في الجلوس أمام الأفلام و المسلسلات، أو الاعتكاف الطويل على القنوات الفضائية ينتقلون من قناةٍ إلى أخرى يسعرون شهواتهم، ويمتعون أنظارهم بما ستشهد به عليهم يوم القيامة.
ثم ماذا بعد ذلك سوى الحسرة والندامة والعذاب في النار؟ ثم تدني الدرجة والنعيم في الجنة؟ وإذا نصح مثل هؤلاء الناس للتنافس في الأعمال الصالحة لعلها أن ترفع درجتهم في الجنة قالوا نتمنى أن يدخلنا الله الجنة و لو عند بابها، أي في أدنى درجاتها.
فانظر إلى همة هؤلاء نحو درجات الجنة، وانظر في المقابل إلى همتهم العالية نحو متاع الدنيا الزائل، في حين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حثنا على التنافس على نيل الدرجات العلى من الجنة وليس على درجات الدنيا الزائلة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ، أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ".
عباد الله: لا يستوي الذي يعمل والذي لا يعمل في الدرجات, ولا يستوي الذي يمضي وقته في طاعة الله مع من يمضيه في أمر مباح فضلا عن معصية الله, وهل تطلب الدرجات من غير عمل صالح؟ قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21].
نعم، كما قال محمد بن النضر: ما من عامل يعمل في الدنيا إلا وله من يعمل في الدرجات في الآخرة، فإذا أمسك أمسكوا، فيقال لهم: مالكم لا تعملون؟ فيقولون: صاحبكم لاهٍ!.