المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
أنَّ ما يَحدث في هذا الكون من متغيرات وكوارث هي رسائل خطاب لأهل الأرض، تخاطبهم بعظمة الخالق وعجز المخلوق وضعفه، تُخاطبهم بأن الأمر لله من قبلُ ومن بعد، وأن المخلوق مهما طغى وبغى، ومهما تكبر وتجبَّر، فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير؛ فمهما أوتيت البشرية من تقدمٍ وقوةٍ وعلم، يقفوا عاجزين حائرين أمامَ هذه الآيات والْمَثُلات ..
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- حقَّ التقوى، واعلموا أن تقوى الله الملك الرحمن هي العصمة من البلايا، والمنعة من الرَّزايا؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطَّلاق: 4].
معاشر المسلمين: ويخرج المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- من بيته إلى المسجد مسرعًا، يجرُّ إزاره خلفه، قلقًا فزعًا، ويأمرُ المنادي فينادي: "الصلاةُ جامعة، الصلاة جامعة".
ما الذي أفزعه -صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ما الأمر؟ ما الخبر؟ لقد حدث شيءٌ غريب في هذا الكون، انكسفت الشمس، تغيّر شكلها، ذهب ضياؤها.
ويجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- في المسجد، ويصطفّون خلف نبيهم -صلَّى الله عليه وسلَّم- في صلاةٍ خاشعة، أطال فيها القيامَ والركوع والسجود، حتى إذا قضى النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- صلاته، التفت إلى أصحابه، فقال: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يُخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا"، ثم قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو أن تزني أَمَته، يا أمةَ محمد، لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا".
عباد الله: ولنا مع هذا المشهد وقفات وتأملات:
الوقفة الأولى: في موقف المعصوم -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التعامل مع هذا التغيير الكوني، فلم يتعامل النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع هذه الظاهرة تعاملاً جامدًا، وتحليلاً ماديًّا؛ بل ربط ذلك بالخالق وتدبيره في هذا الكون.
وهكذا أهل الإيمان ينبغي أن تكون لهم نظرةٌ تَختلف عن غيرهم تجاه المتغيِّرات الكونية والكوارث الأرضية، من زلازل وأعاصير وفيضانات، لماذا؟
لأنَّ لهم عقيدة تخبرهم بأن ما يَجري في هذا الكون كله بقدر الله، فلا يَخرج شيءٌ عن إرادته، ولا يَجري شيءٌ من دون مشيئته.
نعم: للكوارث أسبابُها الحسية، وتفسيراتها العلمية، ولكن هذا لا يعني التعلق بهذه الأسباب، ونسيان خالقها ومسببها وموجدها.
فإن الله -تعالى- إذا أراد شيئًا، أوجد سببه، ثم رتب عليه نتيجته؛ كما قال سبحانه: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
بل إنَّ الركونَ إلى التفسيرات المادية والتعلُّق بها مع ما فيه من خلل عقدي - هو من تزيين الشيطان وعمله؛ كما قال سبحانه: (فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 43].
الوقفة الثانية: أنَّ ما يَحدث في هذا الكون من متغيرات وكوارث هي رسائل خطاب لأهل الأرض، تخاطبهم بعظمة الخالق وعجز المخلوق وضعفه، تُخاطبهم بأن الأمر لله من قبلُ ومن بعد، وأن المخلوق مهما طغى وبغى، ومهما تكبر وتجبَّر، فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير؛ فمهما أوتيت البشرية من تقدمٍ وقوةٍ وعلم، يقفوا عاجزين حائرين أمامَ هذه الآيات والْمَثُلات، لا يَملكون ردَّها، ولا يستطيعون صدَّها. وصدق الله: (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11].
الوقفة الثالثة: أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سمَّى كسوف الشمس آية من آيات الله، يُخوف الله بها عباده، فالواجب على أهل الإيمان أن ينظروا إلى هذه المتغيرات الكونية، والكوارث المؤلمة للبشرية أنها آياتُ إنذار من الواحد القهار، فترتجُّ لها القلوب وتدمعُ عندها العيون، وتقشعرُّ لرؤيتها الجلود؛ (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59]، فالتذكر والاعتبار من آلام الأقدار حكمةٌ أرادها الله -تعالى- قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 130].
وإذا حصلت العبرة والذكرى، جاء بعدها الندم والرجوع والتضرُّع لله -تعالى: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الرُّوم: 41].
وكم في هذه الأقدار المؤلمة من الخيرية المخبَّأة تحت ستار الغيب! فكم من هائم غافل أفاق يوم حلَّت الكوارث بأرضِه! وكم من مُضيعٍ لحقوق الله عرف حقَّ الله يوم أن مسه ضر الفواجع! وكم من مُمسك بسط يُمناه حين اعتصر قلبه أسًى من مناظر البائسين المنكوبين!
ناهيكم عن مناظر الإخبات والتضرُّع والدعاء والالتجاء إلى الله، فيحصل في هذه الكوارث من الخيرية والرجوع والإقبال ما لا يَحصل في غيرها، وهذا هو الرجوعُ المعنيُّ في آيات القرآن؛ (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168]، (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزُّخرف: 48].
الوقفة الرابعة: أنَّ العقوبات والكوارث والآيات مرتبطةٌ بمعاصي بني آدم، ولذا حذر النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد أنْ رأى آية ربه من عصيان الله، وانتهاك محارمه؛ فقال بعد أن رأى هذه الآية: "يا أمَّة مُحمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو أن تزني أَمَته".
فهل أحدٌ أعلم بالله، وما يغضبه ويسخطه، ويوجب عقوبته -من محمد بن عبدالله؟!
هذا الفهم النبويُّ عن الله -تعالى- كرَّره المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مواضع كثيرة بلغت حدَّ التواتُر، إنَّ المعاصي سببٌ للعقوبات والمصائب. يُسأل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أنَهْلِكُ وفينا الصالحون: قال: "نعم، إذا كثر الخَبَث".
وقال أيضًا: "إن الناس إذا رأوا الظالِمَ، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يَعُمَّهم بعقابٍ من عنده".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ العبد ليُحْرَم الرزقَ بالذنب يصيبه"؛ رواه الإمام أحمد بسند حسن. "يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال أعوذُ بالله أن تُدْركوهن" بهذه الكلمات يوجِّه المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- نصحه وتوجيهه لعَشَرَةٍ من المهاجرين، فأصغت له الأسماع، وامتدَّت نحوه الأعناق، قال: "ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى أعلنوا بها، إلاَّ ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقص قومٌ المكيالَ، إلاَّ ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْرِ السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم، إلاَّ منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خَتَر قومٌ بالعهد؛ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذ بعضَ ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلاَّ جعل الله بأسهم بينهم"؛ رواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح.
ها قد ارتجّت الأرضُ في عهد الفاروق -رضي الله عنه- فارتجَّ معها قلب عمر، فنادى في الناس وخطب بهم، فقال: "يا أهلَ المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجنَّ من بين أظهركم".
وها هو الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز يوجِّه نُصحه لرعيته، فيقول: "إنَّ الله لا يعذب العامَّة بذنب الخاصة، ولكن يعذبهم إذا ظهر المنكر علانية" فهذه أقوال نبيكم وفهم سادة سلفكم: أنَّ الكوارث مقرونة بالمعاصي.
ومما ينبغي أن يعلم عباد الله: أنَّ هذه العقوبات الإلهيَّة بسبب الذنوب قد تكون حسية خفية غير ظاهر فيها العقوبةُ، كالتفرق والاختلاف؛ كما قال سبحانه: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) [الأنعام: 65]، والحروب: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 65]، وقد تكون أزماتٍ اقتصادية، والتي عبَّر عنها القرآن بـ"السنين". وقد تكون العقوبة بأشياء معنوية، كالذُّلِّ والضعف والهوان. قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ -سَلَّطَ الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"؛ رواه أبو داود، وهو صحيح بمجموع طرقه.
الوقفة الخامسة: أنَّ هذه المتغيرات والكوارث لا تقع إلا بحكمةٍ من الله وعدل منه؛ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصِّلت: 46]، قد دلّنا كتابُ الله أنَّ للعذاب أسبابًا، وأن ذلك غير منفكٍّ عن الإيمان، فينبغي التفرقة فيمن حلت به تلك المواجع.
فإنْ نزلت بأرض المعرضين عن دين الله، المكذبين رسالةَ نبيه -صلَّى الله عليه وسلَّم- فهي عذابٌ وعقوبةٌ؛ قال سبحانه: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة: 49]، وبسبب الكفر والعناد والإعراض حل البطشُ الإلهي على الأمم السابقة؛ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].
وإن حلَّت الكوارث بديار إسلامية، فإنَّ الواجبَ النظر إلى هذه المواجع بمنظارين:
أولاً: بمنظار الابتلاء، وأنَّها تمحيص لأهل الإسلام، وتكفير لسيئاتِهم، ورفعةٌ لدرجاتهم، وامتحان لإيمانهم، وتسليمهم لمكاره الأقدار.
قد صحَّت الأخبار عن المصطفى المختار أنَّه قال: "لا يبرح البلاء بالمؤمن والمؤمنة، حتى يَمشي على الأرض وليس عليه خطيئة". "وما يصيب المؤمن من همٍّ ولا غَمٍّ ولا حُزْن، حتى الشوكة يُشاكها؛ إلا كَفَّر الله بها من خطاياه". "إذا أراد الله بعبده خيرًا، عَجَّلَ له العُقُوبة، وإذا أراد بعبده شرًّا، أمسك عنه بذنبه، حتَّى يُوافِيَ به يوم القيامة".
فليس كل كارثةٍ إذًا هي عُقُوبة، بل قد تكون رحمة لأهلها، وقد وقعت بلايا وكوارث في عصور السَّلف؛ فحصل عام المجاعة، وحدث طاعون عَمْوَاس في عهد عمر، وفي أهله من الخير والصَّلاح ما ليس في غيرهم.
ثانيًا: أنَّ ينظر إلى هذه المواجع بمنظار الإنذار، وأنَّها قد تكون عقوبةً لتقصيرات حدثت، ومنكرات حلَّت، فيخاف العبد المسلم أن تكون هذه البلايا بما كسبت أيدي الناس؛ قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشُّورى: 30].
نعم: لا يُجزم في كارثة وقعت على مسلمين بأنَّ ذلك بسبب خطاياهم خاصة؛ وإنَّما الواجب أنْ يُحاسب أفراد المجتمع أنفسَهم، ويصلحون ما أفسدوا؛ خشيةَ أن تكون تلك عقوبة وقعت بديارهم، وهم لا يشعرون.
الوقفة السادسة والأخيرة: أنَّ التحذير من المعاصي وقت المحن لا يعني اتِّهام الغير بالتقصير، ورميهم بالفسق؛ فهل كان الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين خاف عذاب ربِّه، وحذر الناس من المعاصي - متَّهمًا لأصحابه بالسوء أو حاكمًا عليهم بالانحراف؟! هل مجتمعنا اليومَ خيرٌ من مجتمع محمدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصحابته الكرام؟!
فيا أيها الذين آمنوا: ها هي المحن من حولكم تستعتبكم، (فتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). استدفعوا البلاءَ بكثرة الاستغفار؛ (...وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] واتقوا كوارث الدَّهر بالصلاح والإصلاح؛ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
كونوا من أولي البقية الذين ينهوَن عن الفساد في الأرض، أكثروا من صدقة السر؛ فهي تطفئ غضبَ الرب، تبرعوا للمستضعفين المحتاجين والآنِّين.
ارجعوا إلى ربكم حقًّا وصدقًا، كما رجع خيار أمتكم، الذين جمعوا العملَ الصالح مع الخوف من الله في أزماتهم. ونعوذ بالله أن نكونَ مِمَّن جمع الخطايا مع الأمن من مكر الله.
نعوذ بالله أن نكون ممن عَمِيَت بصائرهم، فغرَّتْهم الدنيا عن الدين. نعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
فيا إخوة الإيمان: إنَّ المتأمل في حياة البشرية في عصورهم المتأخرة لَيَرى بعين البصر والبصيرة كثرةَ الكوارث على أهل الأرض: "زلازلُ مدمرة، براكينُ مفجعة، حروبٌ طاحنة، فيضانات مشرِّدة، أعاصير مروِّعة، أزمات اقتصادية مفقرة، أوبئة مميتة"، وألوانًا أخرى من الغِيَر، ما عرفتها البشرية بهذا الحجم المتتابع المتسلسل. وإنَّ مما يُؤسف له أن يكون التفسير المادي لهذه الكوارث هو الأعلى صوتًا في إعْلاَم المسلمين.
فالأعاصير: بسبب تيار هوائي.
والغبار: بسبب منخفض جوي.
والطوفان: سببه زيادة منسوب الماء.
وهكذا كل ظاهرةٍ تفسَّر تفسيرًا ماديًّا صِرْفًا.
فأين مدبِّرها؟! أين مصرِّفها؟! أين خالقها؟! أين القهار موجدها؟!
أين قولَ العظيم الجبَّار: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
هذه التفسيرات الحسية القاصرة لا تُحرِّك القلوبَ إلى ربِّها، وإنَّما هي سبب من أسباب الغفلة، وقسوة القلب، وقلة الاتعاظ.
معاشر المؤمنين: ومع كلِّ كارثة وخَطْبٍ نسمع الكلمة الصادقة والنُّصح المشفق من العُلماء وطلاب العلم، يُصبِّرون الناس على المصائب، ويذكِّرون بالله، ويحذرون من المعاصي بأدلة واضحة صريحة مفهومة؛ فما حُلَّ بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، ومع ذلك نرى في الجهة أقليةً من الموتورين المشككين يسفِّهون قولَ الناصحين، ويُقزِّمون رأيهم، ويتهمون نواياهم.
فأحدهم: يرى أنَّ هذا استغلالٌ للأوجاع؛ لتمرير الفكر المتطرف.
وآخر: يرى أن هذا استغلالٌ (أيديولوجي) للكوارث.
وآخر يقول: أنا –شخصيًّا- أعتبر ذلك إرهابًا فكريًّا، واستغلالاً لنصوص الدين.
ورابع: يَعُدُّ أن ربط الكوارث بالذنوب هو بسبب سيطرة الأفكار القديمة، وليته سَمَّى لنا هذه الأفكار القديمة، وأول من قال بها.
لا ندري -والله- لماذا يأْنَف هؤلاء أن يحذر الناس من المعاصي والمنكرات؟! لماذا يَشْرَقون حين يطالب بإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومُحاربة الفساد والمفسدين؟!
لماذا يكرهون أن يسمعوا عبارة: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، وقد قالها الله لأصحاب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم؟! (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
عباد الله: لقد شوش هؤلاء، ولَبَّسوا في قضية رَبْط الكوارث بالمعاصي بشبه يضيق المقام عن مناقشتها، ولعلَّ أبرز ما ردَّده هؤلاء شبهتان:
الشبهة الأولى: أنَّ هناك بلادًا أفجر وأفسق؛ فلماذا لم تنزل بها هذه الكوارث المؤلمة؟
وإننا لنعجب من جُرأة هؤلاء على الله، هل هذا الطرح هو محاسبةٌ لأفعال الله؟! (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]..
هل نَسِيَ هؤلاء أنَّ العذاب قد يؤجل على الكافرين؟! (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 45]، (فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطًّارق: 17]، وفي الحديث: "إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". هل تغافل هؤلاء أن العقوبة قد تكون معنوية، أنْ يطمسَ الله على قلوبهم، فلا يهتدون إلى سواء السبيل؛ كما طبع الله على قلوبِ اليهود، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، بل طبع الله على قلوبهم فهم لا يهتدون.
وأمَّا الشبهة الأخرى التي ردَّدَها هؤلاء المشككون، فتقول:
ما ذَنبُ الأبرياء من النساء والأطفال حين تقع عليهم هذه الكوارث، كيف يؤخذ هؤلاء بجريرة غيرهم؟!
وأما هذا التلبيس يقال له:
أولاً: ليس كل من وقع عليهم العذاب هو مُستحق للعقوبة، فقد يصاب المؤمن بعذاب لحكم أرادها الله من تكفير السيئات، ورفعة الدَّرجات، ولا يعني ذلك أنه مستحق للعقوبة، وقد قال الله -تعالى- على لسان نبيه أيوب: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص: 41].
ثانيًا: إن الله -سبحانه- أوقع العقوبات على الأمم السابقة، فأغرق قومَ نوح، وأهلك عادًا بالريح، وثَمود بالصيحة، وغيرَهم، وفيهم الأطفال والبهائم.
ثالثًا: إنَّ العقوبات الإلهية إذا وقعت تنزل عامَّة، فيهلِك فيها الأبرياءُ؛ أنهلِك وفينا الصالحون: قال: "نعم، إذا كثر الخَبَث".
فالصالحون هم من الأبرياء، ومع ذلك حل عليهم الهلاك، وقد أخبر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن: "خسف في آخر الزَّمان، وأنْ يذهبَ ضحيته المجبور، وابن السبيل، والمستبصر، فيهلكون جميعًا، ويبعثهم الله على نياتهم"؛ خَرَّجه مسلم.
نسأل الله -تعالى- أنْ يُريَنا الحق حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا ممن يتعظ بالْمَثُلات، ويعظِّم الله حقَّ التعظيم، وأنْ يهديَنا سواء السبيل، وأن يحفظنا من طوارق الدهر وفواجع الزمان، إنَّه سميع قريب مجيب.
صلوا بعد ذلك على نبيكم -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسلموا.