العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل |
لوحة الأمن نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل، بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية، لوحة الأمنِ نصنعها حينما نحفظ حدود الله، ونتقي محارم الله، ونشكر نعم الله؛ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
الحمد لله الولي الحميد، أمر بالشكر ووعَد بالمزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يريد، ويفعل ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم المزيد.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم.
عباد الله: أمام الأحداث المؤسفة التي تقع في بلادنا المباركة، وكان آخرها ما وقع قبل أيام في مدينة جدة، أذكِّر نفسي وإياكم بنعمة جليلة، هذه النعمة هي مطلب كل أمة، وغاية كل دولة، من أجلها جندت الجنود، وفي سبيلها قامت الصراعات والحروب.
إنها نعمة الأمن، التي كانت أولَ دعوةٍ لأبينا إبراهيم، حينما قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة:126]، فقدّم إبراهيم نعمة الأمن على نعمة الطعام والغذاء؛ لعظمها وخطر زوالها.
ووالله! إن أشهى المأكولات، وأطيبَ الثمرات، لا تُستساغ مع ذهابِ الأمن، ونزولِ الخوف والهلع. إنه لا غناء لمخلوق عن الأمن، مهما عز في الأرض، أو كسب مالاً أو شرفاً أو رفعة.
إن نعمة الأمن هي منة الله على هذه الأمة، قال تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) [الأنفال:26]، وقال -عز وجل-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [القصص:57].
إن نعمة الأمن تشكل مع العافية والرزق الــمُلكَ الحقيقي للدنيا، كما عند الترمذي وابن ماجه بسند حسن، عن عبيد الله بن محصنٍ الأنصاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، مُعافَىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".
إن الديار التي يُفقَد فيها الأمن صحراءُ قاحلةٌ، وإن كانت ذاتِ جناتٍ وارفةِ الظلال، وإن البلاد التي تنعم بالأمن تهدأ فيها النفوس، وتطمئن فيها القلوب، وإن كانت قاحلةً جرداء.
في رحاب الأمن يأمَن الناس على أموالهم ومحارمهم وأعراضهم، وفي ظلال الأمن يعبدون ربهم ويقيمون شريعته ويدعون إلى سبيله، وفي رحابِ الأمن وظلِه تعم الطمأنينةُ النفوس، ويسودها الهدوء، وترفرف عليها السعادة، وتؤدي الواجبات باطمئنان، من غير خوفِ هضمٍ ولا حرمان.
لو انفرط عقد الأمن ساعة لرأيت كيف تعم الفوضى، وتتعطل المصالح، ويكثر الهرج وتأمل فيمن حولك من البلاد ستجد الواقع ناطقاً، واسأل العراق وغيرَ العراق تجدْه على هذه الحقيقة شاهداً.
إن أمراً هذا شأنه، ونعمةً هذا أثرها، لجديرةٌ بأن نبذِل في سبيلها كلَّ رخيص ونفيس، وأن تُستثمَرَ الطاقات، وتُسخَرَ الجهودُ والإمكانات؛ في سبيل الحفاظ عليها وتعزيزها.
عباد الله: الأمن والإيمان قرينان، فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
وإذا تخلى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وهذه هي سنة الله في خلقه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
في دول الغرب فشِلت كل الوسائل التقنية الحديثة والأجهزة الدقيقة التي تحصي الثواني واللحظات، وأفلست كل نظم الأرضِ وحِيَل البشر.
إن الأمن لا يُدرَك بالبطش والجبروت والاستبداد والقهر، ولو كان الأمر كذلك لكان الروس وأضرابهم أنعم الناس بالأمن، وهو في المقابل لا يدرك بالتساهل والتسامح مع المجرمين والمفسدين إلى حد الفوضى، وإلا لكانت بلاد الغرب أكثر بلاد العالم أمناً.
إن الأمن الذي نعيشه ونتفيَّأُ ظلاله، إنما هو منحة ربانية، ومنَّة إلهية، مربوطة بأسبابها ومقوماتها، والتي من أعظمها إقامة شرع الله، وتنفيذ حدوده، وتحقيق عقيدة التوحيد ومناصرتها، والدعوة إليها.
عباد الله: كيف نحافظ على نعمة الأمن؟ لا بد أن ندرك أن نعمة الأمن لا توجد إلا بوجود مقوماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها، والتي من أعظمها توحيد الله والإيمان به، والتخلص من خوارم العقيدة، ومجانبة البدع والخرافات.
وحتى نحافظ على الأمن في البلاد، لا بد من تربية الأمة رجالها ونسائها على طاعة الله، والاستقامة على شرعه، والبعد عن معصيته؛ إن النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة القانون وسلطة الدولة لكي تردعها عن الجرائم؛ لأن رقابة الله والوازع الإيماني في قلب المؤمن يقظ لا يغادره في جميع الأحوال.
ونحافظ على الأمن، بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الفردي والشعبي والرسمي، فهو صمام أمان المجتمع، وبه يحصل العز والتمكين: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) [الحج:40-41].
ونحافظ على الأمن بالعدل في كل جوانب الحياة، فالراعي مع رعيته، والأب مع أهله وزوجاته، والمعلم مع طلابه، والرئيس مع مرؤوسه، والكفيل مع عماله، ومتى تحقق العدل دام الأمن بإذن الله.
ونحافظ على الأمن بتهيئة المحاضن التربوية للشباب، ودعم كل المؤسسات العاملة في تربية الناشئة من حلقات القرآن، والمراكز الصيفية، والمخيمات الدعوية.
ونحافظ على الأمن، بمعالجة أسباب انحراف الأبناء، بسبب ما تعيشه بعض البيوت من فقر، أو نزاعات وشقاق، وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشرد.
ونحافظ على الأمن والاستقرار، حينما يقوم العلماء والمربون بدورهم في احتواء الشباب ومعالجة الأحداث وتقريب وجهات النظر وتهدئة الانفعالات، وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب لترشيد حماسهم وتوجيه انفعالهم وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمة لا في هدمها.
إن الأمن الوطني لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري بحماية الأجيال الناشئة وشباب الأمة من دعوات التغريب، ودعايات الفساد والإفساد، وتحصين أفكارهم من التيارات المشبوهة التي تسمم العقول، وتحرف السلوك.
ولا بد أن يحذر الشاب الغيور من تعجل الأمور، أو الحكم على المواقف والأحداث دون الرجوع إلى العلماء الراسخين الصادقين.
أحبابي الشباب: إن من الحكمة الواجبة أن نتجنب العاطفة الهوجاء، وردود الأفعال المتهورة، متسلحين بالعلم والحلم والصبر، مشتغلين ببناء النفس، ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا نقحم أنفسنا في أمور لا تحمد عقباها، ولا تعلم شرعيتها وجدواها.
نسأل الله تعالى أن يكشف الغمة، ويصلح الأمة، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى.
عباد الله: إن الحديث عن أعمال البغي والفساد في الأرض، من تفجيرات، وإطلاقٍ للنار، واستهانةٍ بالأرواح، وإتلافٍ للممتلكات، وترويعٍ للآمنين، وما يسبقها من انحراف فكري، أوفكر تكفيري؛ إن الحديث عن هذه الأعمال والأفكار، حديثٌ عن فتنة عمياء، فتنت بها طائفة شاذة من شبابنا وأبنائنا، وللأسف!.
ولئن كانت هذه الفتنة قد خبت نارها مؤخراً برهة من الزمن، فإنها لا تزال موجودة، كما وقع هذا الأسبوع في جدة، مما يوجب التحذير منها، وبيان الواجب تجاهها.
إن كل غيور يتساءل أمام هذه الفتنة: إلى متى هذا النزيف؟ إلى متى سيظل الجرح يثعبُ دمًا طاهرًا بريئًا معصومًا محرمًا؟.
إنه، على الرغم من الجهود الجبارة التي يقوم بها رجال الأمن -وفقهم الله- في التصدي لهذا الفكر الضال وأعمالِه الإفسادية التي أضرت بالدنيا والدين، إلا أننا نقول: الأمن مسؤولية الجميع، وإن من العار أن يقف الواحد منا مكتوف اليد، وكأنَّ الأمرَ لا يعنيه، والخطرَ لا يهمه! ولسان حاله: إن للبيت رباً يحميه، وإنَّ أجهزة الأمن هي المسؤولة فقط!.
إن الإبلاغَ عن كل ما يَريب، ومناصحةَ كل أخ أو قريب، أمانةٌ في عنق كل مسلم، وإنَّ الإنكار على كل فكرةٍ باطلة أو قولٍ منحرف، ليس من قبيل الترف الدعَوي أو التزلف السلطاني كما يتوهم البعض، بل هو من فروض الأعيان على كل قادر من طلبة العلم والدعاة والمربين.
وإذا كانت النار قد أحرقت في السابق طرفـًا من ثيابنا، فإننا -والله!- نخشى -إنْ تخاذلنا- أن تأتي على البقية الباقية منها.
إنَّه حقٌ على رُبَّانِ السفينةِ من ولاة الأمر، وحقٌ على غيرهم من رجال الأمن، ورجالِ التربيةِ وقادةِ الفكرِ، أنْ لا يفتروا عن التصدي لهذه الظواهرِ، فالمسلمون نَصَحةٌ، ومِنَ جُمَلِ الإيمانِ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحبُّهُ لنفسِه، وينبغي أنْ تُحفظَ طاقاتُ الشباب وتُوجَّهَ ملكاتُهم فيما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
أحبابي الشباب: لوحة الأمن الجميلة التي نعيشها نرسمها نحن بأيدينا، ونصنعها بأنفسنا -بعد توفيق ربنا- حينما نتخلق بالوعي، ونستشعر عظمَ هذه النعمة وخطورةَ فقدها.
لوحة الأمن نصنعها حينما نتعامل مع الواقع بميزان الشرع والعقل، بعيداً عن الأهواء والعواطف والرغبات الشخصية، لوحة الأمنِ نصنعها حينما نحفظ حدود الله، ونتقي محارم الله، ونشكر نعم الله؛ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية.