الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عقيل بن محمد المقطري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
في الإنسان مشاعر وأحاسيس لا بد أن تُراعى ولا بد أن تُحترم، ولا بد أن ينمّي الإنسان هذه المشاعر، وألا يكبت هذه المشاعر إن كانت إيجابية فلا بد من إظهار ها وإفشائها؛ لأن ذلك يعود بالمصلحة على هذا الإنسان وعلى من يعايشه، وإن هذه المشاعر والأحاسيس تتأثر بما يعايشه الإنسان في واقعه ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 7071].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: إن الله تبارك وتعالى حين خلق هذا الإنسان أوجد فيه أحاسيس ومشاعر. هذه الأحاسيس والمشاعر إما أن تجعله فرحًا مسرورًا، وإما أن تجعله كئيبًا وحزينًا، وذلك بحسب العوامل التي تطرأ على هذه المشاعر. وهذه الخصلة من الفروق بين الإنسان والجمادات ففي الإنسان مشاعر وأحاسيس لا بد أن تُراعى ولا بد أن تُحترم ولا بد أن ينمي الإنسان هذه المشاعر، وألا يكبت هذه المشاعر إن كانت إيجابية فلا بد من إظهار ها وإفشائها؛ لأن ذلك يعود بالمصلحة على هذا الإنسان وعلى من يعايشه، وإن هذه المشاعر والأحاسيس تتأثر بما يعايشه الإنسان في واقعه.
نجد أن الناس في الزمن الأول كانوا يعيشون مع ما خلق الله عز وجل في هذه ا لحياة من حيوان وأشجار، وبحار وأنهار، وطيور وأزهار، ويعيشون مع الغلظة والجفوة، كذلك فيعشون في الجبال ويعشون في الصحاري الحارة القاسية من أجل ذلك وجدت نوعين من المشاعر:
فمشاعر الذين يعيشون في الطبيعة الرقيقة ترق مشاعرهم، ولك أن تقرأ وتتصفح دواوين الشعراء الذين عاشوا في البيئة الخضراء مع الأنهار والأطيار والأشجار تجد مشاعرهم تطفو وتظهر على أشعارهم وعلى نثرهم، وتجد أن أشعارهم كلها تضفي على القارئ التفاؤل وتعطيه البهجة وتعطيه السرور. بخلاف الذين عاشوا في الحروب وعاشوا في الجبال وعاشوا في الصحاري فتجد وتحس وتلمس وتشعر بالجفوة والقسوة في أشعارهم .
هكذا نبينا عليه صلاة الله وسلامه حثَّ على أن تكون هذه المشاعر مشاعر رقيقة ومشاعر عالية ليس فيها جفوة وليس فيها غلظة، فالإسلام كله رحمة لم يأت بالغلظة أبدًا. لا يعرف الإسلام الغلظة المقيتة أبدًا حتى في قتل الإنسان أو إقامة الحد عليه أو حتى في الحروب كل ذلك مراعاة للمشاعر، فمشاعر الأكثر لا بد أن تراعى وإن كان على حساب مشاعر أولئك الأشرار، فإن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
واسمع إلى قول الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: «رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم»[1]
وقد يقول قائل فما دخل هذه الأشياء بالمشاعر؟
دخل هذا المشاعر أن الأغنام رقيقة وأنها هادئة غير طائشة وليست بعدوانية، فيكتسب الإنسان منها هذه المشاعر بخلاف الجمال والأبقار، فإن فيها من الغلظة والجفوة والقسوة ما فيها، ولذلك يكتسب الإنسان أخلاقًا منها فيجفوا ويقسوا، ولهذا نجد أن الجيوش لا تأكل إلا من لحوم الأبقار الجمال والحيوانات القاسية من أجل أن يكتسبوا نوعًا من أنواع القسوة ولك أن تفرق بين أخلاق من تسكن السواحل وبين من يسكن في الجبال فإنك تجد فرقًا وبونا شاسعًا بين هذا وذاك .
وهكذا أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام يقول:كما في حديث أبي هريرة: «من بدا جفا (أي من سكن الفيافي والقفار والصحاري) ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن…»[2]، أي يفتتن بهذه الدنيا، وذاك يغفل عن ذكر الله عز وجل، وذاك تجفو مشاعره.
لماذا تجفو مشاعره؟ لأنه صار بعيدًا عن الذكر صار يتعامل مع بيئة قاسية ولا غرابة أنك تقرأ في قصة ذلك الصحابي الأعرابي الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يضم أطفاله ويقبلهم فيستشعر ويقول: تقبلون الأطفال؟ كأن هذا أمر منفر لطباعه كأنه في هذا تنكيس لهيمنته وتنكيس لكبريائه. قال: نعم. قال: والله إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم أحد. فقال: النبي عليه الصلاة والسلام: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَن نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِن قَلبِكَ؟» [3].
هذه المشاعر وهذه الأحاسيس التي يعاني منها كل واحد في هذه الحياة الإنسان يتأثر بما حوله نحن اليوم في العالم كله بأسره انتقلت حياتنا إلى التعامل مع الآلات مع حديد لا إحساس لها ولا مشاعر لها، ولذلك ربما جفت وقلت مشاعرنا نتيجة أن حياتنا كلها تأثرت بهذه الآلات، فصار تعاملنا بهذه الآلات حتى الحديث صار بالآلات عبر الهواتف حتى لو كان فيه المشاعر الرقيقة ليس كالكلام الذي يكون حيًّا، والذي يكون وجهًا لوجه، والذي يقرأ المستمع للكلام يخرج من اللسان وينبع من تقاسيم الوجه ويرى التعابير تنبع من العينين، ويرى تغيرات الوجه، كل هذه تُضفي مشاعر على السامع. ولو كان الكلام عبر الكتابة أو عبر الهواتف ما فيه من الرقة لما كان تأثيره كتأثير من يتخاطب أمامك وكتأثير من يتخاطب معك ويدك إلى يده أو يده في جسدك ويده تمسح رأسك أو تمسح دمعه من عينيك أو ما شاكل ذلك.
أن تأثير هذا تأثير غريب وتأثير عجيب فإن الكلام له جزء بسيط من التأثير وتقاسم الوجه وتأثيراته وتغيرات العينين تأخذ القسط الأعظم. لعله يزيد أو يقارب السبعين في المائة من التأثير. لهذا تأثرت مشاعرنا وصار البعض يشكو من جفاف مشاعره أو مشاعر غيره نتيجة أن الحياة ارتبطت بالآلات.
إن قيم ديننا -أيها المسلمون- تحرص على مراعاة المشاعر مشاعر القريب ومشاعر البعيد، مشاعر المسلم ومشاعر غير المسلم، مشاعر الطائع ومشاعر العاصي، حتى مشاعر الحيوان حثَّ الشرع على الاهتمام بها وعلى عدم أذيتها إطلاقًا كل هذا ينبئ أن الإسلام يحمل للناس المشاعر الحسنة، ولهذا يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53]؛ حفاظًا على المشاعر فعند الكلام ينبغي أن ننتقي أحسن العبارات، ولهذا لم يقل سبحانه وتعالى وقل لعبادي يقولوا الحسن، وإنما قال يقولوا التي هي أحسن .لا بد أن ننتقي بحيث لا تجد كلامًا أحسن ولا أروع ولا ألطف من هذا الكلام الذي سيخرج من فمك هذا الذوق الرفيع الذي يعلمنا إياه الإسلام، إنما يريد من وراء ذلك أن تكون حياة الناس حياة مفعمة ومليئة بالمشاعر والرقة وحسن العبارة واللطف وطيب الحياة بإذن الله عز وجل.
ولهذا نجد يوسف عليه والسلام وقد عانى ما عانى من إخوته وهو في مقام الثناء على الله عز وجل وفي مقام إظهار أنه انتصر بعد ذلك الكيد العظيم الذي حصل له من إخوته أنه بعد هذا لم يتشفِ بهم ولم يؤذ مشاعرهم إطلاقًا وهو إذ يقول ممتنًا بنعمة الله عز وجل: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 100-101)،لم يقل وأخرجني من الجب الذي أنتم رميتموني فيه، وإنما أسمعهم كلامًا لا دخل لهم فيه وهو السجن الذي حصل له من الملك حينما كادت له النسوة وجاء بكم من البدو، وما قال وجاء بكم من المجاعة، وجاء بكم من الفقر وجاء بكم من الحاجة إليَّ فأعطيتكم وفعلت وفعلت، ثم قال: (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، نعم الشيطان هو الذي كاد وأعان إخوانه لكن المباشر في هذه الأذية هم إخوانه، كل هذا من الأدب الرفيع الذي أدب الله عز وجل به نبيه ويوسف عليه السلام أنه لم يؤذ مشاعرهم بالرغم من أنهم آذوه في مشاعره وآذوه في جسده، وتسببوا في بُعده من أبيه هذه السنين الطويلة ودخل السجن ولقي ما لاقى من الكيد، مع هذا لم يؤذ مشاعرهم إطلاقًا .
إن الشريعة تحث على هذه الخصلة الجميلة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: «لا يتناجى اثنان دون صاحبهما (لماذا؟) فإن ذلك يحزنه» [4] قال أبو صالح: فقلت لابن عمر فأربعة؟ قال: لا يضرك.[5] فمراعاةً لمشاعره أو أنه يتوجس خوفًا منهم ماذا يريدون؟ لعلهم يتآمرون عليه خاصة إذا كانوا في معزل من الناس. وهكذا الرابع والخامس، والخامس دون السادس فلا يعزل البعض ويتحدث البعض، ويدخل في هذا أنك حينما تتحدث مع اثنين أو ثلاثة ثم تغير لهجتك وتغير لغتك وهذا أيضًا نوع من إيذاء المشاعر، ولعل هذا الإنسان لا يفهم اللغة التي نتحدث بها فلا يتحدث إلا لغته، فإذا تحدث بالأردية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو غير ذلك ظن سوءًا بكم وخاف وانجرحت مشاعره.
وأيضًا يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه».[6] هو أحق بهذا المجلس مهما كانت وجاهتك، ومهما كانت مكانتك، فمكانتك في المكان الفارغ لا أنك تأتي وتقيم الإنسان وتجلس مجلسه لماذا؟ إن هذا يشعره بتعاليك هذا يشعره بأنك تحتقره هذا يجرح مشاعره إلا إن قام من ذات نفسه إكرامًا وإجلالاً، فإن هذا أيضًا من هذا الباب من باب احترام المشاعر، فإذا قام الصغير للكبير وقام طالب العلم للعالم، فإن هذا من هذا الباب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر»[7]، فإذا لم يجلّ الكبير سواء كان كبيرًا في السن كالأب أو العم أو الخال أو كان عالمًا أو كان رئيسًا أو مسئولاً فإنهم ينزلونه منزلته اللائقة به. فلهذا قال صلى الله عليه سلم: «ليس منا من لم يجل كبيرنا»، وإجلال الكبير وذي الشيبة من هذا الباب من باب احترام المشاعر، ومن باب إظهار المحبة ودفء العاطفة فيما بينك وبينه.
النبي عليه الصلاة والسلام يراعي مشاعر كثير من الناس الذين حس أن مشاعرهم ربما انجرحت. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِىِّ: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ – أَوْ بِوَدَّانَ – فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا فِي وَجْهِي قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ»[8]، هذا الصعب بن جثامة رضي الله عنه يرى النبي عليه الصلاة والسلام في الطريق وهو مسافر إلى الحج محرمًا، فيرى حمار وحش فيصطاده ثم يأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام هدية، فالنبي عليه الصلاة والسلام ردّه عليه مع أنه ليس من عادته رد الهدية، فرأى التغير والتلون والتأثر بهذا الصحابي الجليل؛ إذ إنه أراد إكرام النبي عليه الصلاة والسلام فرده عليه، فلما رأى صلى الله عليه سلم تأثره قال: «إنا ما رددناه عليك إلا أنا حُرُم»، وأنت تعلم أن المحرم لا يصطاد ولا يأكل مما صِيدَ له، فهذا الصحابي الجليل صاد من أجل النبي عليه الصلاة والسلام وذلك صار هذا الصيد في حقه صلى الله عليه وسلم مثل الميتة يحرم عليه فرده عليه. فبرد قلبه وأطفئت المشاعر الملتهبة في صدره ففرح وسُر إذ النبي عليه الصلاة والسلام بيّن له السبب، وهكذا في كثير من القضايا التي تحدث بين الناس بين الأصدقاء، بين الأب وابنه، وبين الأزواج وما شاكل ذلك ربما تؤدي إلى تعكر الأجواء فإذا ظهر السبب كما يقال بطل العجب تزول تلك المشاعر الملتهبة التي تأثرت نتيجة ذلك القول أو ذلك الفعل.
وهكذا أيضا نبينا صلى الله عليه سلم يولم على إحدى زوجاته ويعطي للناس الطعام ويبقى أناس يتحدثون في البيت، والله تعالى قد أدّب الناس بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) [الأحزاب: 53]، ففهم الناس وانصرف من انصرف، وبقي من بقي يتحدثون، ولعلهم يطمعون في أن النبي صلى الله عليه سلم يتحدث معهم، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على زوجته ثم عاد فوجد الناس ثم دخل فعاد فوجد الناس ولم يتحدث معهم، ولم يقل لهم: انصرفوا راشدين، ولو قال لهم لكان ذلك أبرد على إلى قلوبهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعر هؤلاء الناس حتى جاء بعض الصحابة، فقال لهم: "ألم تروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج"، يعني ما فهمتم ما راعيتم مشاعره صلى الله عليه وسلم ماذا تريدون بعد أن أكرمكم؟ فإذا أكرمكم فانطلقوا.
ولهذا بعض القبائل أحيانًا أو بعض الناس عندهم أسلوب معتاد في مثل هذه القضايا، أنه يطعم الناس، يقدم لهم القهوة، ثم بعد ذلك يطيبهم بالعود، ولهذا يقول بعض القبائل: "بعد العود ما في قعود" فينصرف الناس ويمشون. أما أنك تطيل الجلوس وتنتظر ماذا سيقدم ثم أيضًا يبقى يتلفت هنا وهناك ماذا عنده، وماذا صنع وهكذا، ولذلك جعل الشرع لمثل هذا القضايا ضوابط، فجعل صلى الله عليه وسلم الضيافة لا تزيد على ثلاثة أيام مهما كان الحال والضيافة الواجبة يوم وليلة، وهذا حق الإنسان المنقطع وابن السبيل، فما زاد فهو صدقة، لكن بعد ذلك لا يجوز للإنسان أن يحرج على صاحبه فوق هذه المدة.
دخل أعرابي ومشى إلى زاوية المسجد فبال فقام الصحابة يريدون أن يضربوه، وأن يقعوا فيه فقال صلى الله عليه سلم: «دعوه» أي اتركوه حتى قضى بوله، ثم قال: «صبوا عليه دلوا من ماء» هؤلاء يريدون أن يؤدبوه؛ هذا مسجد بيت الله، ما بُني لهذا فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إن هذه المساجد -أيها الأعرابي- لم تبنَ لهذا، إنما بنيت للصلاة وللذكر وللاعتكاف» وغير ذلك. فانظر بين هذين التعاملين، هذا تعامل برفق ورقة ودفء وحنان، وذلك تعامل بغلظة وجفوة، هذا يريد أن يرفسه وهذا يريد أن يلطمه، وهذا يريد أن يجبذه من ثيابه، هذا الأعرابي بعد أن تعلم هذا من النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي».[9] هكذا يكون احترام المشاعر.
فمهما كان الذنب مهما كان الخطأ فليست الأمور بجفوة وليس الأمور بغلظة ولا بقسوة وليست الرجولة بهذه المعاني ولا الإدارة لهذه المعاني، ولا الأبوة بمثل هذه المعاني إلا في أسباب ضيقة جدًّا فإن التعامل مع هذه القضايا المحرجة لا يتم إلا بدغدغة المشاعر والعواطف وتنميتها وتربيتها، هذا هو الذي يجذب الناس إليك ويجعلك شخصًا محبوبًا معظّمًا محترم الأوامر أن تتعامل مع أحاسيس الناس كما تحب أن يتعامل الناس معك ثم يحبونك. ماذا تصنع لو كنت جبارًا وجبروتًا تحتك آلاف من الناس ثم لا يحبونك، ولهذا كان من كلامه صلى الله عليه سلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم وتبغضونهم ويبغضونكم».[10] وهو يواجههم بنفس الأمر يتعامل معهم بجفوة وقسوة وغلظة.
هكذا أيضًا في القضايا التي ربما يخطئ فيها الإنسان يحصل عنده غلط يحصل عنه خطأ يحصل عنده زلة ونيسان لا بد تتعامل معه بأسلوب ألطف . هذا رجل يعطس عند ابن المبارك رحمه الله تعالى، ثم سكت ولم يحمد الله تعالى فقال له: يا رجل إذا عطس الرجل ماذا يقول؟ قال: يقول الحمد لله قال: وأن أقول لك "يرحمك الله". الرسالة وصلت إليه ويكفي هذا، أما أنك تنهره وتزجره، بل حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ربما لو كان بين الناس لأدى إلى منكر أكبر منه، ولأدى إلى أن تجرح مشاعره وأن تضره وأن تجعله يتعقد أكثر منك ومن نصائحك فلا يقبل بعد ذلك منك نصحًا لا بد أن تتحين الوقت المناسب يقول الشافعي:
تعمدني النصح في انفراد | وجنبني النصح في الجماعه |
فإن النصح بين الناس نوع | من التوبيخ لا أرضى استماعه |
هكذا النبي صلى الله عليه سلم غضب رجل غضبًا شديدًا احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد» هذا الصحابي ذهب لذلك الإنسان مباشرة فقال له قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يذهب عنك ما تجد، فقال: أنا مجنون! أقول هذا الكلام لماذا لم يباشره صلى الله عليه وسلم بالكلام؟ لأن الرد عليه أمر خطر، ولكن يعلم الأمة أن تعالج مثل هذه القضايا، هذا الرجل أصاب مشاعره ما يغضبها ما يجعلها كالشرر وكان كالجمر وكالنار المحترقة جعله بهذه الهيئة لو رأى نفسه لمقتها، ولقال ليست هذه صورتي ولكن نصيحته لا تكون في مثل هذا الحال، ولهذا فالغضب مشكلة عظيمة تؤدي إلى هدم الأسر وربما تؤدي إلى ارتكاب المآثم، وتؤدي إلى الكفر بالله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
أيها الإخوة: كيف نتعامل مع الأمور المحرجة؟ التي تحرجنا أو تحرج غيرنا وربما كان هذا الأمر قاسمًا مشتركًا، فمثلاً صاحب العاهة كالأعور والأعرج ومقطوع اليد، ومقطوع الإصبع والمجذوم، وما شاكل ذلك من الأمراض، هذه قضايا تسبّب للإنسان نوعًا من أنواع النقص والعيب عندهم، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم أن يدام النظر إلى صاحب العاهة فقال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين»[11]، وهكذا أصحاب العاهات إنسان أعور مثلاً لا تديم النظر إلى عينه العوراء، ولا تديم النظر إلى يده المقطوعة وإلى رجله المشلولة، السبب في هذا ألا تحزنه وألا تشعره بالدون، وألا تجرح مشاعره، هذا الإنسان يكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا ذلك الأدب أن يقول: «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاء»[12] يكفي هذا، وهذا الذكر ما ينبغي لأحد أن يرفع صوته به ليزيد جرحًا إلى جرحه، فإدامة النظر إليه جرح، وهذا الذكر إن جهرت به فجرح آخر. ولهذا تقول هذا الذكر شكرًا لله عز وجل بقلبك، ولا تديم النظر إليه إطلاقًا، بل أشعره بالثقة في نفسه أو أشعره بأنه عظيم.
كم من العظماء من كان صاحب عاهة أشعره بأنه يمكن أن يفعل شيئًا، وأنه عضو نافع عضو فاعل في هذا المجتمع. ابن أم مكتوم قام بأعماله وبإدارة المدينة بعد النبي عليه الصلاة والسلام وهو رجل أعمى، وقام بالإمامة في المسجد وهكذا، فالأعمى وأصحاب العاهات لا بد أن يكون لهم دور في المجتمع، كالإمامة في المسجد وتدريس القرآن الكريم والعلم الشرعي والمحاماة، لا أن يُهَمَّشُوا ويصبحوا عالة أو يصبحوا متسولين أو ما شاكل ذلك، كلا بل الأعمى يمكن أن يعمل ويمكن أن يكون عضوًا نافعًا وبنّاءً في المجتمع .
هكذا أيضًا وأنت في مجلس مثلاً خرج على إنسان ريح أو خرج عليه صوت، فالواجب هنا أن تتعامى وأنت تفعل نفسك أنك لم تشعر بشيء؛ لأن هذا الأمر حدث منه اليوم وغدًا يحدث منك، ولهذا لا تحرجه ولا تجرح مشاعره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لِمَ يضحك أحدكم مما يفعل؟».[13] لماذا تضحك أنت من شيء ربما خرج منك، بل ربما حدث منك ما هو أعظم من هذا، فكما تحب أن يراعي الناس مشاعرك راعِ أيضًا مشاعر الناس.
النبي عليه الصلاة والسلام يراعي مشاعر الطفل، أطال النبي عليه الصلاة والسلام في السجود فخشي الصحابة عليه رضي الله عنهم أن يكون قد حدث للنبي عليه الصلاة والسلام مكروه، فبعضهم رفع رأسه لينظر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا ظنوا أنه قُبض فما قام صلى الله عليه وسلم قال لهم إني أطلت السجود على غير عادة لأن «ابني ارتحلني» يعني جعلني كالراحلة وركب على ظهري، قال : «فكرهت أن أعجله» وتركته حتى يقضي حاجته[14]، كل هذا محافظةً على شعور هذا الطفل الصغير، والطفل الصغير أشد رهافة في أحاسيسه، ولك أن تجرب هذا وتعرض حين يتحدث معك ابنك أو ابن ابنك، فإنك لو أعرضت عنه وهو يحدثك حتمًا سيأخذ يده وسيجر وجهك إليه يعني: يقول لك: راعِ مشاعري حينما أتكلم معك لا بد أن تنظر إليّ فكلامي ليس بالكلام الهين، ولذا أحيانًا بعض الأسئلة الكبيرة التي هي أكبر من عقله هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة، وإذا كبته فإنما تكبت طموحه، فلا تقل له: اسكت يا ولد ليس هذا الوقت وما شاكل ذلك، بل لا بد أن تجيب على هذا التساؤل بقدر عقله .
هكذا أيضا الخادم في البيت، لا بد أن تراعي مشاعره ليس فقط كونه خادمًا أو كونها خادمة أو كونها تتلقى أجرًا يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين؛ فإنه ولي حره وعلاجه»[15]. هو الذي طبخه بيده وهو الذي شم رائحته، وهو الذي سال لعابه عليها، فإما أن تُجلسه أن كنت من أصحاب المكانة الرفيعة والقلوب الواسعة والصدور الرحبة ليجلس معك خادمك ليأكل، وإلا فليس أقل من أن تأخذ له شيئًا من الطعام وتعطيه يأكلها؛ لأنك تأكل وتتنعم وهو ينظر إليك.
وهكذا أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم يراعي مشاعر من يرتكب الذنوب والمعاصي فهذا رجل يشرب الخمر وكثيرًا ما يؤتى به إلى الرسول صلى الله عليه سلم فيقيم عليه الحد، فقام رجل من الصحابة فقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فتنبه النبي لهذا الكلام وقال: «لا تسبوه لا تلعنوه، والله إنه يحب الله ورسوله». لا تؤذوا مشاعره أبدًا حتى ولو كان في هذا الموقف.
وإليك قصته كما في البخاري عن عمر بن الخطاب: «أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله».[16]، وهذه امرأة تفدي نفسها من أجل إقامة الحد عليها وترجم بالحجارة فيطير من دمها إلى ثوب أحد الصحابة فيلعنها. فيقول صلى الله عليه سلم: «كلا، والله لا تلعنوها إنها تابت توبة لو وُزعت على أصحاب المدينة لوسعتهم» وهذا طبعًا أما مراعاة لمشاعرها حيث كانت لا تزال تسمع ولا تزال حية، أو لمشاعر أوليائها من هنا جاء قوله صلى الله عليه سلم: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»[17] حتى لو كان هذا الميت يستحق اللعنة ويستحق السب، لكن ابنه المسلم بين يديك وابنته بين يديك فلا تؤذي مشاعرهم أبدًا.
ومن هنا جاء أيضًا مراعاة مشاعر المرأة في حال زواجها، فقال صلى الله عليه سلم كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَيِّمُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، وَالْبِكْرُ لا تُنْكَحُ، إلا بِإِذْنِهَا»، قَالُوا: وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟، قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ».[18] البكر لا تتكلم ولا تنطق من شدة حيائها، كما قال صلى الله عليه وسلم فلا تخدشوا حياءها، فكيف تعرف أنها راضية بهذا الزواج، قال: صمتها إذنها، فإن الحياء اليوم يا عباد الله من الرجال من النساء من الأبكار فضلاً عن الثيبات يكاد الحياء ينعدم، ويكاد يُفقد في حياة الناس إلا ما شاء الله تعالى.
والحمد الله رب العالمين.
[1] البخاري3/1202.
[2] مسند أحمد 2/371.
[3] متفق عليه.
[4] البخاري 2/345.
[5] البخاري 2/345.
[6] البخاري 3/2313.
[7] سنن الترمذي 4/322.
[8] البخاري 4/13.
[9] مسلم 2/70.
[10] مسند الشامين 1/333.
[11] سنن ابن ماجه 2/1172.
[12] سنن الترمذي 5/493.
[13] البخاري 4/1888.
[15] البخاري 5/2078.
[16] البخاري 6/2489.
[17] سنن الترمذي 4/353.
[18] المعجم الكبير 20/18.