القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - السيرة النبوية |
هذه أخبارٌ وحوادثُ من وفاء المصطفى عليه الصلاة والسلام لن تجدوا لها مثيلا في أخبار الأوفياء مهما كانوا، ولقد كان صلى الله عليه وسلم وفيًا لأمته، ونحن من أمته، فبماذا قابلنا وفاءه عليه الصلاة والسلام لنا، ونحن نبصر كفرة أهل الكتاب، وملاحدة الغرب يشتمونه وينالون من عرضه؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغفور الرحيم؛ خلق عباده فكفاهم، ورحمهم فهداهم، نحمده على جميل إنعامه، ونشكره على جزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظم حلمه على عباده فأخرهم، وأملى للكافرين وأمهلهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ شرح الله تعالى صدره، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره، وصرف عنه شتم قريش لما قالوا مذمما، فسماه محمدا، ولما شنأه العاص بن وائل فقال: دعوا محمدا فإنه أبتر؛ أنزل الله تعالى فيه (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [الكوثر:3] قرآنا يتلى إلى آخر الزمان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه (آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الأعراف:157] والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعرفوا لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- فضله، وأعطوه حقه؛ فإنه سبب هدايتكم بعد الله تعالى، أخرجكم به ربكم -عز وجل- من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن طرق النار إلى صراط الجنة (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آلعمران:164].
أيها الناس: حاز رسولنا -عليه الصلاة والسلام- من الأخلاق أعلاها، وجمع من الصفات أكملها وأسناها، فاجتمع فيه الكمال البشري كما لم يجتمع في أحد قبله ولا بعده.
ما من سجية في البشر تحمد إلا وله منها أحسنها، ولا من صفة تعاب إلا وهو أبعد الناس عنها، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي -عليه الصلاة والسلام- -وقد كان حينها عدوه- أثنى عليه أبو سفيان بجميل الصفات، وعظيم الخلال، وقال معللا ذلك: وأيم الله لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ رواه الشيخان.
كان الوفاء من سجاياه، وما عُرف في الناس أحدٌ أكثر وفاء منه، وكان وفاؤه لقرابته ولنسائه وأصحابه، حتى نال أعداءَه من وفائه ما نالهم. قال هرقل لأبي سفيان: وَسَأَلْتُكَ هل يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ.
توفي والده وهو في بطن أمه، ثم توفيت والدته وهو ابن ست سنوات، وكَبُر -عليه الصلاة والسلام-، وتحمل أعباء الرسالة، وأوذي في الله تعالى، وخاض المعارك، وأسس الدولة، وقاد الأمة؛ وما أنساه ما تحمل أمه، بل يذكرها اعترافا بفضلها، ووفاء لحقها، فيبكي صلوات الله وسلامه عليه؛ جاء عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: زَارَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى من حَوْلَهُ فقال: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لها فلم يُؤْذَنْ لي وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لي" رواه مسلم.
وكان عمه أبو طالب صاحب فضل عليه؛ إذ كفله بعد وفاة جده، وظل يدافع عنه، ويتحمل أذى كبار مكة بسببه؛ فحفظ له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، واجتهد في هدايته، وطالبه بكلمة تكون له حجةً عند الله تعالى، فكان عند رأسه قُبيل وفاته يقول: "أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إلا الله أُحَاجُّ لك بها عِنْدَ الله" ولكن أئمة الشرك، ورفقة السوء حالوا بينه وبين ذلك، فمات على الشرك، ومع ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "أَمَا والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عَنْكَ" فأنزل الله تعالى آية النهي عن الاستغفار للمشركين. وخبر ذلك في الصحيحين.
ومن وفائه -عليه الصلاة والسلام- لعمه أبي طالب أنه شفع فيه عند الله تعالى حتى خفف عنه العذاب؛ كما قال العباس -رضي الله عنه-: يا رَسُولَ الله، هل نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فإنه كان يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لك؟ قال: "نعم، هو في ضَحْضَاحٍ من نَارٍ لَوْلَا أنا لَكَانَ في الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ من النَّارِ" متفق عليه، وفي رواية لمسلم قال صلى الله عليه وسلم: "وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إلى ضَحْضَاحٍ".
كان -عليه الصلاة والسلام- أوفى زوج لزوجاته، وكانت خديجة -رضي الله عنها- تسنده وتشد أزره في بدايات بعثته، وهي أول من صدقته وآمنت به، وواسته بمالها؛ فما نسي -عليه الصلاة والسلام- فضلها، فوفى لها في حياتها وبعد موتها:
أما في حياتها فلم يتزوج عليها؛ وفاء لها، واعترافا بجميلها، وحفظا لحقها، قالت عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "لم يَتَزَوَّجْ النبي -صلى الله عليه وسلم- على خَدِيجَةَ حتى مَاتَتْ" رواه مسلم.
وأما بعد وفاتها -رضي الله عنها- فكان يذكرها، ويتعاهد بالهدايا صواحبها؛ حتى غارت عائشة -رضي الله عنها- منها وهي لم ترها، فكان يردُّ عن خديجة طعنَ عائشة -رضي الله عنهما-، قالت عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "ما غِرْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- على امْرَأَةٍ من نِسَائِهِ ما غِرْتُ على خَدِيجَةَ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ إِيَّاهَا وما رَأَيْتُهَا قَطُّ" وفي رواية: "وَإِنْ كان لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِيهَا إلى خَلَائِلِهَا" وذات مرة أغضبته عائشة في خديجة -رضي الله عنهما- فقال -صلى الله عليه وسلم- في خديجة "إني قد رُزِقْتُ حُبَّهَا" وهذه الروايات لمسلم، وفي رواية للبخاري: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة"، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: "إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" وفي رواية لأحمد: قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عليها فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قالت: فَغِرْتُ يَوْماً فقلت: ما أَكْثَرَ ما تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قد أَبْدَلَكَ الله -عز وجل- بها خَيْراً منها، قال: "ما أَبْدَلَنِي اللَّهُ بها خَيْرًا منها؛ صَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي الناس، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي الناس، وَرَزَقَنِي اللَّهُ منها الْوَلَدَ إِذْ حرمني أَوْلاَدَ النِّسَاءِ".
وكانت أختها هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ -رضي الله عنها- إذا استأذنت على النبي -صلى الله عليه وسلم- عَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فقال: "اللهم هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ"، فتغار عائشة -رضي الله عنها-.
وما اقتصر وفاؤه -عليه الصلاة والسلام- على خديجة -رضي الله عنها- وحدها، بل شمل نساءه كلهن -رضي الله عنهن-؛ فإن الله تعالى لما خيرهن بين البقاء مع النبي -عليه الصلاة والسلام- والصبر على شظف العيش، وبين تمتيعهن وفراقهن اختارت عائشة -رضي الله عنها- البقاء معه، وكانت -رضي الله عنها- ترجو أن تحظى به دون غيرها من نسائه -عليه الصلاة والسلام- فقالت: "أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً من نِسَائِكَ بِالَّذِي قلت" ولكن وفاءه -عليه الصلاة والسلام- لبقية نسائه أبى عليه إلا النصيحة لهن، فأجاب عائشة قائلا: "لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إلا أَخْبَرْتُهَا؛ إِنَّ اللَّهَ لم يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" رواه مسلم.
كان -عليه الصلاة والسلام- وفيا مع أصحابه -رضي الله عنهم- حتى بعد مماتهم؛ فيخلفهم في أهلهم وأولادهم بخير، وكثير من نسائه -عليه الصلاة والسلام- إنما تزوجهن بعد أن فقدن أزواجهن؛ فحفصة -رضي الله عنها- تزوجها بعد موت زوجها خنيس بن حذافة -رضي الله عنه-، وأم سلمة تزوجها بعد موت أبي سلمة -رضي الله عنه-، وأم حبيبة تزوجها بعد أن فارقها زوجها ومات على النصرانية.
ولما قتل جعفر -رضي الله عنه- في مؤتة كان -عليه الصلاة والسلام- وفيا لأهله وولده، أخبر عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتاهم بعد مقتل أبيهم وأمر بهم فحلقوا ومازحهم، ودعا لهم ولأبيهم -رضي الله عنهم-، قال: فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ له يُتْمَنَا وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ له، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "الْعَيْلَةُ تَخَافِينَ عليهم وأنا وَلِيُّهُمْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" رواه أحمد.
ورغم ما هو فيه من الشغل الشاغل، والعمل للإسلام، ومجاهدة الكفار والمنافقين، وتبليغ دين الله عز وجل؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينس أهله من الرضاعة، مع بُعْد عهده بهم، وهذا من وفائه -صلى الله عليه وسلم- ، وحفظه للمعروف، أخبر أبو الطُّفَيْلِ -رضي الله عنه-: "أن امْرَأَةً دَنَتْ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَبَسَطَ لها رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عليه فقلت: من هِيَ؟ فَقَالُوا: هذه أمه التي أَرْضَعَتْهُ" رواه أبو داود.
وكانت ابنتها الشيماء أختًا للنبي -عليه الصلاة والسلام- من الرضاعة، روى ابن إسحاق عن أبي وجزة السعدي رحمه الله تعالى: "أن الشيماء لما انتهت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول الله، إني لأختك من الرضاعة، قال: "وما علامة ذلك؟" قالت: عضةٌ عضضَتَها في ظهري وأنا متوركتك، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلامة، فبسط لها رداءه، ثم قال لها: "ها هنا"، فأجلسها عليه، وخيرها فقال: "إن أحببت فأقيمي عندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك فارجعي إلى قومك"، فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي فمتعها وردها إلى قومها.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "أعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعما وشاء وثلاثة أعبد وجارية". ا.هـ.
وكانت مولاة لأبي لهب تدعى ثويبة قد أرضعت النبي -عليه الصلاة والسلام-، فما نسي لها ذلك وهي على الشرك؛ فكان -عليه الصلاة والسلام- يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى ماتت.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الوفاء، وأن يرزقنا التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا، وأن يدخلنا الجنة معه، آمين آمين آمين يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].
أيها المسلمون: كان من وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا ينسى إحسان من أحسن إليه ولو كان من المشركين أعداءِ الله تعالى وأعداء رسله عليهم السلام، فيحفظ ذلك لهم، ويثني به عليهم، ويكافئوهم عليه، ويكفي أنَّ ذكرَه لهم، وتنويهه بهم أعظم مكافأة لهم على إحسانهم، فذكره -صلى الله عليه وسلم- لهم خلَّد هذه المآثر لهم في كتب السير والتاريخ، يقرؤها الناس عبر القرون، ولولا ذكره -عليه الصلاة والسلام- لذلك لما عُرفوا بمآثرهم.
كان المطعم بن عدي من سادة قريش ولما حُصرت بنو هاشم في الشعب كان يحنو عليهم ويصلهم في السر، وشارك في نقض صحيفة المقاطعة، ولما أوذي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطائف وعاد منها إلى مكة أجاره المطعم، وذبَّ عنه المشركين، فما نسي النبي -صلى الله عليه وسلم- له ذلك؛ إذ قال في أُسَارَى بَدْرٍ: "لو كان الْمُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ له" رواه البخاري.
وفي فتح مكة أخذ -عليه الصلاة والسلام- مفتاح الكعبة من بني طلحة حُجَّاب البيت، فلما انتهى من الكعبة كان المفتاح مع علي -رضي الله عنه- فَطِمع أن تكون الحجابة لهم فقال علي -رضي الله عنه-: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أين عثمان بن طلحة؟" فدعي له فقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليومُ يومُ بِرٍّ ووفاء".
وكل العهود التي عاهدها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود ومع المشركين وفى لهم بها، وما خفرهم في شيء منها، بل كان الغدر منهم، وكان الوفاء منه -عليه الصلاة والسلام-، وأبلغ ما يدل على ذلك أنه لما كتب صلح الحديبية، ووافق النبي -صلى الله عليه وسلم- على بنوده، وكان منها: ردُّ من جاء مؤمنا من أهل مكة إلى المشركين، خرج أبو جندل -رضي الله عنه- يصرخ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أتردونني إلى أَهْلِ الشِّرْكِ فيفتنوني في ديني فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : يا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فإن اللَّهَ -عز وجل- جَاعِلٌ لك وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجاً وَمَخْرَجاً، إنا قد عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحاً فَأَعْطَيْنَاهُمْ على ذلك وَأَعْطَوْنَا عليه عَهْداً وإنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ" رواه أحمد.
ومن وفائه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم ينس أمته؛ بل كان يتذكرهم فيبكي، ويدعو لهم؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، روى أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بها وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي في الْآخِرَةِ" رواه الشيخان.
وفي حديث عبد اللَّهِ بن عَمْرِو -رضي الله عنهما- أَنَّه -عليه الصلاة والسلام- رَفَعَ يَدَيْهِ وقال: "اللهم أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فقال الله -عز وجل-: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ ما يُبْكِيكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عليه السَّلَام- فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قال وهو أَعْلَمُ، فقال الله: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ ولا نَسُوءُكَ" رواه مسلم.
أيها الإخوة: هذه أخبارٌ وحوادثُ من وفاء المصطفى -عليه الصلاة والسلام- لن تجدوا لها مثيلا في أخبار الأوفياء مهما كانوا، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- وفيًا لأمته، ونحن من أمته، فبماذا قابلنا وفاءه -عليه الصلاة والسلام- لنا، ونحن نبصر كفرة أهل الكتاب، وملاحدة الغرب يشتمونه وينالون من عرضه؟!.
إن أعظم شيء ننتصر به للنبي -عليه الصلاة والسلام-، ونغيظ به أهل الكفر والنفاق اتباع شريعته، وتطبيق سنته، والدعوة إلى دينه، ونشر تعاليمه..
إن أهل الكفر والنفاق ما سخروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولا طعنوا في شريعته إلا لضيقٍ في صدورهم من انتشار الإسلام في الأرض، وعودة كثير من المسلمين إلى دينهم، وفشل موجات التنصير والعلمنة والإلحاد عن تحقيق أهدافها المرسومة في إضلال جمهور المسلمين وصرفهم عن دينهم.
وقد ثبت أن الشعوب المسلمة لا تريد إلا الإسلام، ودليل ذلك صناديق الاقتراع للبرلمانات ومجالس البلديات والنقابات في شرق العالم الإسلامي وغربه؛ حتى خفتت أصوات دعاة الديمقراطية عن الدعوة إليها لعلمهم المسبق بنتائجها.
فما كان منهم إلا أن اقتسموا الأدوار الخبيثة في النيل من النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والطعن في شريعته، وفرضوا مناهجهم المنحرفة على المسلمين بالإرهاب والقوة.
وأكبر دليل على ذلك الإملاءات الغربية، والموافقات العلمانية لها على إفساد المرأة وخلطها بالرجال، ونزع الحياء منها، ونشر الفساد والإفساد على أوسع نطاق بحجة العمل والتعليم، وبدعاوى التقدم والتطور، مع تخريب الإعلام، وجعله مرتعا للرذائل والخبائث، والتأصيل للإلحاد والزندقة، وتنظيم المؤتمرات والمنتديات التي تستتر تحت أغطية اقتصادية تنموية وهي لا تقصد إلا التأصيل للإلحاد الرأسمالي، والتمكين للانحلال الليبرالي في بلاد قد حفظها الله تعالى فيما مضى من موجات الاستعمار والتنصير والتغريب.
إن أعظم انتصار للنبي -عليه الصلاة والسلام- مقاومة هؤلاء المفسدين، وتحذير الناس من فسادهم، وبيان أهدافهم، وفضح غاياتهم؛ فإن مطلوبهم بهذا الإفساد طمس دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وإحلال الرأسمالية المتوحشة بقيمها المنحرفة مكانه، ولن يتم لهم ذلك إن قاومهم جمهور المسلمين برفض مشاريعهم التغريبية التخريبية.
وإن أعظم خذلان للنبي -صلى الله عليه وسلم- السكوت عن إنكار هذه المنكرات العظيمة، والرضا بها، وترك أهل الفساد والإفساد يرتعون حيث يشاءون، ويفعلون ما يريدون دون إنكار من الناس، ولا مساءلة من العلماء، ولا مؤاخذة من الولاة .
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المؤمنون- وانصروا نبيه -عليه الصلاة والسلام- بنصر شريعته، وتطبيق سنته، والذب عن عرضه وعن دينه ببذل النصيحة لله تعالى ولرسوله -عليه الصلاة والسلام- وللأئمة المسلمين وعامتهم، والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يسعى الكفار والمنافقون إلى تحجيمها وإلغائها؛ لأنها السد المحكم، والحصن المنيع أمام زبد غثائهم وإفسادهم.
عسى الله تعالى أن يرد بأسهم وكيدهم عليهم، والله أشد باسا وأشد تنكيلا...
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...