البحث

عبارات مقترحة:

الرزاق

كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

محاسبة النفس

العربية

المؤلف أمير بن محمد المدري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. الحسيب سبحانه يحاسب الخلق على كل شيء .
  2. ضرورة مطالبة النفس ومحاسبتها على الأنفاس والحركات .
  3. العاقل يحاسب نفسه .
  4. فوائد محاسبة النفس .
  5. السلف ومحاسبة النفس .
  6. الاستغفار ليس للعاصين فقط .
  7. كما تدين تدان، وكما تُزرع تحصد .

اقتباس

عبد الله: اجلس مع نفسك وحاسبها، وقل لها: يا نفس أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها فمصيره الموت، يا نفس أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا، أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ويبنون ما لا يسكنون ويؤملون ما لا يدركون يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء ومقره قبر محفور تحت الأرض ..

الحمد لله الكريم الفتاح أهل الكرم والسماح المُجزل لمن عامله بالأرباح، سبحانه فالق الإصباح وخالق الأرواح. أحمده سبحانه على نعمٍ تتجدد بالغدو والرواح، واشكره على ما صرف من المكروه وأزاح، وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له شهادةً بها للقلب انفساح وانشراح.

وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أُرسل بالهدى والصلاح، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ما بدا نجم ولاح.

وبعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نُقدّم لأنفسنا أعمالاً صالحة مباركة تبيض وجوهنا يوم نلقاه تبارك وتعالى. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]. (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران:106]. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30]. (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن:9].

نسأل الله تبارك وتعالى بمنه وكرمه أن يحبّب إلينا الإيمان ويزيّنه في قلوبنا، وأن يُكَرِّه إلينا الفسوق والعصيان، ويجعلنا من الراشدين.

عباد الله: يقول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وقال تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد:33].

أيها المسلمون: إن الله سيحاسبنا على كل شيء على الصغير والكبير والفتيل والقطمير، قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7-8].

أصحاب القلوب السليمة والعقول الواعية عرفوا أن الله لهم بالمرصاد، فعرفوا أنه لن ينجيهم إلا لزوم المحاسبة، ومطالبة النفس ومحاسبتها على الأنفاس والحركات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

تأمل يا عبد الله هذه الآية التي أشارت إلى تقوى الله فيما مضى من عمرك من أعمال، والنظر والمحاسبة فيما قدمت لأخرتك، والله خبيرٌ بما تعمل في هذه اللحظة.

قال عمر الفاروق -رضي الله عنه -: "أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتهيئوا للعرض الأكبر: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)"[الحاقة:18].

وقال الحسن البصري –رحمه الله تعالى-: "من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ في يوم القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه, ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته, وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته, وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها".

عباد الله: ينبغي للعاقل أن يكون له في يومه ساعة يحاسب فيها نفسه، كما يحاسب الشريك شريكه في شئون الدنيا, فكيف لا يحاسب الإنسان نفسه في سعادة الأبد وشقاوة الأبد، نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار السعداء.

قال ميمون بن مهران–رحمه الله تعالى-: "لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه".

ومن فوائد محاسبة النفس أنها تُعرِّف الإنسان بنعم الله عليه فيشكرها، ويستخدمها في طاعة الله، ويحذر من التعرض لأسباب زوالها، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].

فبداية المحاسبة أن يقيس العبد ويوازن بين نعم الله عليه من عافية وأمن وستر وغنى, وبين ذنوبه فحينئذٍ يظهر التفاوت، فيعلم العبد أن ليس له إلا عفو الله ورحمته أو الهلاك.

حاسبت نفسي لم أجد لي

صالحاً إلا رجاءي رحمة الرحمن
ووزنت أعمالي فلم أجد في الأمر إلا خفة الميزان

وبهذه المقايسة والمحاسبة يعلم العبد أن الرب رب بكرمه وعفوه وجبروته وعظمته, وأن العبد عبد بذله وضعفه وفقره وعجزه, وأن كل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل.

وبهذه المحاسبة يسيء العبد الظن بنفسه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال الصلاح والتقوى، فيرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً.

فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة

ولكن عين السخط تُبدي المساويا

ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها.

فهذا صله بن أشيم يقول أحد أصحابه كنت أسمعه يقول بعد صلاة الفجر في دعاءه: «اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي لا يستحق أن يطلب الجنة».

وكلما عرف الإنسان ربه حق المعرفة عرف أن ما معه من البضاعة والطاعة مهما عظمت وكبرت وزادت لا تساوي شيء، ولو جاء بعمل الثقلين؛ لأنه أمام ربٍ سريع الحساب.

ها هو أبو بكر يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائرًا يطير من شجرة إلى أخرى، فيتأمل ويقول: "هنيئاً لك يا طائر! ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني كنت شعرةً في صدر عبدٍ مؤمن".

وهاهو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يخاطب نفسه كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه أني سمعته وبيني وبينه جدار وهو يحاسب نفسه، ويقول: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخٍ، والله لتتقينَّ الله أو ليحاسبنك الله، ويكررها".

قال الحسن البصري –رحمه الله تعالى-: في قوله تعالى: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:2].
"هي نفس المؤمن لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ويقول: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي والفاجر يمضي قُدماً لا يعاتب نفسه".

عباد الله: أرباب البصائر أشد ما يكونون ذليلين مستغفرين عقب الطاعات، فالاستغفار سمة المؤمنين كلما أذنبوا وأساءوا استغفروا ورجعوا إلى الله؛ لأنه وحده الغافر، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون) [آل عمران:135].

عباد الله: الاستغفار ليس للعاصين فقط، بل لأصحاب الطاعات، فالمصلون بعد إتمام الصلاة الخاشعة المطمئنة يستغفرون من كل نقص وزلل في الصلاة، وبعد رحلة الحج العظيمة والطواف والسعي ورمي الجمار، قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199].

وبعد أن منَّ الله على نبيه بالنصر والتمكين والفتح المبين أمره بالاستغفار، قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر].

عباد الله: على المؤمن أن يحاسب نفسه، فالطاعة والفروض رأس المال، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح، وليعلم أنّ كل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنزًا من كنوز الآخرة.

فإذا أصبح العبد وفرغ من صلاة الصبح ينبغي أن يُفرِّغ قلبه ساعة، فيقول لنفسه: ما لي بضاعة إلا العمر ولو توفاني الله لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً حتى أعمل صالحاً، ومن ثَم ينوي فعل الخيرات ليكون من الرابحين.

فهذا الربيع بن خثيم –رحمه الله تعالى-: كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها، وكأنه في قبره، ويصيح ويبكي، وكأنه في عداد الموتى ويقول: ربّ ارجعون ربّ ارجعون، ثم يصعد من الحفرة ويقول: "يا نفس ها أنت في الدنيا فاعملي صالحاً".

ويقول إبراهيم التيمي –رحمه الله تعالى-: "مثّلت لنفس كأني في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها, ثم مثّلت لنفسي وكأني في النار آكل من زقومها وأشرب من حميمها، وأصيح بين أهلها, ثم قلت: يا نفس أي دار تريدين؟ فقالت: أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة، فقلت: يا نفسي ها أنت في الدنيا فاعملي".

اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه, وأشهد أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.

وبعد:

عباد الله: لنستمع ونفقه ونتأمل في هذه الآيات المباركة. قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]. وقال عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18]. وقال تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].

وقال تعالى: (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ) [البقرة:284].

وقال تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ فِي كتابٍ مُّبِينٍ) [النمل:75].

وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].

وقال تعالى: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماواتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16].

وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7-8].
وقال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].

وقال جل وعلا: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13-14].

وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
وقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) [النبأ:29].

فيا عبد الله، حاسب نفسك قبل أي عمل تقوم به هل هو لله أم لدنيا أم لشهوة، فإن كان لله فاستعن بالله ثم حاسب نفسك أثناء العمل وأخلص النية.

وأخيراً حاسب نفسك بعد العمل أن لا يخالطه عُجب ولا رياء، ثم استغفر من كل نقص.

أيها المسلمون: من فوائد محاسبة النفس: أنها تُذكِّر الإنسان وتبعث فيه الاستعداد للقاء الله -عز وجل- الذي سوف يكون بين يديه الحساب.

ها هو الأحنف بن قيس كان يجيء بالمصباح فيضع أصبعه، ثم يقول: حسّ يا حنيف! ما حملك على ما فعلت يوم كذا ويوم كذا؟! ألك قُدرة على النار.

ها هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما قُتل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في معركة مؤتة قام عبد الله بن رواحة وأخذ القيادة، ولم يكن قد ذاق طعاماً قبل ذلك، ثم تقدم وقاتل فأُصيبت أصبعه فارتجز، وجعل يقول:

هل أنت إلا إصبعٍ دُميت

وفي سبيل الله ما لاقيت
يا نفس إلا تُقتلي تموتي هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت إن تفعلي فعلهما هديت

وإن تأخرت فقد شقيت

ثم قال يا نفس: إلى أي شيء تتشوقين؟ إلى فلانة، فهي طالقة ثلاثة، إلى فلان وفلان العبيد هم أحرار لوجه الله، إلى البيت الفلاني هو لله ولرسوله.

يا نفس مالك تكرهين الجنة أقسم بالله لتنزلنه
طائعة أو لتكرهنه فطالما قد كنت مطمئنة
هل أنت إلا نطفة في شنة قد أجلب الناس وشدوا الرنة

ها هو يزيد الرقاشي -رحمه الله تعالى- كان يحاسب نفسه كل يوم ويتذكر الآخرة، ويقول: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا سيتصدق عنك بعد الموت؟! من الموت طالبه من القبر بيته، من الدود أنيسه، من التراب فراشه، من منكر ونكير جليساه"، ثم يقول: "أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم ما تبقى من حياتكم"، ثم يبكي بكاءً شديدًا.

وها هو تابعي آخر بلغ من العمر ستين سنة، فحاسب نفسه وحسب أيام عمره، فإذا هي «21500» زادت على العشرين ألف يوم، الله أكبر فصرخ، وقال: يا ويلتاه، لو عصيت الله في اليوم بذنب واحد سألقى ربي بعشرين ألف ذنب، فكيف لو كان في اليوم عشرة ذنوب أو مائة ذنب، ثم خرّ مغشياً عليه.
وقال محمد بن واسع -رحمه الله تعالى-: "لو كان للذنوب ريح ما قَدَر احد أن يُجالسني".

أخي الحبيب: حاسب نفسك لتعرف رصيدك من الخير والشر، حقوق الله هل وفيتها؟
حقوق العباد هل أديتها؟ ما حالك مع الصلاة هل تؤديها بشروطها وأركانها؟

متى آخر مرة بكيت من خشية الله؟ عينان لا تمسهما النار عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله.

ما حالك مع كتاب الله؟ لا تكن ممن قال الله تعالى فيهم على لسان نبيه –صلى الله عليه وسلم-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30].
ما حالك مع النوافل والمستحبات؟! فهي علامة الإيمان وطريق محبة الرحمن.
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].

"يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان: أحدهما عن اليمين وعن الشمال، فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، فإذا مت طُويت صحيفتك حتى يوم القيامة، فيقال لك: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، ثم قال: "عدل والله من جعلك حسيب نفسك".

عبد الله! اجلس مع نفسك وحاسبها، وقل لها: يا نفس أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا، ويأنس بها، فمصيره الموت، يا نفس أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا، أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، يبني كل واحد قصرًا مرفوعًا إلى جهة السماء ومقره قبر محفور تحت الأرض.

ويحكِ يا نفس، أما تستحين من الله تزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السر بالعظائم.
ويحك أهو أهون الناظرين إليك، أتأمرين الناس بالخير وأنت ملطخة بالرذائل، فانظري يا نفس بأي بدنٍ تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تجيبين فأعدي للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.

يا نفس اخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار.

عبد الله قل:

أنا العبد الذي كسب الذنوبا

وصدته المنايا أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا على زلاته قلقاً كئيبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك لن يخيبا
فيا أسفى على عمرٍ تقَضّى ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا
فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان أن تتوبا

قال مالك بن دينار -رحمه الله تعالى -: "مكتوب في التوراة: كما تدين تدان، وكما تُزرع تحصد، فتب إلى مولاك من قريب فو الله ما ظلمك من جعلك حسيب نفسك".

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "يقول العبد يوم القيامة: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهودًا" فيُختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكُنّ وسُحقًا، فعنكُنّ كنت أُناضل.

أخي: حاسب نفسك لنفسك وأخلص تخلص، فالناقد بصير..

العمر ينقص والذنوب تزيد

وتُقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود

عباد الله: صلوا وسلموا على سيد البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم:

(إِنَّ اللَّهَ وَملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيهُّا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.