المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - فقه النوازل |
إن الغريب الذي يحيا بدينه، ويحيا لربه، ويحيا من أجل عقيدته، قد يكون غامضا في الناس، أو غير معروف، أو غير مشهور؛ ما يعنى هذا أحدا، إنما الذي يعنى كل مؤمن أن يحيا لله، وأن يعيش في كفالته، وأن يستمد منه النصرة، وأن يواجه الأحداث كلها بهذا اليقين ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: يخطئ من يظن أن هزائم الإسلام في القرن الأخير كانت بدعا في تاريخه الطويل؛ لا. إن الخط البياني للتاريخ الإسلامي متعرج، ينخفض انخفاضا شديدا، ويرتفع ارتفاعا شديدا، ويعلو ويهبط وفق القانون الإلهي الذي يقول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140].
نعم، قد يعلو أمر المسلمين، وقد يهبط، هبط في قرون مضت حتى اغتصب "الحجر الأسود"، أخذه "القرامطة" قسرا، وظل عندهم نحو ربع قرن، فما عاد إلا بعد لأي!. وهبط مستوى التاريخ الإسلامي إلى الحضيض يوم دخل "التتار" بغداد وقتلوا الخليفة، وأذلوا الأمة الإسلامية أشد الذل.
ولكن هذا التاريخ الذي هبط سرعان ما علا، فما مضى قرن حتى كان المسلمون يدقون أسوار "فينا" عاصمة النمسا، ثم قبل ذلك وصلوا مخترقين "الأندلس" إلى "جنوب فرنسا" إلى أواسط "سويسرة". هذا التاريخ الذي يتأرجح بين مَدٍّ وجزر حقيقةٌ لا بد من الاعتراف بها.
ونحن المسلمين نواجه- بإيماننا- هذا الواقع، فقد يقع أن نعيش أو نولد في عصرٍ الإسلام فيه غريب، وأمته منهزمة، وأحواله مضطربة، وأعداؤه يتربصون به. على الغرباء -من هذا القبيل- أن يتماسكوا، وأن يعلموا أن الله تعالى اختبرهم بهذه الغربة حتى يؤدوا ما عليهم في إعزاز دينه، ورفع كلمته، وتعمير مساجده، وإحياء حدوده، وحفظ شرائعه، وما إلى ذلك كله مما لابد منه لحماية الإسلام، وهو معنى الغربة الذي ورد في بعض الأحاديث: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء" وفى رواية أخرى: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" قالوا: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: "الذين يُصلحون عند فساد الناس".
والحديث يفيد أن هناك غربة متكررة تعترى الإسلام في مَدِّه وجّزْره، فهو يبدأ حركته غريبا -وبدأها غريبا فعلا- ثم آنس الله وحشته، وكثر أنصاره، وامتدت مساحته، وعمرت عواصمه، وانتشرت حضارته، ثم جاءت غربة فكسا الظلام مساحاتٍ كثيرةً من أرضه، ثم آنس الله وحشته مرة أخرى فاستعاد أمجاده التي خسرها، وزاد عليها وأربى، ثم جاء الغروب مرة أخرى، وبدأ المؤمنون الأيقاظ يواجهون ما واجهه المؤمنون أمثالهم في كل غربة مرت بالإسلام، وتطلع فيها الإسلام إلى أهل النجدة من أبنائه يؤدون حق الله عليهم، ويحملون الراية حتى لا تقع. وأنا لا أعرف- ونحن نستقبل القرن الخامس عشر- هل ستستقبل الدنيا قرنا سادس عشر وسابع عشر أم لا؟.
أنا لا أدرى، ولكن الذي أدريه جيدا أنه ما بقيت الحياة فسيبقى الإسلام، وأنه ما بقيت الشمس تطلع وتغرب فإن الإسلام يتجدد ولا يتبدد، وقد تمرض أمته ولكنها لا تموت، وعندما يظن أعداؤها أن جثتها أوشكت أن تدفن يبدأ فجر جديد لها يحير الأعداء، ويجعلهم ينسحبون من حيث أقدموا، ويتقهقرون من حيث تقدموا!.
إن هذا الدين باق إلى قيام الساعة مصداقا لقول الله- سبحانه وتعالى- على ألسنة أهل العلم والإيمان: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الروم:56]. ويعجبني في كل غريب بإيمانه، مستوحش بيقينه وإخلاصه، أن يأوي إلى ربه، وأن يستند إليه، وأن يطمئن إلى حمايته.
قال "أبو نواس" وهو يصف كل غريب بمعتقده:
تَوَارَيْتُ مِنْ دَهْري بِظِلِّ جَنَاحِهِ | فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي |
فَلَوْ تَسْأَلُوا الأيَّامَ عَنِّي، لَمَا دَرَتْ | وَأَيْنَ مَكَانِي مَا عَرَفْنَ مَكَاني |
إن الغريب الذي يحيا بدينه، ويحيا لربه، ويحيا من أجل عقيدته، قد يكون غامضا في الناس، أو غير معروف، أو غير مشهور؛ ما يعنى هذا أحدا، إنما الذي يعنى كل مؤمن أن يحيا لله، وأن يعيش في كفالته، وأن يستمد منه النصرة، وأن يواجه الأحداث كلها بهذا اليقين.
أريد من المسلمين في هذا القرن الجديد أن يستقبلوه أفضل من استقبال آبائهم الأقربين للقرن الرابع عشر، القرن الرابع عشر كان نصفه الأول نصف هزائم شائنة، وآلام ساخنة، فمن خمس وثمانين سنة تقريبا انعقد مؤتمر "بال" في "سويسرة"، وقرر المؤتمرون أن يُنشئوا دولة على أنقاض العروبة والإسلام في فلسطين، وقرروا لإقامتها خمسين سنة.
وتساءلت: ماذا صنع آباؤنا عندما تم هذا المؤتمر؟ ألم تكن لهم حاسة يشمون بها ما وقع في الدنيا؟ ألم يعرفوا أنهم هدف لأعداء لا ينامون؟ ما الذي اعتراهم حتى سكتوا وسكتوا؟ وكانت النتيجة الخزي، وأقيمت دولة لليهود على أنقاض العرب والمسلمين.
في القرن الرابع عشر وقعت الحرب العالمية الأولى، وخان العرب "الترك" وانهزم الأتراك، وقسمت تركة "الرجل المريض" على المستعمرين الأقوياء، ودرسنا في التاريخ -ونحن طلاب- أن ليس في إفريقيا دولة إسلامية، ولا دولة مستقلة!. العرب بقضهم وقضيضهم، والمسلمون باختلاف أجناسهم وألوانهم تحولوا جميعا إلى مستعمرات!.
في النصف الأول من هذا القرن سقطت الخلافة الإسلامية الشبح، والخلافة تمثل في تاريخ المسلمين أبوة روحية وثقافية واجتماعية لابد من إحاطتها، ولابد من إدراكها، حتى لا نكون أمة يتيمة في هذا العالم، خصوصا وأن غيرنا صنع لنفسه كيانا روحيا أو اجتماعيا عاش به، وتماسك بفضله. فكيف ينقسم المسلمون على هذا النحو الشائن؟.
ولكن الآباء الأقربين -غفر الله لهم- ما أحسنوا التصرف أمام هذه الأزمات، ومضى النصف الأول من القرن الرابع عشر وهو حافل بالهزائم والأحزان.
لكن أمتنا المرحومة التي أبى الله إلا أن يجدد أمرها كلما بلي، وأن يقوي ضعفها كلما زاد، هذه الأمة سرعان ما تحركت، ومشت في طريق النهضة.
ويمكن أن نقول بأنها في نهاية القرن الرابع عشر استطاعت أن تكون شيئا في دنيا الناس، وهى حقيقة لا يمكن إنكارها، هذه الحقيقة هي أن المسلمين الذين تبددوا في النصف الأول من القرن الرابع عشر أمكن أن يكونوا في نهاية القرن الرابع عشر أربعين دولة إسلامية! لكن أعداء الإسلام ما يسكتون، ولا عن هدفهم ينامون، إنهم يتحركون وفق خط واضح أمام أعينهم، ووفق خطة رسموها للنيل منا؛ وهذه الخطة يجب أن تعرف، وكشفها يحتاج إلى محاضرة مستقلة.
لكن أريد أن يعرف ما أكدته، أولا: إن الإسلام قد يمرض، ولكنه لا يموت، وأن أمته قد تتبدد، ولكنها تتجدد وتتماسك. وأذكر أنى قرأت لمستشرق أمريكي -كان لبنانيا وتأمرك- اسمه "فيليب حتِّى" ذكر في كتابه "العرب" أن الأمة الإسلامية واجهت في أوائل القرن الثاني عشر للميلاد وضعا غريبا، فقد اندحرت في كل جبهة، وانهزمت في كل ميدان، وانطلقت بين الناس كلمة واحدة هي أن كل شيء يؤذن بزوال دين محمد! كيف؟! قال: استطاع الصليبيون الزاحفون من غرب العالم الإسلامي أن يأخذوا بيت المقدس، وأن يتحسسوا الطريق إلى شمال الجزيرة العربية كي يصلوا إلى القبر النبوي في المدينة المنورة.
وفى الوقت نفسه استطاع "التتار" شرق العالم الإسلامي إن يهدموا المدن العظام، وبلغت الخسائر في السكان نحو 90% أي تسعة أعشار السكان كانوا يبيدون، ولما دخلوا "بغداد" ورموا بالمكاتب الإسلامية في "الفرات" اسودَّت المياه من كثرة "الحبر" الذي باد! كان كل شيء يؤذن بزوال دين محمد، ما بقى إلا أن تنطبق "الكماشة" وتقترب أذرعتها على قلب العالم الإسلامي في "مصر" وغيرها، ويتلاشى الإسلام من العالم كله! هكذا وصف "فيليب حتى" فصلا من فصول التاريخ الإسلامي، ولكنه في نهاية الفصل قال: وعندما انتهى هذا القرن كان هناك سؤال آخر، هل سيقف شيء أمام دين محمد؟.
كيف؟ ماذا حدث؟ الذي حدث أن المسلمين استطاعوا أن يستردوا بيت المقدس بعد تسعين سنة من قيام دولة "لاتينية" فيه، كانت "فرنسا " و " الفاتيكان" هم الذين يعينون "الولاة" في بيت المقدس! سقطت الدولة، أسقطها "صلاح الدين الأيوبي" وأعاد الأذان إلى " المنارة" الخرساء، وأعاد التوحيد وكلمته إلى "المنبر" الساكت! واستطاع المسلمون "شرق العالم الإسلامي" أن يُدخلوا "التتار" في الإسلام!.
فإذا العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري يستأنف صفحة جديدة، وإذا به يتجاوز هزائم القرن السابع الهجري لتنطلق دولة الأتراك العثمانيين خلال القرن الثامن، ثم تبدأ تطوى الطرق إلى "القسطنطينية" حتى يصل أخيرا إليها الرجل الصائم القائم العبَّاد السجَّاد المتهجِّد الشُّجاع "محمد الفاتح" الذي أسقط دولة "الروم الشرقية" ورفع علم التوحيد هناك! هذا دين يجب أن يعرف أنه لا يموت، إنه باق إلى قيام الساعة، وعندما ينتظر أعداؤه أن تشيع جنازته تبدأ شروق شمسه من جديد.
أريد أن نستقبل القرن الخامس عشر بهذا الروح، روح أن الأمة الإسلامية التي يتعرج خطها البياني طولا وعرضا، فيرتفع وينخفض، وينحسر وينتصر، هذه الأمة يجب أن تبدأ القرن الخامس عشر بروح جديد، وفكر جديد، وعزم جديد.
إننا نعلم أن انتصارنا وانكسارنا لا يرجع إلى قوة أعدائنا أو ضعفهم، إن انتصار المسلمين وانكسارهم يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها, فإذا وحدت كلمتها، ومن قبل ذلك وحدت ربها، ولزمت أمره، وأقامت حقه، نصرها: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، القلة والكثرة ليست من أسباب النصر، انتصر المسلمون في "بدر " وهم قلة، وانهزموا في "حنين" وهم كثرة، إنما ينتصر المسلمون إذا أحسنوا علاقتهم بالله، وأدوا ما عليهم له.
ويوجب علينا هذا أن نعرف الخطة الجديدة التي سلكها أعداء الإسلام ضدنا في العصر الأخير، وهذه الخطة سبق أن شرحتها، ولكن (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، إن الاستعمار الصليبي الغربي عندما انهزم بعد مائتي سنة من قتال متصل قدر أن يستفيد من الهزيمة، واجتمع رجاله كي يتعرفوا السر فيما نزل بهم، وكان سؤالهم: لقد جمعنا لقتال المسلمين فما بخلنا بمال، ولا تأخرنا عن جبن، ومضى القتال مائتي سنة، فلم يكن القتال مباراة ساعة أو ساعتين للحظ دخل فيها، لا، فما الذي جعلنا ننهزم آخر الأمر؟ وكان الجواب الذي أكده مؤتمرهم، وقرره علماؤهم، وسار عليه ساستهم: أننا أخطأنا في أمور:
أولها: أننا كنا صرحاء في محاربة الإسلام، وكان يجب أن نكون خبثاء في محاربة الإسلام! أفهَمْنا المسلمين أننا إذا احتللنا بلادهم فسنمحق دينهم، وكان يجب أن نمحق هذا الدين بنياتنا وأعمالنا دون أن ننطق بكلمة تدل على هذه النية، أو تشرح هذا الاتجاه؛ فإن المسلمين إذا علموا أن دينهم سوت يمحق تحرك القاعد، واستيقظ النائم، وتجرَّأ الجبان، ودافع الكل عن الدين!.
قالوا: فلنقرر ذبح الإسلام في قلوبنا، ولكن نلبس "قفازات" من الحرير، و نقول كلمات من العسل، ونخدع الغافلين؛ نقول لهم كلمات أخرى: علمانية، تقدمية، قومية، ... كلمات كثيرة يمكن أن تخدع هؤلاء عن النية التي بيتناها في قلوبنا لضرب الإسلام، وبذلك لا يتحركون ضدنا صفا واحدا!.
هذا أول درس قالوه، ثم قالوا: لقد هجمنا على بلاد لم نحسن دراستها، ولم نعرف شئونها، ولم نخبر أحوالها، فكنا لا ندرى أين نضع أقدامنا، وكانت النتيجة أن زلت أقدامنا في مواطن كثيرة؛ إذن لا بد من دراسة العالم الإسلامي، فكان علم الاستشراق، وكان المستشرقون.
وتطور الاستشراق إلى ما نسميه الآن "الغزو الثقافي" فوُجد كتاب لو نشاء ذكرنا أسماءهم، ذهب واحد منهم إلى "باريس" ونشر مقالا في الجريدة الأولى من جرائد "القاهرة" يقول: وذهبت فوجدت الزواج الجماعي يُعرض في المسرح! ويقول: الأعمال الجنسية تعرض في المسارح! أهذا ما لفت نظرك في "باريس"؟!.
كل "وغد" ينطلق من هذه البلاد ليعيش في حي "البغاء " هناك يجئ إلى بلادنا ليقول: هذا هو تقدم الفرنسيين؟ لماذا لم تعرض على المصريين وعلى غيرهم من العرب كيف أن جنرال "ديجول" عندما وجد أمته محرومة من أسرار الذرَّة، ولا تستطيع أن تفجر "قنبلة ذرية"، فقد ضن عليها الأمريكيون والإنكليز بهذه الأسرار، قال في كبر: سندخل النادي الذرى بالعلم الفرنسوي!. ودخل الفرنسيون النادي الذري. لماذا لم تذكر هذا؟.
لماذا لم تذكر أن الفواكه والحلوى الفرنسية تصدر للشرق الأوسط كله؟ لماذا لم تذكر هذا التقدم وهذا الإنتاج الرائع؟ كل ما عناك وأنت هناك أن تجيء إلى بلدك لتقول: وجدت الزنا الجماعي يعرض دون حساسيات!.
هذا الغزو الثقافي امتداد لعمل المستشرقين، وكم من كُتاب عاشوا بيننا لا عمل لهم إلا أن يسمموا الفكر الديني عندنا، والفكر الثقافي عندنا، حتى تشب أمتنا على نحو سيء، ماذا تنقل من أوربا وأمريكا؟ تنقل "عُلب الليل"، تنقل "القمار"، تنقل الوساخات التي تتسلل إلى المدنيات كي تنال منها.
ومعروف أن رجلا مثل "توينبي" حذر قومه من هذا المصير، قال لهم: إنني درست إحدى وعشرين مدنية فسدت وانهارت لأن المرأة تركت البيت وشُغلت في الملذات وأندية الليل! هكذا يقول "توينبي" ليحذر قومه، أما سماسرة الغزو الثقافى في بلدنا فإنهم يريدون أن ينقلوا الملذات إلينا، أما نقل العلم والتقدم فهو لا يخطر لهم ببال! هذا درس ثان قاله أعداؤنا لأممهم وشعوبهم وأنفسهم.
ودرس ثالث: قالوا: لم نحسن الاستفادة من الأقليات الدينية في العالم العربي، وتوجد في العالم العربي أقليات دينية يجب أن نشجعها على الانسلاخ من أوطانها، وعلى أن يكون لها كيان مستقل! وقد أفلح في " لبنان" حيث أمكن "للموارنة" الآن أن يُكونوا لهم قوة هائلة، ويريدون -فعلا- أن يهدموا "لبنان" الكبير، ويقيموا وطنا لهم يكون امتدادا للوطن الصهيوني الذي أقامه الاستعمار.
وهذا خط جديد عرف، ويجب أن يحذر، وأن يتم بين جماهير المسلمين عرفانه والتيقظ له. إذا كان أعداؤنا قد استفادوا من مر الزمن أن يغيروا خطط الهجوم، وأن يعرفوا أدواءنا، وأن يعرفوا كيف يضعون أقدامهم على ترابنا، وأن يعرفوا كيف يمزقون صفوفنا وينالون منا، فهل نستقبل القرن الخامس عشر بفكرٍ بالٍ، وفهمٍ غبيٍّ، وعدم إدراك لما يُراد بنا؟ لا.
إن على المسلمين أن يستيقظوا، وأن يعرفوا أن صلحهم مع الله هو أساس نجاحهم، وأن انتصارهم رهن باستقامة أمورهم. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر، والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا".
لو انتهت العلل التي تفسد ما بيننا فإن النصر حق لنا، وهو رحمة الله التي تجيء غدقا يوم تمتد أيدينا إليه نطلبها. إنني متفائل، وأشعر بأن الأمة إلى خير، وأن على علماء المسلمين في كل مكان أن يجندوا الجماهير لتبقى على وفائها للإسلام، وتحمل البلاء في سبيله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا -أيها المسلمون- أن الذي استبقى أمتنا إلى الآن هم المربون المخلصون، والعلماء الموقنون.
من الذي أغرى "الجزائر" بأن تقدم مليونا ونصفا من الشهداء حتى تستعيد استقلالها، وتتخلص من الاستعمار النازل بها؟ إنه الإسلام، ورجال الإسلام، وعلماء الإسلام.
من الذي أغرى المسلمين في "الهند" أن يقيموا "باكستان"، وأن يقدموا مليون قتيل حتى تبقى للإسلام راية مرفوعة؟ إنه الإسلام، وعلماء الإسلام، والمربون المخلصون؛ ولذلك يجب أن لا نسأم من التردد على المساجد، والتجمع فيها، موقنين بأن الخير سيكون في ساحتها.
أيها الإخوة: إن هذا المسجد -كما قلت فيما مضى- أمل المسلمين في أقطار كثيرة، وان حماه يجب أن يصان، وإن الرسالة الموكولة إليه يجب أن تتم، وأن الوظيفة الثقافية والروحية لهذا المسجد يجب أن تؤدى على نحو كامل شامل.
لكن هناك مؤامرات تدبر للمسجد، وقد اتصلنا واتصل بنا رجال طيبون من ذوى السلطة, فيهم وزراء، بل جاءنا هنا وزير مسؤول ووعدنا وعدا حسنا، واستبشرنا خيرا باليقين الذي بدأ في عينيه، والأمل الذي تركه في نفوسنا.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:20].