المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - |
إذا مرت السنون على المسلمين وهم على هذا النحو من الغفلة التي ترين عليهم فإنهم سيُذبحون، ومَرُّ الزمن لن يكون لنا بل سيكون علينا؛ لذلك ألفت النظر إلى السنة المقبلة، وإلى التاريخ الجديد، ألفت النظر وأنا أبين طبائع النفوس، وطبائع المجتمعات، وسنن الله في كونه ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإنه في الغد أو بعده سيطلع هلال المحرم، ويبدأ العام الثالث والتسعون من القرن الرابع عشر للهجرة، وكان التاريخ الهجري هو التاريخ الفرد الذي نسجل به وقائعنا، ونثبت به أحداثنا، ونرتب عليه شؤوننا حتى زاحمه التاريخ الفرنجي وزحزحه عن مكانته، ومازال به حتى جعله تاريخا ثانويا، وجعل الهجرة وما يتصل بها أحفالا شكلية، يحتشد الناس فيها بأجسادهم، ثم ينصرفون عنها، وقد نُسيت الهجرة وصاحبها وتاريخها، وما يترتب عليها، وما توحي به من عبر، وما تنضح به من ذكريات وأحداث.
والواقع أن الصراع بين الغزو الثقافي -صليبيا كان أو صهيونيا- اشتد مع الإسلام وتراثه خلال هذا القرن الأخير، القرن الرابع عشر للهجرة، ويتسم هذا القرن بأنه قرن الأحزان والــمَذلة، والهزائم المخزية، والوقائع التي ألحَقت بالإسلام وأمته عارا بعد عار، ونكبة بعد أخرى.
ولعل الرائحة الكريهة التي تهب علينا الآن، و التي يستنشقها رواد مسجد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- تذكرهم بالوضع الذي آل إليه الإسلام كله، لا هذا المسجد وحده، فإن الروائح المنتنة التي تهب من الجلود حولنا، ومن الجيف، ومن القمامات، ومِن...؛ كل هذا نوع من تذكير القدَر لنا بالوهدة السحيقة التي تردَّى فيها تاريخنا، والأيام الكالحة التي تواجهها أمتنا، و التي يجتازها القرآن الكريم والسنة المطهرة، والله يعلم متى يكون الخلاص من العقبات والعوائق، ومن هذه المحن الروحية، والأزمات الثقافية والنفسية والاجتماعية والعالمية التي تحل بالأمة الإسلامية.
إن مرور سنة على الإنسان وحده شيء خطير، بل مرور يوم واحد على الإنسان شيء خطير، لقد كان مما يُرْوَى عن الحسن البصري -رضي الله عنه- قوله: "ما من يوم ينشق فجره إلا ويقول: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود فِيَّ بعمل صالح فإنى لا أعود إلى يوم القيامة".
فإذا كان مرور يوم له هذه الأهمية، فكيف بمرور عام؟ إن طبيعة الإنسان أن ينسى، ولعل النسيان بعض ما يقيم الحياة الإنسانية ويجعلنا نحسن البقاء على ظهر الأرض، فلو استصحب الإنسان كل ألم نزل به، وكل نكبة أقضَّتْ مضجعه، لعاش مسهَّدا، بل لكره العيش! وعندما أقسم "أبو خراش الهذلي" أن يذكر قتيله، وأن يطلب ثأره، قال:
فواللهِ ما أنْسَى قَتِيلاً رُزِئْتُهُ | بجانبِ "قوسى" مَا مَشَيْتُ عَلَى الأَرْضِ |
بَلَى، إِنَّها تعْفو الكُلُومَ وَإِنَّما | نُوَكَّلُ بِالأّدْنَى، وإنْ جَلَّ مَا يَمضِي |
الإنسان يذكر القريب، ولكن كلما ضرب الزمن بلياليه وأيامه بين الحوادث وصاحبها فإن الجروح تندمل، والمعالم تنمحي، وينشغل الإنسان بحاضره. لكن، هل ما ينساه الإنسان ينساه الديَّان؟ لا، لا، فإن الأفراد والجماعات تفعل ما تفعل، وتترك ما تترك، ولابد أن تواجه بما فعَلَتْ، وبما تركَتْ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:28-29]. ما يمحو الله من كتب الحفظة إلا ما تمحوه التوبة، فإن الإنسان إذا تاب وصدق ما بينه وبين ربه فإن ما سجلته الحفَظة يمـَّحِي، وكأنما يولد الإنسان من جديد.
ونحن، إذ نواجه عاما جديدا، نحب أن نستقبله وقد فكرنا في صفحة جديدة، وقد فكرنا في أن نخط مستقبلنا على النحو الذي يُرضي ربنا، ويعز جانبنا. إن الأوربيين يصنعون في منتصف أول يناير حركة تمثيلية يطفئون فيها الأنوار ثم يضيئونها علامة الفصل بين عام مضى وعام بقي، والحقيقة أن الأوربيين عبدوا الحاضر وقدَّسوا التراب، ونسوا الله! وإن إطفاء الأنوار في أحفالهم وفي أيامهم لا يعنى إلا انتهاز المتع الحرام، واستغلال الأوقات في معصية الله.
ولكن المسلمين الذين يقدرون الوقت بالنسبة لأنفسهم أفرادا أو جماعات يجب أن يعلموا أن الوقت سلاح ينبغي أن يستغلوه لمصلحتهم، وإلا ذبحوا به. إذا مرت السنون على المسلمين وهم على هذا النحو من الغفلة التي ترين عليهم فإنهم سيُذبحون، ومر الزمن لن يكون لنا بل سيكون علينا؛ لذلك ألفت النظر إلى السنة المقبلة، وإلى التاريخ الجديد، ألفت النظر وأنا أبين طبائع النفوس، وطبائع المجتمعات، وسنن الله في كونه.
من طبائع النفوس أننا -نحن المسلمين- ننسى، بينما غيرنا يذكر، مع أن الله خلق الليل والنهار، وبيَّن أنه جعلهما يتعاقبان ليختبر الذاكر من الناسي، والشاكر من الجاحد، وقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62]. "خِلْفَةً" أي: يخلف أحدهما الآخر، وقصة الحياة يريد الله أن يبين في خواتيمها مَن الذي ذكر ومن الذي نسي؟ من الذي شكر ومن الذي كفر؟.
والناس فيما رأينا ونرى نوعان: نوع يعيش لنفسه، لجسده، وإذا امتدت حياته الجسدية في أولاده فهو يعيش لنفسه ولأسرته، ويكفيه هذا، ما يفكِّر في أفق أبعد، ولا غاية أشرف، إنه أشبه بحيوان مهذب! رُزق العقل فهو يسخِّر عقله في خدمة هذه المآرب التي جعلها في الحياة هدفه، وجعلها في الوجود قيمه ومثله الأعلى. ونوع لا يعيشون لأنفسهم على هذا النحو الضيق المشوه التافه، بل يعيشون لربهم، ويوم يعيشون لربهم فإن ربهم يكفل لهم مصالح أنفسهم بأرقى وأجدى مما لو سخروا هم عقولهم وعزَماتهم في خدمة أنفسهم.
هناك ناس يقارنون بين دينهم، بين صلاة، زكاة، حج، جهاد، أمر بمعروف نهي عن منكر، إغماض البصر عن عورة مفضوحة، أو سوأة مكشوفة؛ إنه يفكر ويوازن، وكل امرئ لا بد وأن يوازن، لأنه يوميا يواجه الاختبار، أيعيش لشهواته القريبة ويومه الحاضر ودنياه العاجلة، أم يعيش لربه، ولغده، ولشرف نفسه، وزكاة روحه، ونبل مستقبله؟ كل إنسان يوميا يوازن، وبعض الناس على عجل يطرح نداء الحق، ويصم أذنه عنه، ويستمع إلى نداء العاجل القريب.
الله -جل شأنه- بين للمسلمين أن من أراد أن يعيش لنفسه وحدها، أو لأسرته وحدها، أو لأولاده ومنزله، ومصالحه ومعايشه، وأصدقائه وعشرائه، فإنه ربما عاش، ولكن بعيدا عن رعاية الله وقبوله ورضاه، بل سيعيش وقد باء بوصف الفسق، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
يوم يكون بقاؤك في بيتك أحظى لديك من جهادك لربك، يوم يكون حرصك على مصلحتك أقرب إلى ضميرك من حرصك على دينك، فقد خسرت الدنيا والآخرة.
لما كان المسلمون في مكة يحيون لدينهم، ويحيون لربهم، فإنهم لم يطل بهم التفكير عندما قيل لهم: كي تخدموا الإسلام اتركوا مكة، اتركوا وطنكم الحبيب إليكم، واذهبوا إلى بلد ليست لكم به مصلحة ولا تجارة ولا دنيا؛ وهناك أسِّسوا للإسلام الوطن الذي يحيا فيه، وينتعش به، اربطوا مصلحتكم الخاصة بمصلحة الإسلام الكبرى.
وكانت نتيجة هذا العرض أن جمهرة المسلمين في مكة غلقت بيوتها، وتركت مصالحها، وهاجرت إلى المدينة تريد أن تعيش لله، وأن تعيش بالدين، وألا تفضل مصلحتها الخاصة على مطالب الإسلام، هذا اختبار يعرض على الأمم وعلى الأفراد كل يوم، وهو يعرض على المسلمين باستمرار؛ وعندما عرض على المسلمين جاء العرض في أيام من حق قادة الإسلام فيها أن يتساءلوا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلف بالهجرة وعمره ثلاث وخمسون سنة!.
كان قد نبئ على رأس الأربعين، وبدأ يدعو إلى الله، ويشرح الحق، ويحارب الوثنية، ويمحو ما حوته الجاهلية من خرافات؛ وكان القرآن الذي نزل في مكة يطمئنه إلى أن المستقبل له، وأن عاقبة الصراع مع الوثنية لابد أن يكون انتصار التوحيد، سمع في سورة الصافات التي نزلت عليه في مكة قول الله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173]، وسمع في سورة الروم التي نزلت عليه في مكة قوله الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]، وسمع في سورة غافر التي نزلت عليه في مكة قول الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر:51].
سمع هذا كله خلال ثلاثة عشر عاما، ولكنه في نهاية ثلاثة عشر عاما يرى نفسه مضطرا أن يهاجر بليل، مختفيا هو وصاحبه من أعين المطاردين الذين ملكوا ظهر الأرض، ورصدوا الجوائز المغرية لمن يجيء بمحمد -صلى الله عليه وسلم- حيا أو ميتا! ما هذا؟ أي ختام لهذا الجهاد بعد ثلاث عشرة سنة؟ ولكن حبل الجهاد طويل، ومراحله موصولة، والأمور لا تجرى وفق تقدير المجاهدين؛ لا، إنها تجرى وفق تقدير الله وحده.
عندما استعجل نوح وقيل له: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [هود:32-33]، في أعقاب غزوة أحد وهزيمتها المرة قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران:128]
هنا نجد أن منطق المكافح الذي يؤدي ما عليه تاركا لله جل شأنه أن يخط مستقبل الدعوة كما يشاء، وأن يبت في مستقبل دينه بما يجب، نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- نفذ خطة الهجرة تنفيذا دقيقا، ومع التنفيذ الذي وضعه نلمح أمرين:
الأمر الأول: أنه أفرغ جهد البشر في إحكام الخطة، ما ترك للصدف ثقب إبرة! أحكم الخطة تماما، المدينة المنورة شمال مكة، فالمسافر إليها يأخذ طريق الشمال، كي يضلل المطاردين اتخذ طريق الجنوب.
الأمر يحتاج إلى رواحل قوية، جاء براحلتين قويتين أعلفهما وأراحهما حتى تستطيعا تحمل متاعب الطريق ووعثاء السفر.
الطريق يحتاج إلى رجل خبير لا يعرف الطرق الممهدة فقط، بل يعرف الطرق الجانبية التي يمكن أن تسلك؛ حتى يمكن الفرار من المطاردين. والخبير بالطريق رجل مشرك، استعان به ولا حرج، ثم ما أحس غضاضة في أن يحسب كم ستتشنج قريش وتحاول العثور عليه بأي طريقة، حوالي ثلاثة أيام؟ يختفي إذن في الغار ثلاثة أيام!.
كيف يعرف الأخبار؟ كيف يدرك وهو في جوف الغار ما تتجه إليه قريش في مخططاتها وأحوالها؟ إذن فلتجئ إليه الأخبار عن طريق راعي أبى بكر، وبعض الأغذية عن طريق بنت أبى بكر! ويكون راعى الغنم ماحيا للآثار حتى لا يترك للقافلة وعراف الطريق أين اختبأ المطاردون الكبار! كل ما يمكن من جهد البشر فعله، احترام قانون السببية، هذا هو منطق الإسلام.
يوسف عندما قال لحكومة مصر على عهده: ندخر الحبوب. قال في الحب: (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) [يوسف:47] لماذا؟ حتى لا يستطيع السوس أن ينال منه.
قانون السببية لا بد من رعايته، وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) [النساء:102]. الأمة لا بد أن تكون مستعدة حتى في أثناء الصلاة! ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية، وخرجت عليه، وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية! زعمت باسم التوكل أن كل شيء يمشي بطريق الفوضى، وبديهي كان لابد أن تجنى المر من هذا الجهل.
النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكم الخطة، ومع إحكام الخطة نرى شيئا من لطائف الله، أو من نسائم الرحمة يجئ للمجاهدين وهم في مراحل الجهاد فيهون الصعب، ويملأ قلوبهم بنور الأمل!.
حدث هذا مع يوسف وهو عيل عندما اختطفه إخوته: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف:15]، ألهمنا يوسف وهو عيل أن هؤلاء الأخوة سوف يجيئونه يوما ما، متى، لا يدرى، فيوبخهم على هذا الذي يصنعونه معه الآن. وتحقق الوعد الإلهي بعد عشرات السنين! وجاء إخوة يوسف وهم جياع يقولون له: (... يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) [يوسف:88-89]
وكانوا إخوة على كثرة عددهم على درجة من الغباوة، ولأمر ما كان يعقوب متعلق القلب بيوسف، كان يوسف ذكيا نقيا، أما هؤلاء فكانوا أصفارا، وان كانوا أجساما كبارا. (قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)؟ أخيرا عرفوا مع أنهم جاءوا إليه مرة ومرتين، ولكنهم لغبائهم ما عرفوا. تحقَّق الوعد ليوسف بعد عشرات السنين، لكن عندما كان يُصنع به ما يصنع كان الإلهام ينزل على قلبه يقول له: اطمئن، المستقبل لك!.
هذا الذي حدث أيضا كان يحدث للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو في طريقه من مكة إلى المدينة، كانت بوارق الأمل تلمع أمام عينيه وبصيرته -عليه الصلاة والسلام-، ويقول علماء التفسير: نزل في الطريق بين مكة إلى المدينة قوله جل شأنه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [محمد:13]، وقوله جل شأنه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص:85].
إذن كان يدرك وهو ذاهب من مكة إلى المدينة أن الله ما خذله، وأن مرحلة الجهاد الجديدة هي طريق النصر، وفعلا كانت طريق النصر، ولذلك كان تعبير القرآن عن الهجرة أنها نصر: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
لا أريد أن أقص قصص الهجرة فطالما استمعتم إلى هذا القصص، ولكني ألفت النظر إلى أمرين: إن ترك الوطن من أجل عقيدة دافعة، أو من أجل غاية دينية يراد تحقيقها، أمر حدث في القرن الأخير، ولكنة بينه وبين هجرة المسلمين الأولين بون بعيد! إن اليهود، بدوافع دينية خالصة، تركوا البلاد التي يعيشون فيها كي يقيموا مملكة الله أو دولة إسرائيل في الأرض المقدسة على أنقاض فلسطين المسلمة!.
إنه، وبدوافع دينية، احتقر اليهودي الروسي اللغة الروسية، واحتقر النظام الروسي والتربة الروسية، وقرر أن يدع روسيا إلى فلسطين كي يقيم مملكة إسرائيل. واحتقر اليهودي الأمريكي الأرض الأمريكية، والمصالح الأمريكية، وقرر أن يدع اللغة الإنكليزية، وأن يحترم اللغة العبرية، وانضم اليهودي الأمريكي إلى اليهودي الروسي، إلى اليهودي من اليمن، إلى اليهودي من مصر الذي كان يسكن هنا في "السكاكيني" أو في "الفجالة" .
انضم هؤلاء، باسم الدين اليهودي، وباسم التوراة، وباسم اللغة العبرية، وتحت علَم إسرائيل، كان هذا التجمع الديني، أو كانت الهجرة، هجرة ثلاثة ملايين من أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا إلى أرض فلسطين، هذه هجرة باسم الدين، لكن الفارق يين الهجرة الحديثة وبين الهجرة الإسلامية الأولى فارق كبير.
أول الفوارق، أن المسلمين الذين هاجروا كانوا دعاة توحيد لله، وإصلاح للأرض، كانوا يبلِّغون أو يعلمون الدنيا أن الله رب العالمين لا شريك له، وأن الناس يجب أن يسلموا وجوههم إليه، وأن يحيوا على ظهر الأرض وفق الخطة التي رسمها لعباده! فهم أصحاب مُثل عليا لا نظير لها في الأولين والآخرين؛ أما الذين جاءوا إلى أرض إسرائيل فصلتهم بالله مغشوشة، والدوافع التي جاءت بهم -وإن كانت دينية- إلا أن ما فيها من باطل أضعاف ما فيها من حق، وما يكتنفها من ظلم ليست معه شائبة عدل. هذه واحدة.
والفارق الثاني أن الذين خرجوا من مكة لم يكن لهم على ظهر الأرض نصير، كانت الدنيا تضيق بهم، كان أهل الملل والنحل يكرهونهم؛ لأن توحيد الله على النحو الزكي الراقي الذي شرحه القرآن لم يكن معروفا لا في الكتب المقدسة المتداولة يومذاك، ولا في تطبيقات الأمم التي تتبع أديانا أرضية أو سماوية، كان الناس -كما قال رب العالمين-: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف:106]؛ فغضبَت الدنيا من أولئك المسلمين، فكان المسلمون يخرجون وهم على وصف نبيهم -صلى الله عليه وسلم- الذي وصف بـ (المتوكل)، كانوا متوكلين على الله، ليست هناك يد تحميهم إلا يد الله، ولا كنف يأوون إليه إلا كنف الله، ولا ظهير يلتمسون العزة عنده إلا الله!.
أما اليهود عندما خرجوا من هذه الأراضي الكثيرة التي تركوها إلى فلسطين، فإن الانتداب البريطاني على فلسطين كان يمهد لهم الطريق، كان الأسطول البريطاني في بحار العالم يحميهم، وأخيرا فإن الدولة الكبرى في العالم تحميهم. الفارق بعيد بين الهجرتين، وإنما ذكرت أن هناك شبها ما لأن الدافع ديني عند أولئك اليهود بيقين.
ومن لعب الاستعمار العالمي بالأمة الإسلامية أنه خلق على تراب الأرض الإسلامية ناسا زهَّدوا المسلمين في دينهم، زهدوهم في تقاليدهم، زهدوهم في تراثهم، زهدوهم في تاريخهم، بل يقول أولئك الناس للمسلمين: دعوا الإسلام فإن المسيحيين تركوا المسيحية، وإن اليهود تركوا اليهودية، وإن الوثنيين تركوا الوثنية، وإن العالم ترك أديانه كلها، فاتركوا أيها المسلمون دينكم!.
والحقيقة المــــــُرَّةُ أنه في هذه السنة التي نعيش فيها الآن، والسنة التي نفتتح بها عاما هجريا جديدا نقول بكل قوة، ونكذب كل مدَّعٍ زنيمٍ، نقول: إن العصر الحاضر هو العصر الذهبي لليهودية وللمسيحية وللوثنية، وإن الناس عادوا جميعا إلى أديانهم يتشبثون بها، ويقاتلون من أجلها، ويريدون فرضها على غيرهم؛ وإن الكلام الذي يقوله أولئك الأفاكون للمسلمين دعاية مأجورة أخذوا ثمنها إما بالنقود الروسية أو النقود الأمريكية أو النقود الأوربية، أو الشهوات المبذولة لهؤلاء العملاء. والمقصود الإجهاز على الإسلام وتاريخه حتى لا يبقى له وسم ولا رسم.
فلنستيقظ ولنبدأ عامنا الجديد بيقظة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل. واعلموا أيها المسلمون أن كلا منا يستطيع أن يدرك ثواب الهجرة، إذا تدبرنا قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "العبادة في الهرج كهجرة إلىَّ"، الهرج: يعني عندما تكثر الفتن، وتشيع الجهالة، وتنتشر الآثام، وتغلب الرذيلة، ويصبح فيها العفاف مستغرَبا لغلَبة التهتُّك، ويصبح فيها الحفاظ على الصلاة مستغربا لأن إضاعة الصلاة تقليد وعرف عام، ويصبح فيها المتشبث بالإسلام متَّهما لأن ترك الإسلام باب الوجاهة وباب الوصول!.
عندما يكون الأمر كذلك فإنَّ تشبث المسلم بدينه، وتركه هذه الأعمال كلها، واختياره لله ولما عنده، واعتصامه بالإسلام، كل هذا يعطيه ثواب الهجرة؛ لأن الهجرة لم تكرم لأنها سفر من مكان إلى مكان، فما أكثر الذين يسافرون هجرةً، لم تكرم على أنها سفر، وإنما كرمت على أنها انتقال نفسي، انتقال روحي، انتقال فكري، استبقاء للإسلام على أرض الله عن طريق أن نكون نحن جسرا يعبر الإسلام عليه حيث يريد، والحرب المعلنة على هذه الفكرة حرب شعواء!.
عندما أقرأ اليوم لرحالة الأهرام المشهور رحلته في أوربا وفيها نحو ثلاثة أعمدة عن الفتيات الكاشفات للأفخاذ، وعن الجنس! أسأل: لم يعرض هذا على العالم الإسلامي المهزوم؟ قد يفكر حيوان منتصر في أن يُشبع شهوته، لكن الحيوان المهزوم لا يجرى وراء شهواته على هذا النحو المسعور. ولكن التفكير الذي يُنشر على هذا النحو مخطط له، الذين أرسلوا راقصات ومغنيات إلى الجبهة يسيرون مع هذا التفكير، هناك حرب جلية وخفية، الخفي منها أكثر من الجلي، ضد الإسلام وأفكاره ورسالته ودعوته وحمــَلَته.
وإذا كان بعض الناس فهموا الفكر الناصري على أنه شيوعية، فإن هؤلاء الناصريين ينتشرون في كثير من وسائل الإعلام وهم لا دين لهم، ويحاربون الإسلام بضراوة ومرارة وخبث ودهاء، بينما المدافعون عن الإسلام جبهة ما تزال ممزقة، ولا تزال قواها الضعيفة هي التي تتقدمها، أما أنبغ مَن فيها وأقدره فهو مقيَّدٌ مستضعَفٌ لا حول له ولا طول!.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].