الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد الجبري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
والملاحظ في هذه الأيام انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حق من الحقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، فدخول الجامعة يحتاج إلى واسطة، والحصول على وظيفة يحتاج إلى واسطة، ودخول المستشفيات التخصصية للعلاج يحتاج إلى واسطة، بل إن هناك يقينًا لدى أكثر الناس اليوم أنه لا فائدة من مراجعة أية دائرة كانت، حكومية أم أهلية إلا بوجود الواسطة، حتى تحولت حياتنا إلى ما يشبه الارتهان للواسطة ..
حديثنا اليوم عن الواسطة أو الشفاعة أو المحسوبية أو فيتامين (واو) كما يسميها البعض.
وتعريف الواسطة: هي طلب العون، والمساعدة في إنجاز شيء، من إنسان ذي نفوذ، لدى من بيده قرار العون والمساعدة، على تحقيق المطلوب لإنسان لا يستطيع أن يحقق مطلبه بجهوده الذاتية.
والملاحظ في هذه الأيام انتشار الواسطة في كثير من الأمور، فلا تكاد تصل إلى حق من الحقوق أو أمر تريده إلا بواسطة، فدخول الجامعة يحتاج إلى واسطة، والحصول على وظيفة يحتاج إلى واسطة، ودخول المستشفيات التخصصية للعلاج يحتاج إلى واسطة، بل إن هناك يقينًا لدى أكثر الناس اليوم أنه لا فائدة من مراجعة أية دائرة كانت، حكومية أم أهلية إلا بوجود الواسطة، حتى تحولت حياتنا إلى ما يشبه الارتهان للواسطة لإنجاز معاملاتنا وقضاء حاجاتنا والوصول إلى غاياتنا.
والوساطات والشفاعات تختلف صورها وأحوالها وآثارها، وكذلك الناس يختلفون في مبدأ الواسطة، ففريق غالى وزاد فيها، يتوسط بحق وبغير حق، وبجهل أو بعلم، والفريق الآخر شدد في الواسطة والشفاعة وأغلق بابها، فلا ينفع قريبًا ولا يشفع لصديق، ولا يعين محتاجًا ولا يقف مع صاحب حق، والأصل بين الناس النفع والإعانة والشفاعة والمساعدة فيما يقدر المرء عليه ولا يضر بها أحد؛ لذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32]، أي: أن الله خلق الخلق فجعلهم درجات، وفاوت بينهم فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والأعمال والعقول وغير ذلك من أجل أن يتخذ بعضهم بعضًا سخريًا، أي: يكون كل منهم مسخرًا لخدمة الآخر وللسعي في حاجته، فالغني يخدم الفقير بجاهه وماله، والفقير يخدم الغني بعمله وسعيه؛ لذا من أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الواسطة والشفاعة الحسنه، يقول -سبحانه وتعالى-: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء: 85]، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "اشفعوا تؤجروا". متفق عليه عن أبي موسى الأشعري. أي: أن تكون الواسطة أو الشفاعة في أمر خير واضح بيّن، كمن يتوسط بين متخاصمين للصلح بينهما، أو زوجين متنافرين ليجمع بينهما، أو التوسط بين دائن ومدين للرفق به وحط شيء من دَينه، أو التوسط لشخص لأنه يمتاز بالأمانة وفي توظيفه تفريج لكربته مع عدم ظلم أحد من الناس، أو طلب شخص ما إعطاء أحد الموظفين ميزات لسبب معقول دون تأثير على الآخرين.
وهذه الميزة الوظيفية من صلاحية المدير، فالواسطة هنا جائزةٌ لما فيها من نفع المسلمين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من استطاع منكم أن ينفع أخيه أخاه فليفعل". السلسلة الصحيحة 472. وكل ذلك يدخل في قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اشفعوا تؤجروا".
والضابط في الواسطةِ الجائزة أن تكون الواسطة غير مخالفة للشرع أو للنظام، ولا يترتب عليها ضرر للآخرين. هذا بالنسبة للواسطة أو الشفاعة الحسنة.
وهناك بعض الناس يظن أن كل شفاعةٍ أو واسطةٍ فيها الأجر والثواب! وهذا غيرُ صحيح، لماذا؟! لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) [النساء: 85]. فدل ذلك على وجود نوع من أنواع الشفاعات هو حرام، وهي الشفاعة السيئة، فقد يشفع إنسانٌ بجاهه ومنزلته وكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل، وقد يشفع إنسانٌ ما في تزويج فاسق أو توظيف سارق أو رجل غير كفء، أو يتوسط لرجل مع دفع رشوة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابًا عظيما من أبواب الربا". حديث حسن رواه أبو داود [3074] عن أبي أمامه، أو أن يتوسَّط الشخص لرجلٍ ويترتب على الواسطة حرمان موظف آخر من ترقية مع أنه أكفأ ممن تُوسِّط له، أو منع موظفًا من حقه.
وبعضهم يتوسط في كبائر فيكون هو ومرتكب الكبيرة سواء، كالذي يتوسط في تنظيم اللقاءات غير المشروعة بين الجنسين، أو يدل إنسانًا ما على ساحر أو كاهن أو عنوان دعارة، أو يدلّ على بائع خمر أو مخدرات، فيكون مشاركًا في الإثم والمعصية، وهذا من الخذلان وعدم التوفيق والعياذ بالله.
بل وبعض الناس يتوسط أو يشفع في حد من حدود الله، وهذا أيضًا يدخل في قوله تعالى: (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا). وقد عدّ ابن القيم الشفاعة والوساطة في الحدود من الكبائر، واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره". رواه أحمد [5129]. وتعلمون جميعًا قصة المخزومية التي سرقت، فطلب أهلها من أسامة بن زيد حب رسول الله أن يتوسط عنده فيها فقال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟!". ثم قام -صلى الله عليه وسلم- فخطب فقال: "يا أيها الناس: إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". رواه البخاري 6290. وهذا في الواسطة والشفاعة إذا وصل الحد إلى السلطان فعندها لا يجوز ذلك، لكن إذا لم يصل مرتكب الحد إلى السلطان فالستر عليه والعفو عنه لا بأس فيه.
أيها الإخوة: إن من أسباب النكبات التي تمر بها بلاد المسلمين تعطيل الحدود الشرعية بسبب شفاعة السوء ووساطة السوء، والتي تسبب بالتالي نزول العقوبة الكونية التي تشمل المجتمع كله؛ لذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حد يقام في الأرض خير من مطر أربعين صباحًا". رواه ابن حبان 4398 عن أبي هريرة.
ومع ذلك فنحن نرى أن الزاني يزني فيتوسط فيه من يتوسط ولا يقام عليه الحد، ويشرب الخمر من يشربها فيتوسط فيه من يتوسط ولا يقام عليه الحد، ويسرق من يسرق فيتوسط فيه فلا يقام عليه الحد، وفي بعض الأماكن هناك من يسبّ الدين والشرع ويستهزئ به فلا يقام عليه الحد، بل يجد من يدافع عنه بالباطل، بل إن هناك من يرتد فلا يقام عليه الحد بسبب شفاعات السوء التي تحارب حكم الله ورسوله.
هذه بعض أنواع الشفاعات والوساطات التي تنتشر هذه الأيام في كل أنحاء العالم الإسلامي، وإذا استمر الحال على ذلك فإن الناس سوف يتكلون على الواسطة ويتركون التنافس الشريف بينهم؛ لأنه لماذا يتعلم الإنسان ويجتهد ويكد نهاره ويسهر ليله إذا كان يستطيع الحصول على وظيفة أو تعيين في مكان ما بواسطة أو بخطاب تزكية من فلان أو غيره؟! وكذلك كيف يتأدب ويرتدع الفاسق والمجرم ويكف شرّه عن الآخرين إذا علم أنه سينجو من العقاب لأن قريبه فلان أو صديقه فلان الواصل -كما يقولون- ويستطيع أن يغير الأمور لصالحه؟! ثم ماذا يفعل الضعيف والمسكين والمحروم والذي ليس له واسطة ولا يشفع له أحد؟! أيضيع حقه بسبب ذلك؟!
إن هذا الأمر إذا حدث في أي أمة فقل: عليها السلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع". صحيح الجامع 2421. أي: يأخذ حقه من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه ولا يؤذى وبدون واسطةٍ أو تدخّل من أحدٍ. فهل يفهم الناس ذلك؟! نرجو هذا ونتمناه.
الخطبة الثانية:
لا بد من التأكيد على من يقوم بالتوسط للناس في حاجاتهم أن يعلم أن هناك شفاعةً حسنة وأخرى سيئة، وكما قال سبحانه: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا). فعليه أن لا يتوسط ولا يشفع إلا في خير بيّن، وأن يحذر أن يكون سببًا في وساطة سيئة قد تكون سببًا في اغتصاب حق امرئ مسلم وحرمانه من هذا الحق.
هل تصدقون أنه حتى الأربطة الخيرية وُجد أن بعضها سُكنت ممن هو ميسور الحال، بل وله سكن آخر ومؤجّر وما أتى به إلا الواسطة الظالمة، أمّا المالك فقد لا يعلم من هذا شيئًا. وهذه الواسطة الظالمة تظن أنها فعلت خيرًا، ولا تعلم أنها قد خانت الأمانة وحرمت مُستحِقًا للسكن وأعطته للآخر غير المستحِق.
وقد يقول قائلٌ: إنه من الصعب جدًّا القضاء على الواسطة المنتشرة هذا الزمان! ونقول: هذا صحيح، لكننا وبالمقابل لا بد أن نعرف كيف نحسن استخدام هذه الواسطة إذا احتجنا إليها.
أولاً: إذا أردنا أن نوسّط أحدًا ما في قضيةٍ معينة فلا بد أن نؤكّد له أننا -مع رغبتنا في الحصول على ما نريد- لن نوافق على الإضرار بأي مسلم بسبب ذلك؛ لأننا نخشى على أنفسنا، وعليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟! قال: "وإن قضيبا من أراك". رواه مسلم 196 عن أبي أمامة.
ثانيًا: على من يقوم بالشفاعة أو الواسطة أن يكون لينًا في قبول الشفاعة الحسنة، وأن يكون حازمًا في رفض الشفاعة السيئة، وأن لاّ يجعل خشيته من الناس كخشيته من الله، (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].
ثالثًا: علينا أن لا نحمل الناس فوق طاقتهم إذا طلبنا منهم التوسط لنا في شيء ما، وأن لا نغضب منهم إذا لم يتمكنوا من مساعدتنا؛ لأن الأمور مرهونةٌ بتيسير الله، وفي النهاية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286].
رابعًا: لماذا نتكئ دائمًا على الواسطة ونتجاهل الدعاء؟! لماذا لا نربي أنفسنا ومن نعول على أن نصلي صلاة الحاجة في وقتها وذلك بركعتين ثم نتبع ذلك بالدعاء لله -عز وجل- القائل لنا: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]؟! فإن الدعاء سبب لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم وتيسير الأمور وتسخير الناس لنا، الذين إن خدموك اليوم فإنهم سيستكثرون عليك ذلك غدًا.
لا تسألـنّ بنيّ آدم حـاجةً | وسلِ الذي أبوابهُ لا تُحجبُ |
الله يغضبُ إن تركتَ سؤاله | وبنيُّ آدمَ حينَ يُسألُ يَغضبُ |
خامسًا: نقولها بصدق: الذي يحوجنا إلى أن نتوسط بالمخلوق إلى المخلوق الضعيف هو ضعف توكلنا على الله، أي: نحن نشتكي من الضعيف إلى الضعيف، ونستشفع بالفقير إلى الفقير، ونستدل بالأعمى على الأعمى، ضعف إيمان مشترك من الطرفين، ولو صدق يقيننا في الله لرزقنا كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا". رواه أحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. فليس لدى الطيور مستودعات ولا ثلاجات ولا خزانات، ولكنها في كل يوم تروح في أرض الله خماصًا خاوية البطون، وترجع بِطانًا قد أشبعها الله من فضله، لكننا نحن في طمع وشره، فالمسؤول يريد الواسطات؛ لأنه لو جاء صاحب الطلب وأوراقه مكتملة وانتهى أمرُه فلن يستفيد من ورائه مصلحة، أما في حالة الواسطة فإنه يستفيد؛ إذ إن هذا الواسطة يبادله بمصلحة مماثلة عند الاحتياج، ويخضع له ويحترمه، وهكذا النفوس إذا خوت من مراعاة تقوى الله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته". رواه البخاري 6719 عن ابن عمر. فلو أن كل إنسان اتقى الله وفهم هذا الحديث فلن نحتاج إلى الواسطة.
فأول ما بدأ قال: "فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"، فذكر أكبر ولاية، ثم ضرب مثالاً لأصغر ولاية فقال: "وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه"، وهي ولاية الخادم، فما بين الولايتين كلهم مسؤولون، فعليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه؛ فإذا اتقوا الله فلن نحتاج بعد ذلك لا إلى واسطة ولا إلى غيرها، أو على الأقل نخفف منها بقدر ما استطعنا، فهل نفعل؟! نرجو ذلك ونتمناه، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.