الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | بلال بن عبد الصابر قديري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وللعضل صور وأشكال مختلفة، منها ما جاء في قول الله -عزّ وجل-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، قال ابن عباس: "نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها...
كان العرب قبل الإسلام يعانون من أضرار الجاهلية وأوضارها كشأن سائر الجاهليات المحيطة بهم، ومن ذلك ما كان عليه أهل الجاهلية من عضل النساء، فكانت المرأة فيهم إذا مات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يشبّ فيتزوجها أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوبًا نجت، فإذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فكانوا يعضلونها حتى يرثوها أو يزوجوها ممن أرادوا، فيرث امرأة الميت من يرث مالَه، واليتيمة كانت تكون عند الرجل فيحبسها حتى تموت أو تتزوج بابنه، وإذا غضب الرجل على زوجته طلقها ثم راجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، هكذا دون حدٍّ، أو يتركها معلقة، لا هي بذات زوج ولا هي بمطلقة.
ولما بزغ فجر الإسلام الدين الخاتم أنزل الله تعالى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]. قال ابن كثير: "فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم. وقال عبيدة السلماني: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام، قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله: (لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا) [النساء: 19] في الجاهلية، (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) [النساء: 19] في الإسلام". انتهى.
فعرف الناس ما لهم وما عليهم، ففرضت الحقوق، وحددت الواجبات، وأصبح الجميع في ميزان الإسلام سواءً، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) [آل عمران: 195]، (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 32].
إلا أنه ما زالت رواسب الجاهلية تلاحق بعض أبناء الإسلام بحجة العادات والتقاليد، فتسطو التقاليد على الشرع، وتُمنع البنت التي بلغت مبلغ النساء من الزواج، فتعضل ويحجر عليها، ويردّ الزوج الكفء الكريم، في أخلاق جاهلية ذميمة، وكل الجاهلية مذموم، ويتناسى هؤلاء أن قطار العمر أسرع سيرًا في حال الأنثى مما هو عليه بالنسبة للرجل.
قال ابن منظور -رحمه الله- في لسان العرب: "وعَضَلَ المرأَةَ عن الزوج: حَبَسها، وعَضَلَ الرَّجُلُ أَيِّمَه يَعْضُلها ويَعْضِلُها عَضْلاً وعضَّلها: مَنَعها الزَّوْج ظُلْمًا". وقال الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: "معنى العضل: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه".
وللعضل صور وأشكال مختلفة، منها ما جاء في قول الله -عزّ وجل-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 232]، قال ابن عباس: "نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وعلى هذا فلا يجوز منعها من الرجوع إليه بدعوى جرح الكرامة أو الإهانة".
ومن صور العضل ما جاء في قول الله -عزّ وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) [النساء: 19]، ومعنى ذلك: أن يضيق الزوج على زوجته إذا كرهها، فيسيء عشرتها، ويمنعها من حقها في النفقة والقسم وحسن العشرة، وقد يصاحب ذلك إيذاء جسدي بضرب وسب، كل ذلك من أجل أن تفتدي نفسها بمال وتخالعه: (لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) أي: لكي تفتدي المرأة نفسها من الظلم بما اكتسبته من مال المهر والصداق، وبهذا العضل اللئيم والأسلوب الكريه يسترجع هؤلاء الأزواج ما دفعوه من مهور، وربما استردوا أكثر مما دفعوا، وكل ما أخذوه من هذا الطريق بغير وجه حق، فهو حرام وسحت وظلم.
ومن أنواع العضل المنهي عنه ما بينته الآية الكريمة في قول الله -عزّ وجل-: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ) [النساء: 127]. وفي هذه الصورة يمتنع ولي اليتيمة من تزويجها لغيره لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها.
ومن صور العضل المقيت أن يمتنع الولي عن تزويج المرأة إذا خطبها كفءٌ وقد رضيته، وما منعها الولي إلا طمعًا في مالها، أو لطلبه مهرًا كثيرًا، أو لمطالبات مالية له ولأفراد أسرته، حتى لو جاء خاطب كفء يماثلها سنًا ونسبًا، فيرد الصالح التقي، ويزوجها من شيخٍ هرمٍ أو فاسقٍ عاصٍ؛ طمعًا في عرض الدنيا الفاني.
تلكم صورٌ مؤلمة يرتكبها بعض الأولياء من أجل الكسب الماديّ.
ومن صور العضل أن لا يزوجها إلا من العائلة نفسها أو القبيلة ذاتها، في نظرة دونية لمن سواهم، أو بدعوى المحافظة على النسب؛ تفاخرًا بالأحساب وطعنًا في الأنساب، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد أبطل هذا بقوله وفعله، فقال للأنصار: "يا بني بياضة: أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه"، وقد كان -رضي الله عنه- حجامًا. رواه أبو داود وحسنه الألباني. وزوَّج ابنة عمته زينب بنت جحش -رضي الله عنها- وهي من أرومة قريش وأرفعهم نسبًا ومن قرابة النبي –صلى الله عليه وسلم-، زوجها من عبده ورقيقه الذي أعتقه زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وهو أعلم الناس بالله.
ومن العضل المقيت أن تُمنع المطلقة أو الأرملة من الزواج ثانية لتنعم بما أباح الله لها من ابتغاء الزوج الكفء التقي الصالح، بل ينظرون إليها نظرة الدون في تقليد جاهلي بغيض.
ومن صور العضل المستجدّ أن يمنع زواجها بحجة إكمال الدراسة وتأمين المستقبل، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "في قوله تعالى: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] خطاب للأولياء، قال ابن عباس وابن جبير وابن قتيبة في آخرين: معناه لا تحبسوهن". انتهى.
عضل من نوع آخر وهو ما يسمّى بالتحجير، وهو ظلم عظيم حين يعلن الولي أن ابنته حجر على ابن عمها أو قريبها دون سواه، بغضّ النظر عن دينه أو خلقه، وتزوّج منه بغير رضاها إجبارًا، فإن أبت أو تمنعت ظلت معلقة لسنوات، ثم يذهب ويتزوج غيرها ويتركها معلقة، ويقولون: "القريب أولى من الغريب"، فيقدم الفاسد الفاسق القريب على الصالح الكفء البعيد. فالتحجير وإجبار المرأة على الزواج بمن لا ترضاه ومنعها من الزواج بمن ترغب فيه ممن استوفى الشروط المعتبرة شرعًا أمر لا يجوز، بل هو من أكبر الظلم والجور، وهذا أعظم جرمًا من سابقه، وكلا النوعين فيهما مضادة لحكم الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، وهو نوع من الوأد يتجدد، وإذا كانت الموؤودة في الجاهلية سرعان ما تموت تحت التراب فإنها الآن تظل حية تعاني ظلم الأهل، فأصبح الوأد بصورته هذه أشد قسوة من الوأد القديم.
وظلم ذوي القربى أشد مضـاضةً
عضل الأولياء وإن لم يكن ظاهرة بل شذوذًا عن الأصل إلا أنه يجب أن يقلع عنه الوالغون فيه، وقد يدعي بعض الآباء أن الحامل له على هذا حرصه على مصلحتها وحبه لها، فيقال له: ومن الحب ما قتل، وما مثل هذا الأب إلا كذاك الذي تمثل قائلاً:
أُحِـبُّ بُنَيَّتِي وَوَدِتُ أنّي
فسواء أكان القصد حرصًا أم طمعًا فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، والخير كل الخير فيما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا العضل آثارٌ وخيمة وعواقب سوءٍ مُرْدِيَة، جانب منه يسير نطق به الضحايا؛ تقول إحداهن: عاكست خمسين رجلاً، وأخرى تقول: فكرت في المخدرات، وثالثة حاوَلَتِ الانتحار، والرابعة ترى الراتب اللعين هو السبب الذي فاتها قطار الزواج لأجله وصارت رقمًا في عداد العوانس.
وتُلِحُّ هنا قصة الفتاة التي شهدت لحظة احتضار والدها، فالتفتت إليه وهو يجود بروحه، ويتمنى أن يسمع ممن حوله كلمة طيبة يختم بها حياته مرتاحَ البال، فإذا بابنته تلتفت إليه وتقول: أبي قل: آمين، فقال: آمين، وهو يعالج سكرات الموت، لعلها تستغفر له، فردت عليه الطلب فأمَّن الثانية والثالثة، فصاحت به: حرمك الله من الجنة كما حرمتني من الزواج. لسان حالها يلهج بالدعاء على من ظلمها، وأيّ ظلم أعظم من هذا الظلم الذي منعها حقّها في إعفاف نفسها، فكم من رجل دعت عليه ابنته بدل أن تدعوَ له، وكم من بنت تكنّ لأبيها بغضًا وكرهًا بدل الحب والاحترام، وما ذاك إلا لظلمه لها وعضلها عن الزواج.
فهل يرضى أحد أن تكون ابنته وفلذة كبده خصمه يوم القيامة؟! والله تعالى يقول: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير". رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن". متفق عليه.
وقد بشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ زوَّج بناته بعد أن رباهن على محاسن الأخلاق وأدبهن بآداب الإسلام بالجنة، فأي نعيم يعدل نعيم الجنة؟! عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَالَ ثَلاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ". رواه أبو داود.
أيها الأب: العضل يحرمك هذا الفضل العظيم، فاختر لنفسك فأنت المخير بين تزويج بناتك، فيسعدن في الدنيا، وتسعد بهن في الدنيا، ويكُنَّ جسرًا لك إلى الجنة، وبين عضلهن فيتعسن في الدنيا، وتشقى بظلمهن في الدنيا والآخرة. ولو عَقِل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فتلك سنة الصالحين من قبل ومن بعد، قال الله عن الرجل الصالح: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: 27]، وهذا عمر -رضي الله عنه- يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان -رضي الله عنهم أجمعين-، وسعيد بن المسيِّب -رحمه الله- يزوّج تلميذه أبا وداعة بابنته التي خطبها إليه الخلفاء، فأبى إلا أن تكون في حِجْر طالب علم ولو كان فقيرًا، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز للأب التصرف في مال ابنته ببيع أو شراء أو هبة أو وقف إلا بإذنها، وإنما يجوز له أن يأخذ منها مقدار نفقته إن كان فقيرًا وهي غنية، فإذا كان يُمنع من إكراهها في التصرف في مالها، فمن باب أولى يمنع من إكراهها بَذْلَ بُضْعِهَا لمن لا ترضاه، فضرر إكراهها عليه أكبر وأعظم، وكما لا يجوز إجبار المرأة على الزواج فلا يجوز له عضلها؛ لأن الولاية في مفهومها الشرعي ولاية إصلاح ورحمة، لا ولاية تسلط وأهواء، فالحكمة من اشتراط الولي أنه لاختلاطه بالناس ومعرفته بأحوالهم يكون أكثر خبرة منها بالرجال، وفيه إكرامٌ للمرأة وإبعادٌ لها عن خدش حيائها عندما تتولى تزويج نفسها، وكذا لأجل دفع الخصام والتنازع بين الزوجين وأهليهما مستقبلاً.
وإذا كانت شروط البيع السبعة كلها ترجع لشرط واحد نص عليه القرآن: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [النساء: 29]، فكيف للوليِّ أن يمضي النكاح من غير رضاها؟! وأمر الفروج -ولا شك- أعظم من متاع الدنيا. ومن الزواجر القاعدة الشرعية الكبرى المقررة: "لا ضرر ولا ضرار"، وقد جاءت السنة النبوية بذلك صريحة، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار، من ضارّ ضره الله، ومن شاق شق الله عليه". رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني واللفظ له. والعضل من أعظم الإضرار ولا شك.
ومن صور الظلم للفتاة أن يسارع الولي بتزويجها لأول خاطب، فبعد قناعته بحسبه ونسبه وماله يزوجها، دون تروٍّ أو تحرٍّ عن دينه وخلقه، وهذا ينعكس أثره على تلك المسكينة التي أصبحت ضحية للإفراط أو التفريط، فكم من فتاة تندب حظها وتجني ثمار بؤسها وشقائها حين وقعت في يد من لا يخاف الله فيها ولا يرحمها، وفي النهاية تعود إلى بيت أبيها خاسئة ذليلة، وتبقى مطلقة أو معلقة مدى الحياة، وتلك نتيجة حتمية للتساهل بأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القائل: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وحسنه الألباني.
فالواجب البحث عن الدين والخلق؛ لأنه –صلى الله عليه وسلم- غاير بينهما، فلا يكفي أن يكون دينًِّا سيئ الخلق، ولا أن يكون حسن الخلق سيئ الديانة، وإنما اجتماع الخصلتين هو الكمال.
وبعدُ:
فإن الرعية التي استرعاكها الله تعالى تنتظر منك الرحمة المشوبة بحزم اللبيب، والعدل الذي منطَلَقه الأب الرحيم، ولن تظفر بذلك إلا باستمداد العون من الله تعالى أن يعينك على حمل الأمانة وأدائها كاملة غير منقوصة، فالزم باب الله فإنه الركن إن خانتك أركان.