الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لقد قست قلوبنا، وقحطت عيوننا، واستوحشت صدورنا، وصرنا نقرأ الحاقة والزلزلة والقيامة فلا نتأثر! ونرى الجنائز وندخل المقابر ونسمع عن موت فلان وفلان فلا نتأثر! ونسمع النصائح والمواعظ والزواجر فلا نتأثر! ونرى الأحوال والأهوال والأعاصير والزلازل فلا نتأثر! ونسمع عن الصراط وحِدَّتِه، والميزان ودِقَّتِه، والوقوف بين يدي الله وعظمته؛ فلا نتأثر! ونسمع كل يوم عن أحوال المسلمين المستضعفين فلا نتأثر! فما بالُ قلوبنا قد قست -يا عباد الله- حتى أصبحت كالحجارة أو أَشَدَّ قسوة؟! ..
إن القلب هو أشرف أعضاء الإنسان، وهو الذي إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله.
وهو محل نظر الله -سبحانه وتعالى- وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم أنه لا نجاة يوم القيامة لأحد إلا لصاحب القلب السليم: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "أشرف ما في الإنسان قلبه، وإنما الجوارح أتباع للقلب... يستخدمها استخدام الملوك للعبيد".
القلب هو محل التقوى، وقد صرح النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، كما عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التقوى هاهنا التقوى، هاهنا" وأشار بيده إلى صدره.
إن القلب -عباد الله- إما أن يكون وعاءً للخير والرشاد، وإما أن يكون وعاءً للشر والفساد، يقول حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مِرْبَادَّاً، كالكُوزِ مُجَخِّيَاً، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم.
لقد قست قلوبنا، وقحطت عيوننا، واستوحشت صدورنا، وصرنا نقرأ الحاقة والزلزلة والقيامة فلا نتأثر! ونرى الجنائز وندخل المقابر ونسمع عن موت فلان وفلان فلا نتأثر! ونسمع النصائح والمواعظ والزواجر فلا نتأثر! ونرى الأحوال والأهوال والأعاصير والزلازل فلا نتأثر! ونسمع عن الصراط وحِدَّتِه، والميزان ودقته، والوقوف بين يدي الله وعظمته فلا نتأثر! ونسمع كل يوم عن أحوال المسلمين المستضعفين فلا نتأثر! فما بال قلوبنا قد قست -يا عباد الله- حتى أصبحت كالحجارة أو أشدَ قسوة؟!.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74]، (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43]، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]، يقول مالك بن دينار: ما ضُرِب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
قست قلوبنا بسبب ذنوبنا، نذنب بالليل والنهار ثم لا نتوب ولا نستغفر ولا نسأل الله العفو عما وقعنا فيه من ذنب أو معصية!.
كل يوم ونحن نقترف المعاصي ونسترسل في الذنوب، ونغفل عن الله، ونضيع الصلاة، ونتعرض لسخط الله، نشاهد الحرام، ونسمع الحرام، وربما نأكل الحرام؛ فماذا ننتظر لقلوبنا بعد ذلك؟.
قست قلوبنا لأننا تركنا المفسدات والمؤثرات تعمل فيها وتتجمع عليها حتى تراكمت وتكاثرت وأصبحت حجاباً شديداً يغطي على القلب، وهو الران الذي ذكره الله في كتابه فقال: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطفيين:14-15].
ومن أعظم مفسدات القلب التعلق بغير الله، وترك التوكل عليه، والتمني، وهو طول الأمل وحب البقاء في هذه الدنيا، وكثرة المخالطة، وكثرة الضحك، وفضول الأكل، وكثرة النوم؛ يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أطلب قلبك في أربعة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الصلاة، وفي الخلوات؛ فإذا لم تجده فسل الله تعالى أن يمن عليك بقلبٍ؛ فإنه لا قلب لك!.
فالقلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه التوبة، ويجوع كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المحبة والإنابة؛ ويعرى كما يعرى البدن، ولباسه التقوى، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26]؛ ويصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤه الاستغفار.
قست قلوبنا لأننا هجرنا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله! هجرنا تلاوته، هجرنا سماعه، هجرنا العمل به، هجرنا التحاكم إليه والمطالبة بتحكيمه، هجرنا الخشوع عند تلاوته؛ وليسال كل واحد منا نفسه: كم يقرأ في اليوم من كتاب الله؟ وهل دمعت عينه عند قراءته لكلام الله؟.
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2]، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:23]، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16].
الخطبة الثانية:
لقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من القلب القاسي الذي لا يخشع، فقال: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"؛ بل توعد الله -جل جلاله- صاحب القلب القاسي بالويل والثبور: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
كل هذا لأن أمر القلب عظيم، وشأنه جليل، وزيغه خطير؛ فإن القلب إذا قسا ختم عليه، وبعد الختم يطبع عليه، وبعد الطبع يموت -والعياذ بالله-! (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23]، (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة:7].
عباد الله: إن قسوة القلب لا تلين إلا بالإيمان بالله والعمل الصالح، وخير ما ترق به الأفئدة وتخشع له القلوب هو كلام الله، فأكثروا من ذكر الله، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]. قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد؛ أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذِبْهُ بالذكر.
أكثروا من الدعاء، والالتجاء لله -سبحانه-؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيراً ما يدعو فيقول: "يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك"، يقول ثابِت البُنَاني -رحمه الله-: إني لأعلم متى يُستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقْشَعَرّ جلدي، ووَجِل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حينئذ يُستَجاب لي.
ومما يذيب قسوة القلب زيارة المقابر، وتذكر الموت، والتفكر في الدنيا وزوالها، والانتقال منها إلى الدار الآخرة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زوروا القبور؛ فإنها تذكر بالآخرة"، يقول الله -جل جلاله-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8].
فلو زرنا المقابر ووقفنا على القبور وتفكرنا في أحوال أهل القبور لرقت قلوبنا! ولو زرنا المستشفيات ورأينا أحوال المرضى وما يقاسونه من الأوجاع والآلام لذابت وحشة صدورنا! ولو نظرنا إلى الفقراء والأيتام والبؤساء وما هم فيه من الحاجة والمجاعة لتغيرت نفوسنا! يقول أبُو هُرَيرَةَ: شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: "إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِم الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ" رواه أحمد وحسنه الألبانيُ.
ومما يذيب القلب ويذهب قسوته صحبة الصالحين الذين يذكرونك بالله، والابتعاد عن مصاحبة الأشرار والمفسدين الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ فإن القلب إذا امتلأ بدخان أنفاس بني آدم اسودَّ وأصابته أعراض أمراض القسوة والغلظة والجحود والإعراض عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].