القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
منها ما يطلب منكم الاستمرار عليه في كل لحظة وهو الشهادتان. ومنها ما يطلب منكم في اليوم والليلة خمس مرات وهو الصلوات الخمس. ومنها ما يطلب منكم كل عام وهما الزكاة والصيام. ومنها ما يطلب منكم مرة في العمر وهو العمر والحج.
الحمد لله رب العالمين. شرع لعباده من هذه الأمة أكمل الشرائع وأيسر الأديان.
وجعلها خير أمة أخرجت للناس. فهي آخر الأمم في الدنيا وأول الأمم في يوم القيامة لما يحتويه دينها الذي هو خاتم الديانات السماوية من خير للبشرية في مصادره وموارده وأحكامه وتشريعاته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون اتقوا الله واعلموا أن دين الإسلام هو النعمة الكبرى التي أسداها الله على عباده حيث يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) [المائدة: 3] هذا الإسلام العظيم مبني على أركان خمسة. إذا تأملتها وجدت كل ركن منها يشتمل على مصالح عظيمة ومنافع جمة لا تدخل تحت الحصر –وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى ما تيسر منها على ضوء ما ورد في الأدلة وشهد له الواقع الحسن –فإن من شكر النعمة التحدث بها ظاهراً –قال تعالى:(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). [الضحى: 11]
فالركن الأول وهو الشاهدتان –شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- وهذا الركن يعني الإخلاص لله تعالى في العبادة وتجريد المتابعة للنبي –صلى الله عليه وسلم-. فمن قام به حق القيام استحق السعادة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإنه يخرج من ملة الكفر إلى ملة الإسلام ويحفظ دمه وماله. قال –صلى الله عليه وسلم- "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام". وقال –صلى الله عليه وسلم-: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
واتباع الرسول –صلى الله عليه وسلم- يقيك البدع المضلة وتحصل به على محبة الله لك ومغفرته لذنوبك. فقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[آل عمران: 31] وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]، فاتباعه –صلى الله عليه وسلم- هو من معنى الشهادة له بالرسالة.
وأما الركن الثاني من أركان الإسلام وهو إقامة الصلاة –فصلاة صلة بين العبد وبين ربه يتقرب بها إليه، ويرفع فيها إليه حوائجه ويتطهر بها من ذنوبه وسيئاته، وهي تشتمل على أنواع من العبادات القولية والفعلية.
عبادات القلب والجوارح. لا تجتمع في غيرها. وهي عن على الشدائد وصعوبات الحياة. قال تعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة: 45]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]. وكان –صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، لأنه يجد فيها من طمأنينة قلبه ونعيم روحه ما ينسيه هموم الدنيا ويعينه على مواجهة مشاق الحياة ويفتح له أبواباً من الفرج.
والصلاة أيضاً تعدل سلوك الإنسان، وتوجهه نحو الخير، وتجنبه ما يستقبح من الأقوال والأفعال، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، وأعلى من ذلك أنها تشتمل على ذكر الله (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) والصلاة أيضاً تهذب النفس وتكسب الإنسان الصبر على الضراء والشكر عند الرخاء، قال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج: 19]. والصلاة أيضاً لقاء ومقابلة مع الله جل شأنه، كما صح في الحديث أن الله ينصب وجهه قِبَلَ وجه المصلي، ويستمع لمناجاته يجيبه إذا سأله. تأملوا سورة الفاتحة التي تقرؤونها في كل ركعة ماذا تشتمل عليه من الثناء على الله ودعائه.
وأما الركن الثالث من أركان الإسلام وهو إيتاء الزكاة، ففيه من المنافع ما هو واضح للعيان. فهو تطهير للنفس من الشح والبخل اللذين هما من أسوأ الأمراض النفسية. قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] وقال:(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [آل عمران: 180].
وفي إيتاء الزكاة أيضاً تنمية للمال واستنزال للبركة فيه. قال –صلى الله عليه وسلم-: "ما نقص مال من صدقة بل تزيده". وهذا المعنى يؤخذ من لفظ الزكاة فإن معناه: النماء والزيادة. وفي إيتاء الزكاة إحسان إلى الفقراء والمساكين وإنعاش للمرافق الخيرية من إعانة المجاهدين في سبيل الله وفك الرقاب وإعانة الغارمين وإسعاف ابن السبيل المنقطع. قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103] وقال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الروم: 38] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج: 25]، ففي هذه الآيات الكريمة وما شابهها إشارة إلى أن الزكاة يحصل بها استفادة للدافع والآخذ وبالتالي فيها بناء للمجتمع الإسلامي.
والركن الرابع من أركان الإسلام وهو الصيام وفيه منافع وفوائد عظيمة. منها تقديم طاعة الله على طاعة النفس والهوى. إذ الصائم يمتثل أمر ربه بترك شهوات نفسه حيث ترك أعز شيء تطلبه نفسه وهو الطعام والشراب والتمتع بزوجته لما علم أن في ذلك رضى ربه. والصائم أيضاً يتربى بالصيام على الصبر والجلد والتحمل إذ يصبر على مس الجوع ولفح العطش. ولهذا سمي شهر رمضان شهر الصبر. ولا شك أن مقام الصبر مقام عظيم في الإسلام قد جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تنوه بشأنه وتنثني على أهله. وهو يحصل بالصيام.
وفي الصيام أيضاً تهذيب للنفس وكف للإنسان عن أذى الآخرين بقول أو فعل فإن الصائم منهي عن أن يتناول الآخرين بما يسيء إليهم من غيبة أو نميمة أو شتم، حتى ولو تطاول عليه أحد بالكلام فإنه لا ينبغي له أن يرد عليه بالمثل، ففي الحديث: "فإن سابَّه أحد فليقل: إني صائم".
وفي الصيام أيضاً تذكير بنعمة الله على الصائم بما يسر له من الطعام والشراب حيث يدرك مشقة الابتعاد عن تناولهما عند الحاجة إليهما وشدة حاجته إليهما لبقاء حياته. وفي الصيام أيضاً تذكير للصائم بحاجة الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يأكلون عند الحاجة فيعطف عليهم. كما أن في الصيام أيضاً كبحاً لجماح النفس سداً لمنافذ الشيطان في الإنسان فإن الشبع وتمكين النفس من شهواتها مما يدعو إلى الأشر والبطر. قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6]، وفي الصيام أسرار عجيبة وخيرات كثيرة يمكننا أن نستنبطها من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] فهو سبب للتقوى التي علق الله عليها كل خير ووصف أهلها بكل بر.
والركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج، وفيه من المنافع العاجلة والآجلة ما لا يدخل تحت حصر، وقد ورد حديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- يبين فضله، فقد روى الطبراني في الكبير والبزار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت جالساً مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في مسجد منىً، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك. فقال: "إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت. وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت" .
فقالا. أخبرنا يا رسول الله. فقال الثقفي للأنصاري: سل. فقال: أخبرني يا رسول الله فقال: "جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما. وعن طوافك بين الصفا والمروة ومالك فيه. وعن وقوفك عشية عرفة. ومالك فيه. وعن رميك الجمار ومالك فيه. وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة". فقال: والذي بعثك بالحق لَعَنْ هذا جئت أسألك. قال: "فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتُك خفاً ولا ترفعه إلا كتب لك بها حسنة ومحا عنك خطيئة. وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل. وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة. وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها. أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له. وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات. وأما نحرك فمدخور لك عند ربك. وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة وتمحي عنك خطيئة. وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك. يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما يستقبل فقد غفر لك ما مضى. قال البزار: روى هذا الحديث من وجوه ولا نعلم له أحسن من هذه الطريق. وقال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب: وهي طريق لا بأس بها. رواتها كلهم موثقون. ورواه ابن حبان في صحيحه.
عباد الله: هذا دين الإسلام ينبني على هذه الأركان العظيمة التي سمعتم بعض فوائدها ومنها ما يطلب منكم الاستمرار عليه في كل لحظة وهو الشهادتان. ومنها ما يطلب منكم في اليوم والليلة خمس مرات وهو الصلوات الخمس. ومنها ما يطلب منكم كل عام وهما الزكاة والصيام. ومنها ما يطلب منكم مرة في العمر وهو العمر والحج. وما زاد فهو تطوع. فاحمدوا الله إذ هداكم للإسلام وأسألوه الثبات عليه إلى الممات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). [آل عمران: 102].