العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
نصر الله لا يتحقق بكثرة العدد والمال والسلاح، وإن كان الإسلام لا يلغي اتخاذ هذه الأسباب المادية، بل يحث عليها قدر المستطاع، ولكنه ينهى عن تعلق القلب بها وجعلها سبب النصر؛ لأن نصر الله يتحقق بما هو أهم منها، يتحقق بنصره هو، أي بنصر دينه، بعبادته، وطاعاته، والذبّ عن حدود ومحارمه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
تكلمنا فيما مضى عن معركة مَرْج الصُّفَّر المجيدة التي انتصر فيها المسلمون على التتار بعد صبر وطول انتظار، ولم تقم للتتار بعدها قائمة حتى قال شمس الدين الطيبي في تلك المعركة الحاسمة:
بَرْقُ الصَّوَارِمِ لِلأَبْصَارِ يَخْتَطِفُ | وَالنَّقْعُ يَحْكِي سَحَابًا بِالدِّمَا يَكِفُ |
لاَ عَيْشَ إِلاَّ لِفِتْيَانٍ إِذَا انْتُدِبُوا | ثَارُوا وَإِنْ نَهَضُوا فِي غُمَّةٍ كَشَفُوا |
يَقِي بِهِمْ مِلَّةَ الإِسْلاَمِ نَاصِرُهَا | كَمَا يَقِي الدُّرَّةَ المَكْنُونَةَ الصَّدَفُ |
قَامُوا لِقُوَّةِ دِينِ اللَّهِ مَا وَهَنُوا | لِمَا أَصَابَهُمُ فِيهِ وَلاَ ضَعُفُوا |
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْتَصَرُوا | مِنْ بَعْدِ ظُلْمٍ وَمِمَّا سَاءَهُمْ أَنِفُوا |
ا بَرْقُ بَلِّغْ إِلَى غَازَانَ قِصَّتَهُمْ | وَصِفْ فَقِصَّتُهُمْ مِنْ فَوْقِ مَا تَصِفُ |
وَإِنْ تُسَلْ عَنْهُمْ قُلْ قَدْ تَرَكْتُهُمُ | كَالنَّخْلِ صَرْعَى فَلاَ تَمْرٌ وَلاَ سَعَفُ |
ذُوقُوا وَبَالَ تَعَدِّيكُمْ وَبَغْيِكُمُ | فِي أَمْرِكُمْ وَلِكَأْسِ الخِزْيِ فَارْتَشِفُوا |
فَالحَمْدُ لِلَّهِ مُعْطِي النَّصْرِ نَاصِرَهُ | وَكَاشِفِ الضُّرِّ حَيْثُ الحَالُ يَنْكَشِفُ |
معاشر الإخوة: نريد اليوم أن نتكلم حول ظلال تلك المعركة وما بعدها، إن الأحداث الجسيمة تمحّص الصفوف، وتخرج معادن الرجال سواء كانوا من عامة الناس أو كانوا رجال سياسة أو رجال حرب أو علماء.
فالمواقف الشجاعة يعرفها الناس، والمواقف المخزية يعرفونها أيضًا، المخذولون اليائسون في تلك المعركة الذين أوشكوا أن يحلوا بالأمة الهزيمة شؤمًا عليها ووجهًا كئيبًا لا يحمد..
أما الوجه المشرق فهو وجه المتفائلين من أمثال شيخ الإسلام الواثقين بالله تعالى الذين يستحضرون قوله جل وعلا: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة: 52]، النتيجة للمؤمنين عند المتفائلين منهم إيجابية مهما كانت، نصرًا أخرويًّا بالالتحاق بركب الشهداء وعداء خصومهم من أعداء الله في القبر قبل نار جهنم، أو نصرًا دنيويًّا بهزيمة الأعداء في الدنيا قبل عذابه في الآخرة، النتيجة للمؤمنين حسنيان لا ثالث لهما.
أيها الإخوة: هناك واقعان يتعامل معهم المؤمن، واقع مادي وطني، وواقع إيماني.. كان الواقع المادي الميداني في معركة شقحب لا يملك من مقومات النصر ما يطمئن النفوس، فأعداد التتار أكبر وعُددهم أكثر والمسلمين أقل منهم.. لكن إذا أُضيف إلى الواقع المادي الواقع الإيماني رجحت كفة المسلمين، وهذا ما اغتنمه شيخ الإسلام وليس له إلا هو، فحرك به الجأش وأيقظ به العزائم فلم يكن يتكلم قبل المعركة وخلالها حول أعداد المسلمين ولا حول سلاحهم ولا مهارتهم القتالية، وإنما كان يدور بنفسه حول قيادات الجيش وأفراده يذكّرهم بالآيات والأحاديث المبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين.
وهو في ذلك لم يكن متبعًا .. بل كان متبعًا لهدي القرآن ولعلي أسرد في هذا الأمر قليلاً لأهميته فالقرآن حين يذكر معارك المؤمنين مع أعدائهم لا يكاد يتطرق إلى الماديات إلا قليلا جدًّا، كقوله تعالى في صلاة الخوف (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ...) [النساء: 102]، وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ...) [الأنفال: 60].
حديث القرآن حول الأسباب المادية الميدانية كالسلاح والخيل والعدد قليل، ولا غرابة فإن القرآن لا يربط النصر بالماديات أبداً بل على العكس.. وهو جلي في قوله تعالى في الرمي: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) [الأنفال: 17] وفي قوله أيضا (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25]، وفي قوله كذلك جل وعلا: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].
القرآن لا يربط النصر بالماديات أبدًا.. بل على العكس القرآن عند حديثه عن المعارك مليء بآيات التأكيد على صدق التوكل وعلى الصبر واليقين بالله، على تقواه، ونصرة دينه.. فهذه المعاني من مشاعر قلبية إيمانية من أقوى ما يؤثر في مجريات المعركة؛ لأن النصر في نهاية المطاف بيد من؟ بيد الله تعالى، ولذلك كان التوسل إليه بطاعته أقوى من كل سبب، كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [آل عمران: 160].
بل إن سورة واحدة كسورة الصف تبين أن النصر الميداني إنما يتحقق بنصر دين الله أولاً قبل الإعداد العسكري. لقد ابتدأت السورة بالتسبيح (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحديد: 1] فالتأكيد على الصدق مع الله جاء جليًّا (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2] هذا أولاً قبل القتال، ثم بمحبة الله للصف عند القتال كالبنيان المرصوص، ثم استعرض نبأ موسى وعيسى، ومغبة خذلان دين الله وأنه مهما مكر المجرمين فإن نور الله لا ينقطع..
ثم جاء النداء الإيماني نحو التجارة الرابحة، إيمان كجهاد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الصف: 10- 11]، هذا أولاً (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف: 11- 13].
فالجائزة اثنتان عظمى في الآخرة وصغرى في الدنيا (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف: 13] ثم عاود النصر القرآني الحث على نصرة دين الله (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) [الصف: 14] ثم ختمت السورة ببشرى النصر بعد ذلك (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14] سورة الصف تبين ذلك جليًّا.
فنصر الله لا يتحقق بكثرة العدد والمال والسلاح، وإن كان الإسلام لا يلغي اتخاذ هذه الأسباب المادية، بل يحث عليها قدر المستطاع، ولكنه ينهى عن تعلق القلب بها وجعلها سبب النصر، لأن نصر الله يتحقق بما هو أهم منها، يتحقق بنصره هو أي بنصر دينه، بعبادته وطاعاته والذبّ عن حدود ومحارمه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
هذا ما أخبر به القرآن في قوله تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40] من هذا الذي ننصرهم (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41] هو الذي يملك العاقبة الحسنة، وقوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..) [النور: 55].
لم يقل يتخذوا السلاح ويعدوا العدة وغير ذلك... قال (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
هذه الأسباب العبادية السلوكية والأسباب الإيمانية القلبية هي التي تفصل في نتيجة المعركة، ولذلك بين الله تعالى هذه السنة في أكثر من موضع، كقوله تعالى (قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13].
كون الفئة الكافرة ضعف المؤمنة عددًا لا يؤخر نصر الله، فالله (يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13] في الآية دلالة واضحة على ترك قلب المؤمن عن التوكل على الأرقام والماديات بمعزل عن قدرة الله تعالى ونصره لعباده المؤمنين..
أما الزمان زمان النصر فإن الله تعالى يصرف شئون الكون بعلم وحكمة، وهو الذي يقدّر موعد النصر حتى لو طال أمده، يقدره في وقته الصحيح الذين يحقق المصلحة، لا يتأخر ساعة ولا يتقدم ساعة وإنما الحكم على تأخر النصر يكون من البشر..
حصل هذا مع خير رجال الأمة التحامًا لهم وتمحيصًا لقلوبهم، وحصل ما أراد الله تعالى من ذلك التمحيص، فإنه لما مرت أعوام من العذاب والاضطهاد على المؤمنين المستضعفين في مكة استبطأ بعدهم نصر الله وفرجه حتى متى ؟
ففي صحيح البخاري عن خباب رضي الله عنه قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: وفي رواية فجلس محمرًّا وجهه، فقال: «قد كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
بل إن الله قادر على إهلاك أعدائه عاجلا دون قتال، ولكنه يريد ابتلاء عباده المؤمنين ، يريد تحقيق نصره بأيديهم كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4- 6].
إذاً هناك توقيت للنصر يقدره الله تعالى، قد يتأخر في منظور البشر نعم ولكن أوانه في علم الله وحكمته محسوم في وقته المعلوم لا يتأخر ولا يتقدم وفيه كل مصلحة، يجب أن ندرك هذا جيدًا، ندركه ونؤمن به حتى لو غلبت علينا عواطفنا ومشاعرنا واستحوذ علينا ضعفنا البشري وقلنا متى نصر الله؟
يجب أن يكون هذا المعتقد المتأصل في قلوبنا، وهذا التأخير الذي يتبادل للبشر يكون لأكثر من سبب، فهو في الآية السابقة لغرض الابتلاء (لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد: 4] وقد يكون السبب الثاني معصية، وقد يكون السبب ضعف اليقين وقد يكون تأخير النصر بسبب اختلاف المسلمين وتنازعهم.. وغيرها من الأسباب التي ذكرها القرآن. فلا بد من التمحيص وبناء اليقين بالله في النفوس..
معاشر الإخوة: هناك معارك يختارها الله لابد من الوصول فيها إلى آخر رمق إيماني يحدد مدى ربط المؤمن النصر بربه ويقينه بذلك، حتى يلتئم قلبه على تعظيم الله، والتوكل عليه وحده فيكون أدعى لاستقامته في الرخاء بعد انتهاء المعركة.. وما مصداق قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة: 214] آخر رمق إيماني متى نصر الله؟ إنهم متيقنون بنصر الله، متى نصر الله ؟ سيأتي ينتظرونه بشوق كبير ويتطلعون لمقدمه، وهم موقنون بذلك ولكنهم استبطئوه، قال الله تعالى (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
إن مثل هذه المعارك الشرسة وما قد يصاحبها من آلام وعذاب وضراء تستدعي رجوعًا حقيقيًا إلى الله، وهل من فرار من الله إلا إليه؟ وهل من ملجأ منه إلا إليه؟ فهو مالك الملك سبحانه وتعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26]، ولهذا كان مطلع الحديث اليوم يؤكد على الأثر الإيماني قبل الأثر الحسي في حسم الصراع إذا كان المؤمنون طرفًا فيه.
وقد أظهر القرآن أخذ المؤمنين بهذا الأثر من قديم الزمان، فإنهم كانوا يبدؤون بالتذلل لله تعالى وسؤاله الصفح والعفو والمغفرة قبل سؤاله النصر؛ لأن التوبة هي مفتاح النصر (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286]، سؤالهم إياه النصر (أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، إنما جاء بعد دعاء الصفح والمغفرة وهو نهج الربانيين الذي اكتسبوا هذا المنهج وتربوا عليه إثر صحبتهم للأنبياء، كما يكون في القلب من تعظيم الله وتوبة إليه وتوكل عليه وإظهار ذلك باللسان هو الذي يستجلب النصر بإذن الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 146- 147] بدءوا بسؤال المغفرة والاعتراف بالذنب ثم بسؤال التثبيت والنصر..
أسأل الله أن يعفو عنا وأن ينصر إخواننا المسلمين إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من سار على نهجه واستني بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا في ظلال معركة شقحب، إن العلماء إذا صلحت قلوبهم فإنهم لا يبحثون عن متاع الدنيا، لأن الآخرة تشغلهم عن ذلك.. أما إذا ضعفت القلوب وتسللت إليها الأمراض والأهواء فلن يكون علم الإنسان حينها إلا خزيا له في الدنيا ووبالا عليه في الآخرة.
بعد معركة شقحب واشتهار دور ابن تيمية في تحقيق النصر وإعجاب الناس به وثنائهم عليه اشتعل الحسد في قلوب شانئيه فأخذوا يغيرون صدر الناصر قلاوون عليه ويدّعون أن للشيخ أطماعًا مريبة في الملك، فأحضره الملك إليه وقال من جملة كلامه: "إنني أُخبرِتُ أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك؟"
فرد عليه الشيخ بصوت قوي وهادئ سمعه كثيرًا من الحاضرين: "أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك لا يساوي عندي فلسًا واحدًا".
فتبسم السلطان للهجة، لهجة الصدق التي أحس بها في كلامه وقال: "إنك والله لصادق وإن الذي وشى بك إليّ لكاذب".
ازدادت هيبة الشيخ ومحبته في قلب الملك لتيقنه في زهده في الملك مع قدرته عليه، فهكذا فليكن العلماء لا يتنازلون عن دينهم وعن مبادئهم من أجل لعاعة الدنيا فيركن إلى الذين ظلموا ويا له من خزي وعار.
نسأل الله العافية والسلامة.
اللهم انصر عبادك المسلمين في سوريا..