الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
ينبغي أن تَحذر المعاصي ما ظهر منها وما بطن قدر طاقتك، فهي لا تزال بصاحبها حتى توردَه المهالك؛ ومع ذلك، فينبغي ألَّا تيأس مِن رَوْحِ الله ورحمته، وألا يصيبك الإحباط والقنوط، مهما بلغت ذنوبك، شريطة أن تُقْبِلَ على الله، وأن تقِفَ ببابه معترفاً مستغفراً ..
أما بعد:
إخوة الإسلام: فبشراكم شهر الصيام، وهنيئاً لكم إدراك شهر القرآن، نزفُّ البشرى للمستبشرين، ونذكّر أصحاب الهمم العالية بموسم من مواسم الخيرات للناس أجمعين، اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير وبركة، ربنا وربك الله.
أيها المسلمون: أنتم تشتركون مع الشمس والقمر، والجبال والشجر، والأنعام والليل والنهار ومَن في السماوات والأرض كلهم، تشتركون مع هؤلاء وأولئك بالعبودية لله رب العالمين، أمَر القمر بالإهلال فأهلَّ، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:38-40]، وأمرتم أنتم بالصيام والقيام في هذا الشهر الكريم، فحققوا العبودية والطاعة لرب العالمين.
أمة الإسلام: هذا هو الشهر الذي طالما انتظره المؤمنون، وهذا هو الضيف الذي طالما حل خفيفاً ثم ارتحل وأعين المؤمنين تذرف الدمع حزناً لوداعه، ولوعة لفراقه، فهل يسمع النداء من لا يزال قلبه لاهياً منغلقاً؟ وهل يصدق التوبة من ظل طول العام في المعاصي والغفلة، وستر الله يظله، وعين الله تبصره؟ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42].
أيها المؤمنون: استقبلوا هذا الشهر بالفرح والبشرى والعزيمة الصادقة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم؛ ولْيكن هذا العام خيراً من أعوام خلت، فلعل بعضكم يدركه هذا العام ويكون في العام القابل في عداد الموتى.
كم هي نعمة أن يدرك المرء شهر الصيام وهو موفور الصحة، قوي البنية، آمناً في سربه، عنده قوت يومه وليلته، فضلاً أن يكون عنده ما يقتاته لبضع شهور، بل لبضع سنين، إنها نعمة ومغنم، ولكن لا يعقلها إلا العالمون، ولا يقدرها حق قدرها إلا الموقنون، ولا يحس بقيمتها إلا المجربون!.
تصور -يا أخا الإسلام- إخواناً لك طالما شغلوا بمعاشهم وما يسد رمقهم، أو أشغلتهم الحروب المدمرة عن عبادة ربهم، أو أخل بطمأنينة العبادة لديهم انعدام الأمن في أرضهم وديارهم، ماذا لو كنت بجوارهم وحل بكم شهر الصيام؟ لا شك أنك ستتألم وتتمنى لو كنت من المصائب واللأواء سالماً، وأنك قمت لله قانتاً، وصمت يومك لله خاشعاً شاكراً، فاعقل ما أنت فيه من نعمة، وتذكر ما أنت فيه من عافية، واسأل ربك دائماً العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، وكن لربك من الشاكرين، ولفرص الخير من المبادرين.
وإياك إياك أن تحصد الشوك والشرور، وذلك ما اقترفت يداك وما ربك بظلام للعبيد، في وقت يحصد فيه غيرك ما لذ وطاب من الثمار! وتلك -وربي!- هي الخسارة التي لا تعوض بثمن، ولا رجعة فيها ولا ينفع الندم.
إخوة الإسلام: فطالما صدأت القلوب بوابل المعاصي، فطهروها بالقرآن، وطالما تعفنت البطون بكثرة المطاعم والمشارب فأصلحوها بالصيام، وطالما غفلنا وفرطنا فلنعد إلى الله في شهر رمضان، فأبواب السماء تفتح، ومردة الشياطين تصفد، يزين الله في هذا الشهر جنته، وتنادي الحور أن هلموا، والثمن كثرة السجود، ومداومة الذكر، ومراقبة المولى -جل جلاله-، والاستغفار حين طلوع الشمس وحين غروبها في الأسحار.
وما أعز التوبة وأغلاها في كل زمان! ولكن المرء يعان عليها في شهر الصيام، وشهر رمضان شهر التوبة والإنابة إلى الملك العلام، وإذا هممت بالتوبة يا أخا الإسلام فلتكن توبة نصوحاً، تلك التي قال عنها الجليل في محكم التنزيل وهو ينادي المؤمنين أجمع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
أتدري -أيها التائب- ما التوبة النصوح؟ وما شروطها؟ وما علامتها؟ لقد ذكر العلماء عدة أقوال في التوبة النصوح أوصلها القرطبي -يرحمه الله- إلى ثلاثة وعشرين قولاً، أذكر لك بعضاً منها، فروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهم-: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبداً؛ لأن من صحت توبته صار محبًّا لله، ومن أحب الله نسى ما دون الله. وقال القرطبي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العَوْد بالجَنان، ومهاجرة سيء الخلان. وعن أنس -رضي الله عنه- (ذي الأذنين) هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح.
أما شروط التوبة النصوح، فقد قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: لا تقبل التوبة ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوفُ ألا تُقبَل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
وهل من شروط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات؟ تساءل ابن كثير –يرحمه الله- هذا التساؤل؛ فقال: وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات كما تقدم في الحديث وفي الأثر: "لا يعود منه أبداً"، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي، بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضاراً في تكفير ما تقدم، لعموم قوله -عليه السلام-: "التوبة تجب ما قبلها"؟.
ثم قال: وللأول -معنى عدم العودة إلى الذنب أبداً- أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً "مَن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" متفق عليه، فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى، والله أعلم. اهـ. وعلى كل حال فمما ينبغي أن يعلم أن الندم توبة كما ورد ذلك عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا لم يكن بمقدور الإنسان الخلاص من المعاصي، وكل ابن آدم خطاء؛ فعليه أن يلازم التوبة وألا ييأس من المغفرة، حتى ولو كثر ذنبه، ولو تكررت أخطاؤه، ولو أعاد التوبة مرة ومرة.
أخي المسلم: ينبغي أن تحذر المعاصي ما ظهر منها وما بطن قدر طاقتك، فهي لا تزال بصاحبها حتى تورده المهالك؛ ومع ذلك، فينبغي ألا تيأس مِن رَوْحِ الله ورحمته، وألا يصيبك الإحباط والقنوط، مهما بلغت ذنوبك، شريطة أن تُقْبِلَ على الله، وأن تقِفَ ببابه معترفاً مستغفراً، وإليك قصة هذا الرجل الذي تكرر ذنبه وفي كل مرة يقف بباب الله سائلاً مستغفراً فلم يخيب الله أمله.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن ربه -تبارك وتعالى- قال: "أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى، عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباًّ يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك"، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت".
وفي رواية بمعناه وفي الثالثة قال: "قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء": قال الحافظ في الفتح، قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله، والاعتراف أنه لا غافر للذنب سواه، ثم نقل الحافظ كذلك عن النووي قوله في الحديث: إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفاً فأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. اهـ. تلك نعمة! ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوبة شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، أحمده تعالى، وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأرض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام: بقي أن تعلموا علامات التوبة النصوح، فقد قال سفيان الثوري -يرحمه الله-: علامة التوبة النصوح أربع: القلة، والعلة، والذلة، والغربة. وقال ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقال شقيق: أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله.
يا أخا الإسلام: وأينا -معاشرَ البشر- لا يخطئ، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون"، وأينا الذي ينفك عن ذنب أو عن عدد من الذنوب هو أدرى بها من غيره؟ وإذا كان الأمر كذلك فإنني أدعو نفسي وأدعوكم -معاشر المسلمين- لتجديد التوبة مع الله في هذا الشهر الكريم، فهو فرصة للتوبة الصادقة النصوح، وهو معين على فعل الطاعات المكفرة لما سلف من الذنوب.
وأرشد نفسي وإياك إلى وسيلة من وسائل التوبة والاستغفار، علماً بأن التوبة لا تنحصر في أسلوب واحد معين، فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله -عز وجل- إلا غفر له" حديث حسن، أخرجه أحمد وأهل السنن. وقال الحافظ ابن كثير معلقاً عليه: ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة.
ولا شك -أخا الإسلام- أن للوضوء والصلاة أثراً في تكفير الخطايا والسيئات، وإليك الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه مطولاً في قصة إسلام عمرو بن عبسة السلمي -رضي الله عنه- وقد جاء في فضل الوضوء أن عمراً قال: يا نبي الله، فالوضوء حدثني عنه. قال: "ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرجت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرجت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرجت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه".
فهل يعجز أحدنا أن يصنع ذلك كلما ارتكب خطيئة؛ بل ولو لم يكن له خطيئة عسى الله أن يرحمه ويغفر له.
وثمة دعاء واستغفار يحسن التذكير به بشكل عام وحال الخطيئة وعند التوبة بشكل خاص، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف" قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان: ليس يخفى أن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، فتزودوا من الصالحات في شهر تضاعف فيه الحسنات، فهو سبيل لتكفير سيئاتكم، وأكثروا من الصلوات وتلاوة القرآن، والذكر، والصدقات، وصلة الأرحام، وغيرها من القربات، واحفظوا جوارحكم عن الحرام، فليس الصيام إمساكاً عن المطعم والمشرب والمنكح، كلا، وليس لله حاجة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه دون جدوى، بل المقصود تزكية الجوارح، وحفظها، وتزكية النفوس، وجلب النفع لها.