الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
والمتأمل اليوم في واقع المسلمين، يرى ضعفاً وفُرقة، وذلةً ومسكنةً، وفتناً ومصائب يتلو بعضُها بعضاً، وكلما تجرَّع المسلمون كؤوس بليةٍ، انبعثت لهم أخرى، وهكذا، وفي مقابل ذلك كلما أوشكت لهم راية أن ترتفع، وإذا بالسهام تُسدد نحوها، ضربٌ، وتطويقٌ، وسلبٌ للثمار، وخطفٌ للنتائج ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وإخوانه من الأنبياء، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أوصيكم ونفسي -معاشر المسلمين- بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، وبها أمر الله: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16]، وفيها المخرجُ من الشدائد، والرزق من حيثُ لا يحتسبُ المرزوق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
أيها المسلمون: في زمن الشدائد والمحن يُصاب بعضُ الناس باليأس والقنوط، وحين تتوالى ضرباتُ الأعداءِ على المسلمين وتكثر الخطوبُ المفزعةُ يُصاب بعضُ المسلمين بالإحباط والضعف، ولله في خلقه شؤون، والأيامُ يداولها بين الناس، وكما يُبتلَى الناسُ بالسراء يبتليهم اللهُ كذلك بالضراء؛ ليستخرج عبوديتَهم في الحالتين، ويعلم -وهو العليم الخبيرُ- كيف يشكرون وكيف يصبرون.
والمتأمل اليوم في واقع المسلمين، يرى ضعفاً وفُرقة، وذلةً ومسكنةً، وفتناً ومصائب يتلو بعضُها بعضاً، وكلما تجرَّع المسلمون كؤوس بليةٍ، انبعثت لهم أخرى، وهكذا، وفي مقابل ذلك كلما أوشكت لهم راية أن ترتفع، وإذا بالسهام تُسدد نحوها، ضربٌ، وتطويقٌ، وسلبٌ للثمار، وخطفٌ للنتائج دون المسلمين.
هذا فضلاً عن غزو الأفكار، وحرب القيم عبر الفضائيات والقنوات، وفضلاً عن المشروع الأكبر في حصار العالم، وفي طليعتهم المسلمين، في عقائدهم واقتصادهم وقيمهم، عبر مشاريع العولمة والنظام العالمي الجديد.
عباد الله: وهذه المؤثراتُ كلُّها، وما ينضافُ إليها من مِحَن وإحَنٍ وانحراف عن صراط الله المستقيم بين المسلمين أنفسهم، وشيوعٍ للنفاق، وكثرة المنافقين، وما يستتبعُ ذلك من محاولاتٍ للفساد والإفساد؛ هذه وتلك تشكّلُ ضغطاً على النفوس، وتضيق لها الصدور، وربما سببت اليأس والقنوط أو الضعف والإحباط عند بعض المسلمين.
وهنا ترد الأسئلة التالية: ما مظاهرُ الإحباط والضعف؟ وكيف كان هديُ المرسلين -عليهم السلام- في ظل هذه الظروف زمن الشدائد والكروب؟ ما هي أخطاؤنا في ظل هذه الظروف؟ وما المطلوبُ مِنّا حتى نخرج من هذه الأزمات؟ هل من نماذج تقوي عزائمنا في ظروف المحن والكروب؟ ما دور العلماء والدعاة؟ وما أثر المرجفين والمثبطين؟ ما هي الدروسُ والحكمُ في زمن الشدائد؟ وكيف تُستخرج عبودية الضراء لله رب العالمين؟ إلى غير ذلك من أسئلة قد تثور، وما أحوجنا إلى معرفتها والإجابة عنها!.
يا أخا الإسلام: حديثي إليك عن: التفاؤل في زمن الشدائد، ولكن الحديث عن هذا لا ينفك عن تقدمةٍ تشخِّص الداء وترشد للدواء.
أيها المسلمون: أما مظاهرُ الإحباط فمنها ضعفٌ في السلوكيات، وتراجعٌ في القيم، تبرز عند بعض المسلمين والمسلمات، وربما وصل الأمر إلى اهتزازٍ في القناعات والمسلَّمات، يقلُّ هذا الأثرُ أو يكثر على حسبِ قوةِ التأثرِ بالموجات الغازِيَة، وعلى حسب قوة اليقين أو ضعفه بما وعد اللهُ المتقين والفجار.
ومن مظاهر الإحباط كذلك الانهزاميةُ والشعورُ بالنقص، وربما تطور الأمرُ إلى الإعجابِ والفتنةِ بالكفار والموالاة لهم.
ومن مظاهر الإحباط القعودُ على العمل المثمر، والضعفُ في الدعوة إلى الله، والشعورُ الخاطئ بأن منافذ الإسلام أُغلقت، وفرص الدعوةِ قد حُجّمت، وأخطرُ من ذلك أن تُمارس الدعوةُ بمناهجَ منحرفةٍ، وأساليب خاطئة، بها تُشوَّه صورةُ الإسلام، ويُحطَّم سياجُ الحلالِ والحرام! وتُخلِّف هذه الوسائلُ الخاطئةُ آثاراً سلبيةً على الدعوة والدعاة.
عباد الله: أمَّا رسولُ الهدى والمرسلين من قبله -عليهم جميعاً أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم- وأتباعُهم من المؤمنين –عليهم رضوان الله- فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا ولا يئسوا ولا قنطوا من رحمة الله؛ بل كان الفألُ شعارهم، والوعدُ بنصر الله حديثَهم، يتخطون بذلك ظروف الزمن الحاضرة، وينظرون بنورِ الله إلى نصرهِ في الأيام المستقبلة.
أجل، أيُّ وضع كان يعيشه بنو إسرائيل في زمن فرعون! ومع ذلك قال لهم موسى واعداً ومبشراً: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، وحين اعترضوا عليه بالأذى الذي لحقهم، وكأنهم استبعدوا تَغيُّر حالهم، قال لهم نبيهم: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].
وتحقق وعدُ الله، وانتصر المُستضعَفون، وأهلك اللهُ الظالمين: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137].
وتأمل في قصةِ العنتِ والأذى، ورحلةِ الإضعافِ والاستذلال، ثم ما أعقبها من نصر وتمكين، يُخبر عنها الرحمن الرحيم، ويسوقها القرآنُ في بضع آياتٍ تسلية لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وللمؤمنين من بعدهم، ويقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:4-6].
وحين بُعث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأشرق نور الإسلام في مكة، لم يكن طريقُه محفوفاً بالورود والرياحين، ولم تُسلمِ العربُ لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وهم أقرب الناس إليه؛ بل آذوه واتهموه، وأخرجوه وحاربوه، وعاش والمؤمنون الأوائلُ معه في مكة فترةً عصيبةً، واستشهد بعضهم تحت وطأةِ التعذيب، وفرَّ بعضُهم بدينه تاركاً أهله ووطنه وأمواله، وبقيت آثارُ التعذيب في أجسادِ بعضِهم تحكي ظروف المحنة، وتُعتبرُ أصدق لسانٍ يُعبر عنها: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8].
ويكفي من ذلك أن تعلم ما رواه ابن سعدٍ في (طبقاته)، وابن ماجه في (سننه): أن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- جاء يوماً إلى عمرَ -رضي الله عنه- فأدناه من مجلسه وهو يقول: "لا أحدَ أحقَّ بهذا المجلس منك إلا عمار"، فجعل خبابٌ يُري عمرَ آثاراً بظهره مما عذّبه المشركون.
أما بلال بنُ رباح -رضي الله عنه- فأخبارُه في البلاء والصبر أشهرُ من أن تذكر، ويكفي أن أبا بكر -رضي الله عنه- حين جاء ليشتريه وجده مدفوناً بالحجارة، كما رواه ابن أبي شيبة وغيره بإسناد صحيح.
ومع هذه الشدائد والمحن التي مرت بالمسلمين كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- واثقاً بنصر ربِّه، متفائلاً بنصرة دينه والمسلمين، حتى وإن لم يملك للمسلمين حينها حلاً عاجلاً لِمَا هُمْ فيه من بلاءٍ ومحن، ودونك حديث البخاري فتأمله واعقل ما فيه من شدةٍ، وما يحمله من بشرى وتفاؤل ونهي عن الاستعجال في النتائج.
يقول خبابٌ -رضي الله عنه-: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: "كان الرجلُ فيمن قبلَكُم يُحفر له في الأرض فيجعلُ فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشقُّ باثنتين وما يصدُّه ذلك عن دينهِ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمهِ من عظمٍ أو عصب، وما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا اللهَ، أو الذئبَ على غنمهِ، ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، يُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ من يشاء، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحُكمِه وهو سريعُ المحال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو القوي العزيز، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإسلام: وحين نستقرئ نصوص السيرة النبوية نجد محمداً -صلى الله عليه وسلم- متفائلاً بكل حال، واعداً أصحابه بالنصرِ والغلبة على الأعداء، حتى وإن لم تَلُحْ في الأفق بوادرُ نصر حينها؛ لكنَّهُ نورُ الله، والثقةُ بنصره، يراها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خلفَ السدودِ والسنين، وهي جزءٌ من إطْلاعِهِ على غيب الله، وما نزل عليه في كتاب الله.
ألا تراهُ يُخبر -صلى الله عليه وسلم- عن هزيمة مرتقبةٍ لقريش في بدر وهو بَعْدُ في مكة؟ وينزل عليه في أَحد السور المكية: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:44-45]. قال الطبري -رحمه الله-: "والمرادُ هنا هزيمةُ جمعِ قريش، وقد أنجز اللهُ ذلك الوعدَ، فهُزم المشركون في بدر". ويعلق ابن تيمية على ذلك بقوله: "وهذا مما أنبأه اللهُ من الغيب في حال ضعفِ الإسلام واستبعاد عامةِ الناس ذلك، فكان كما أخبر".
ثم لا ينفك هذا الشُعور المتفائل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وأهلُ مكة يخرجونه وأهلُ الطائفِ يؤذونه، وفي (طبقات ابن سعد) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عاد من الطائف أقام بنخلةَ أياماً، فقال له زيدُ بنُ حارثة -رضي الله عنه-: كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: "يا زيد، إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله مظهرُ دينه وناصرُ نبيِّه...".
ويستمر هذا الشعورُ الواثقُ بنصر اللهِ ومعيَّته، وأقدامُ المشركين تطأ فم الغار الذي يختبئ فيه وصاحبُه، وحين قال أبو بكر: يا نبي الله! والله لو أن أحدهم أبصر موطن قدمه لرآنا، أجابه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بكل ثقة: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما؟!" وصدق الله: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
وفي طريق الهجرة وقريشٌ تلاحق محمداً -صلى الله عليه وسلم- وتضع الجوائز لمن يجيء به، يُدرك سراقةُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول أبو بكر: قد لحقنا يا رسول الله! فيقول لأبي بكر -مرةً أخرى-: "(لا تحزن إن الله معنا)" رواه البخاري.
فإن قلتَ -يا أخا الإسلام-: ذاك رسولُ الله المؤيدُ بوحيه والمُطلع على غيبه! قيل لك: ذاك حقٌّ؛ ولكنا مكلفون بالاقتداءِ به: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
وحفظُ اللهِ ومعيتُه، والثقة بنصرهِ، وتمامُ التوكل عليه، ليست خاصة بالمرسلين: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64].
عباد الله: تلك وأمثالها من النصوص والمواقف نعلمها جميعاً، ويكاد يكون إيمانُنا بها متساوياً في حال الرخاء؛ لكن التفاوت حاصلٌ في حال الكروب والضراء، فمِن الناس مَن لا تزيده المحنُ والنوازل إلا قوة في معتقده وتماسكاً في أخلاقه وثباتاً على الحق، ودعوةً للخلق.
ومن الناس من يهلع ويجزع، ويخور ويضعف، ينحرف في سلوكياته، وتهتز قناعاته، وتحيط به الظنون السيئة بربه ودينه؛ بل ربما تشكك في الوعد الحقِّ الواردِ في كتاب ربِّه لنصرِ المؤمنين وكون العاقبةِ للمتقين، أو ربما ظن أن هذه الوعودَ للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا، أو توهم أن النصوص الواردة لأمم سلفت، أما من بلغ بهم الفسادُ مبلغه، وبلغ بهم من الفرقةِ والضعف ما بلغ، فصعبٌ أن ينتصروا، ومستحيلٌ أن يجتمعوا في ظنه. وتلك واحدةٌ من أخطائنا في حال الشدائد والضراء.
أما الأخرى من أخطائنا -في ظل تلك الظروف- هي أننا ربما أحسَنَّا الظنَّ بأنفسنا أكثرَ مما ينبغي، ولربما أسأنا الأدب مع ربنا.
ولربما تساءل بعضنا: ولماذا لا ننتصر ونحن المسلمون؟ ولماذا تكون الغلبةُ لغيرنا وهم الكافرون؟ وفي ذلك تزكيةٌ للنفس، وغفلةٌ عن الأخطاء وإصلاح العيوب، ولم يتمَّ لنا النصرُ والتغييرُ حتى نغيِّرَ ما بأنفسنا: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:22].
أما غير المسلمين فقد أخبر الله أنهم حين ينسون ما يذكرون به يفتح الله عليهم أبواب كل شيء، ولكن العاقبة وخيمة، والأخذ بغتة: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].
ومن أخطائنا -زمن الشدائد- أننا تأسرنا اللحظة الحاضرة، دون أن نتطلع إلى مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين، وهذا الشعور الخاطئ ضعفُ ثقةٍ بربِّنا، وعجزٌ عن قراءة تاريخ أسلافنا، وعدمُ إدراك لسنن الله في الكون ومداولة الأيام بين الناس؛ والمصيبة إذا قادنا هذا الشعورُ الخاطئ إلى القعود والكسل والهزيمة والاستسلام للواقع السيء دون محاولة للإصلاح والتغيير.
وحين نقول: ينبغي ألا تأسرنا اللحظة الحاضرة، نستشهد بأحداث السيرة، فليس بين أحداث الهجرة ومطاردة الرسول والمؤمنين معه وبين فُرقان بدر إلا سنتان؛ وليس بين معركة الأحزاب، التي ابتلي فيها المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وبين فتح مكة، التي انتشر فيها الإسلام وتحطمت قريش وكبرياؤها إلا ثلاث سنوات! واقرأوا التاريخ الماضي والحاضر وستجدون أن الفرق بين زمن الهزيمة والنصر قد يكون محدوداً.
ويقابل هذا الخطأ خطأٌ آخر، لا يختلف عن سابقه، بل قد تكون نتائجه أسوأ؛ وذلك حين نستعجل الخُطا، ونظن أننا نتجاوز مراحل الزمن دون عمل مدروس، ثم يحصل التهور في اتخاذ الوسائل للوصول إلى الهدف.
وإذا كان أصحاب الخطأ الأول يحبطون أنفسهم بأنفسهم، فأصحاب الخطأ الثاني يصطدمون بالواقع ثم يحطمون أنفسهم، وربما طال غيرَهم شيء من نتائج استعجالهم.
والوسطية في ذلك تقضي أن نظل نعمل لديننا متفائلين جادين، لا تأسرنا اللحظة الحاضرة، ولا نستعجل الخطا، ولا ننس سنن الله في كونه، فإنْ تحقَّق الخير على أيدينا وعَزَّ الإسلام في حياتنا فذاك نورٌ على نور، أو تحقق ذلك على أيدي أبنائنا من بعدنا فحسبنا أن لنا سهماً في هذا النصر، محفوظ أجرُه عند رَبِّنا، وحسبنا أن يتوفانا الله ونحن مستمسكون بشرعه داعون إلى دينه.
ولقد قيل لمن هو خيرٌ منا: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) [الشورى:48]، وقال من هو خيرٌ منا (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) [هود:88].