المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
وبعدما انتهت تلك الأيام، وتقرب الموفقون من الحجاج والمقيمين إلى الله بالطاعات، وحُرم أقوام فأقاموا على السيئات، فسلوا الجميع: ماذا بقي لكم اليوم؟ ألستم حين اشتد بكم العناء ومسّتكم الشدة ثم ارتحتم يسيراً ذهب النصب وانقضى التعب؟ وكذا الجنة؛ ينسى المرء بغمسة فيها كل عناء الدنيا ..
عباد الله: مرور أيامنا يقرب آجالنا، وسرعة مرّ الزمان نذير خطر عند أهل العرفان.
وهكذا -أيها الكرام- انقضى موسم من أشرف مواسم أهل الإسلام، ومرّت الأيام المعلومات ثم الأيام المعدودات، وكانت تلك الأيام محملة بالخيرات والمسرات والفضائل والبركات، ذهب الحجيج وعاشوا رحلة الحج الأكبر، وتنقلوا بين المشاعر، وتعرضوا للنفحات؛ طمعاً في رضا رب الأرض والسماوات، وبقي أقوام في الديار، وأدركوا عرفة والعيد في الأمصار، وفي الأمصار وفي المشاعر تجلت دروس وضُربت صُور لا تكفي خطب في الحديث عنها.
ففي الحج رأى الحُجاج روعة الإسلام، ونموذجاً من وحدة المسلمين، رأوا بجلاء حقيقة إسلامية لابد أن ترعى في النفوس، أنه لا فوارق بين المسلمين، لا لون ولا لغة، لا بلد ولا نسب، وأن الجميع في ذات الله إخوة، مادام الدين يجمعهم.
رأى الحجيج أن المرء بقدر ما يذل لربه بقدر ما يقرب منه، فمواطن الحج لا افتخار فيها ولا تعالي، بل الجميع سواء، وحينما تضع من نفسك وتقرب من ربك توفقْ للخير، ومن ينازع الله الكبرياء يعذبه.
رأى الحجاج أن الدنيا عابرة، وأن المرء يقدر على العيش منها باليسير، ويكفيه من الطعام والشراب والمسكن القليل، فهناك وفي تلك البقاع ترى أصحاب القصور والثراء والدنيا ربما توسد أحدهم الأرض، وأكل البلغة، وركب مراكب ربما يأنف منها في غير الحج.
رأى الحجاج عظمة الدين يوم أن رأوا طوفان البشر من كل بلد، يأتون زرافات ووحداناً لقبلة المسلمين، مجيبين نداء رب العالمين، بلاد تعرف أسماءها وأخرى ربما لم يمر عليك ذكرها، وصلها الدين، وقدم أبناءها حاجين.
عباد الله: ولن ينسى الحجاج مشهد الحجيج في عرفات، حين كانت العيونُ دامعةً، والأكفُ مرفوعةً، والقلوبُ مخبتة، الجميع عرف هناك فقره لربه وذله لعزة خالقه، ولعمري! فهو مشهد عظيم تحلُّ فيه مغفرة الله على كثير من أهل ذلك المشعر.
واطلع الحجاج على شيء من دلائل العظمة لله هناك، حين رأوا ألواناً من الناس كلٌ يدعو ربه بلغة، كل يطلب ربه حاجة، كل يناجيه بخفي الصوت، حاجات مختلفة، ولغات مختلفة، واللهُ لا تختلف عليه حاجة، ولا يشغله طلب عن طلب، بل يسمع ذلك كله، فيجيب سؤالاً، ويغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويشفي مريضاَ، ويغني فقيراً، وهو على كل شيء قدير، وذلك شيء من دلائل عظمة الله وقدرته وكرمه ورحمته.
وسيظل الحجاج يذكرون تلك المشاهد والأحوال التي تذكرهم بموقف القيامة واجتماعه، ولن ينسى الحجاج مشهد التسليم والاتباع حين انتظارِ الحجاجِ زوالَ الشمس لرمي الجمار، فترى آلافاً من الخلائق كل قد أمسك حصياته يتساءل بترقب: أزالت الشمس؟ برغم علمهم أن في الأمر خلافاً، وأن في الانتظار زحاماً، وربما بعض المشقة، إلا أن الحرص يحدوهم لأن يكون حجهم كحج نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وهنا تكمن الروعة.
ولن ينسى الحجاج مشاهد البِّر التي رأوها في المشاعر، تلك المرأة التي حملت والدها على ظهرها، والرجلان اللذان تناوبا على حمل أمهما على أعناقهما في كل مشاعر الحج، في مشهدٍ يغني عن آلاف الكتب في الوفاء للوالدين.
وأما في الأمصار فبشائر الخير لم تنقطع، فعرفة صار كأنه من أيام رمضان، لكثرة صائميه حتى من الصغار، والأضاحي قلّت من الأسواق على ارتفاع أسعارها، وسالت الطرقات بدماء القربة لله، وامتلأت مصليات الأعياد، وصور الخير أكثر من ذلك، وكل هذا يدل على الحرص على الخير، والخير في الأمة باقٍ، فطوبى لمن كان مفتاحاً له!.
عباد الله: وبعدما انتهت تلك الأيام، وتقرب الموفقون من الحجاج والمقيمين إلى الله بالطاعات، وحُرم أقوام فأقاموا على السيئات، فسلوا الجميع: ماذا بقي لكم اليوم؟ ألستم حين اشتد بكم العناء ومسّتكم الشدة ثم ارتحتم يسيراً ذهب النصب وانقضى التعب؟ وكذا الجنة؛ ينسى المرء بغمسة فيها كل عناء الدنيا.
يا من عشتم الحج بمشقته وجهاده أليس التعب قد ولّى؟ يا من صمتم أيام العشر أليس الجوع انقضى؟ وكذا الدنيا تمضي بنا، بمن أطاع ومن عصى، ولن تستقر إلا على شفير القبر، فطوبى لمن ربح! وويل لمن أساء!.
أيها الكرام: إن الله غني عنا وعن طاعاتنا، ولكنه رحيم بنا يوم أن وفقنا للخير، وشرح صدورنا له، والمنّةُ في كل ما عملنا لله ربنا، وأعمالُنا -مهما كثرت- فلن ندخل الجنة إلا برحمة الله، وإن رباً وفقنا للطاعة وهدانا قبلُ للإسلام لحقيق أن تتوجه القلوب له حمداً وثناء ما توالت الأيام، فالحمد لله على تيسيره وإعانته وهدايته ونسأل الله فضله وجنته.
الخطبة الثانية:
معشر الكرام: أما وقد عاد الحجيج من تلك الرحلة فإن الذي ينبغي أن نسأله أنفسنا: ما ذا بقي لنا منها؟ ليست القضية أن تكون أول النافرين من عرفة أو أسرع الواصلين لمزدلفة، أو أفضل الناس حملة، لكن القضية: هل ربحت في عرفة؟ وهل نلت أجر الحجة؟ فلا تشغلنا تلك الشكليات عن المضمون.
أيها الحجاج: وإذا كان الحج قد انقضى فإن دروسه لا بد أن تبقى، يا من شهدتم الحج لقد علمكم الحج الامتثال لأمر ذي الجلال، فأنتم كنتم تتنقلون في مشاعر وترمون جمرات تعبداً وامتثالاً لأمر الله، فهل يدوم امتثالنا لأمر الله وإن خالف أهواءنا؟ ونسلّمُ الأمر لله وإن غابت حكمته عنا؟ ونسلّم أنه ما أمر الله بشيء إلا والحكمة فيه؟.
لقد علَّمكم الحج قدر العلماء، وأهمية أن يصدر المرء عن رأيهم، وكان الحجاج في كل حركاتهم في نسكهم يرجعون إلى العلماء ولا يخالفونهم، فهل يدوم الأمر، ونعرف للعلماء قدرهم، ونقف عند فتاوى المعتبرين منهم؟.
لقد كنتم في الحج تتحرون وتتورعون من أشياء يسيرة من المحظورات خشية أن تؤثر على حجكم، فهل يدوم التحري وذلك الورع؟ لنتورع عن المحرمات من الأعمال والأقوال والأموال؛ لئلا تؤثر على قلوبنا وإيماننا.
يا من شهدتم الحج: لقد علمكم الحج أن السعادة هي سعادة الطاعة، وأنها ليست بالمظاهر الجوفاء، ولا ببهارج الدنيا، فلقد رأيتم صعيد عرفات، فهل رأيتم فيه مناظر خلابة، أو أجواء عليله، أو خضرة ونضرة؟ أليست أرضاً جرداء، وجبالاً سوداء؟ ومع هذا فقلوب المؤمنين كلُها تحن إليها، لا لأجل بقعتها؛ بل لأنها مأوى طاعة الله، وتنزُّل الرحمة.
ولربما رأيتم مَن يذهب لأجمل الأماكن فلا يحس بذرة أنس، وأنتم ومع عناء السفر، وتعب الإحرام تودون لو أنه وقف الزمن، فمن يخبر الباحثين عن السعادة أنها ليست إلا في طاعة الله؟.
يا من شهدتم الحج: لقد أراكم الله نموذجاً للتساوي يوم القيامة، فحينما لبستم ثياب الإحرام ما عاد أحدٌ يتميز عن أحد، زالت المظاهر، وتساوت الرؤوس، وإذا كان هذا في دار الدنيا فإن الأعظم من ذلك يوم أن يقوم الناس لرب العالمين، قد تساوت رؤوسهم، وعريت أبدانهم، ولم يبق لهم إلا أعمالهم، فهناك تذهب المناصب وتزول المظاهر حقاً، ولا يبقى للمرء إلا ما قدم من عمل.
يا من شهدت المشاعر: أحسِن الظن بالله، واذكر أن من علامة القبول أن تعود وقد تبدلت حال السوء منك إلى صلاح، وأتبعت حسنات الحج بالحسنات، وقد قال السلف: من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، واذكر قول الحسن البصري: الحج المبرور أن تعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، فليكن الحج مفتاح خير للإقبال على الله.
وإذا كانت رحلة الحج قد انتهت، وعدتم إلى أوطانكم، فثمة رحلة من ارتحلها ولبس البياض فلن يعود إلى دنياه، فماذا أعددنا لتلك الرحلة القريبة الطويلة؟.
اللهم تقبل من الحجاج.