الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
فبالمراقبة يعبد الرحمن ويبنى الإيمان ويطرد الشيطان..وبالمراقبة يكون جمال الحياة وصلاح الدنيا وسعادة الناس..بالمراقبة تصلح حياة الخلق مع الله وفيما بينهم وتصلح ذواتهم وبالمراقبة تمنع النفس هواها بالمراقبة تؤدى الواجبات والحقوق والأمانات.. وبالمراقبة تذرف الدموع وتخشع القلوب وتسكب العبرات، وبالمراقبة يُقام العدل والوئام وتُصان الحقوق وتُحفظ الدماء والأعراض وبالمراقبة يبر الأبناء آباءهم وتُوصل الأرحام ...
الحمد لله العزيز الوهاب، الغفور التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، خلق الخلق فأحصاهم عددًا وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وهو العظيم القاهر فلا يعجزه أحداً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه،أئمة العلم والهدى ومصابيح الدجى وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: عباد الله: إن مراقبة الله واستشعار عظمته والخوف منه من أعظم العبادات وأهم الواجبات على المسلم، وقد حذر سبحانه وتعالى من الغفلة عن ذلك فقال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: 235]، ويقول: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
فاجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عليك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه..
إن الذين يتحلون بفضيلة المراقبة هم خيار العباد من العقلاء، وصفوة الناس من الأتقياء، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره خفَّ يوم القيامة حسابه وحضر له عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في ساحة القيامة وقفاته، وقادته إلى العقاب سيئاته وانظروا إلى قول الله عز وجل وهو يعرض هذه الحقيقة في قصة ابني آدم قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة المائدة 27-31)...
إن المرء ليتساءل: ما الذي جرأ الأخ على قتل أخيه وسفك دمه وما الذي عصم الآخر من ارتكاب نفس الخطأ ونفس الجريمة أليس الخوف من الله ومراقبته واليقين بلقائه فلذلك قال ( إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ )...
إن مراقبة الله واستشعار عظمته والخوف منه من أعظم العبادات، قال الله تعالى وهو يقرر هذه الرقابة الربانية: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61).
فبالمراقبة يعبد الرحمن ويبنى الإيمان ويطرد الشيطان..وبالمراقبة يكون جمال الحياة وصلاح الدنيا وسعادة الناس..بالمراقبة تصلح حياة الخلق مع الله وفيما بينهم وتصلح ذواتهم وبالمراقبة تمنع النفس هواها بالمراقبة تؤدى الواجبات والحقوق والأمانات.. وبالمراقبة تذرف الدموع وتخشع القلوب وتسكب العبرات، وبالمراقبة يُقام العدل والوئام وتُصان الحقوق وتُحفظ الدماء والأعراض وبالمراقبة يبر الأبناء آباءهم وتُوصل الأرحام ...
هذه هي المراقبة ... وبدونها يُعصى الله ويُطاع الشيطان ويضعف الإيمان...؟ وتُنتهك الحرمات وتضيع الأمانات...؟ ويحل الفساد والضياع والظلم والاعتداء ويبغي المسلم على أخيه المسلم..؟ وبدون مراقبة الله رأينا الإهمال يضرب كثيرًا من الأعمال، ويُدمر كثيرًا من المؤسسات، وتُهدر كثير من الأموال .. ومتى ما ضاعت وتلاشت المراقبة من حياة الإنسان وخلا منها القلب ضاع مصير هذا الإنسان، وضل عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم...
وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم حالة توجل منها القلوب وتذرف منها الدموع حين قال: "ليأتين أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تهامة بيض، يكبهم الله تعالى على وجوههم في النار"، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جَلِّهم لنا! فقال : "يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" (صححه الألباني)..
قال أبو الدرداء: ليتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيلقي الله عليه البغض في قلوب المؤمنين ..
إن مراقبة الله والخوف منه عبادة من العبادات التي أصبحت مهجورة في حياة كثير من الناس إلا ما رحم الله، فأصبح الفرد منا يراقب المخلوق وينسى الخالق، فالعامل يراقب مسئوله وإلا لما أتقن عمله.. والموظف يراقب مديره وإلا لفرط وقصر بواجبه، والتاجر يراقب القانون الذي يحكمه، والمقاول لا يهمه كمية الحديد المطلوبة ولا نوعية الإسمنت للبناء... والطالب يراقب أستاذه، وهذا يخاف الفضيحة، وآخر يخاف أن يعيّره الناس والمرأة تخاف وتراقب أهلها وزوجها وعادات وتقاليد المجتمع.. واللص والمجرم لا يهمه نوع الجريمة وخطرها على المجتمع إنما كيف يستطيع أن يقوم بجريمته دون أن يترك أثرًا يدل عليه..
حتى في جانب العبادات والأحكام الشرعية، فربما أحسنا القيام بها إذا رأينا الناس وتزينا بالخشوع والتذلل والتعبد وهكذا أصبحت حياتنا... وصدق الله إذ يقول: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) [النساء:108].
عباد الله: لقد كان من أهم القيم التي غرسها محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه وربى عليها أتباعه هي مراقبة الله والخوف منه واستشعار عظمته، والوقوف عند أمره ونهيه ها هو صلى الله عليه وسلم يعلّم ابن عباس وهو غلام صغير هذه المبادئ والقيم العظيمة فقال له: "يا غلام أنى أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ، ورفعت الصحف" رواه الترمذي.
وكان القرآن ينزل تثبيتاَ وتدعيماَ لهذه التربية قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا) [آل عمران:30] وقال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل:111] وقال تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2]... يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) [النساء:42] وقال تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59]...
وهذا لقمان عليه السلام يربي ابنه فقال له ناصحا وموجهًا: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) (لقمان 16).
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل | خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة | ولا أن ما تخفيه عنه يغيب |
لقد استشعر صحابة محمد صلى الله عليه وسلم رقابة الله، فأثرت هذه الرقابة في حياتهم وفي سلوكهم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس، إنهم لم يكونوا ملائكة ولم يخرجوا عن بشريتهم في يوم من الأيام، ولكنهم كانوا في أروع صورة بشرية عرفتها الدنيا؛ لأنهم تخرجوا من مدرسة الحبيب محمد، وتربوا على مائدة القرآن وسنة سيد الأنام.
اللهم إنا نسألك خشيتك في السر والعلن... قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية :
عباد الله: إنه يجب علينا أن نربي أنفسنا وأهلينا وأولادنا ومن له حق علينا على هذه التربية العظيمة؛ ذلك أنه مهما خُوّف الناس وبُعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووُجدت الخيانة وانتشرت الأمراض الاجتماعية في مجتمعات المسلمين إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر..
إن الرقابة البشرية - على حاجة الناس لها وعلى أهميتها، سواءً كانت رقابة إدارية، أو مالية، أو أسرية، أو اجتماعية، أو فكرية - قد تغفل وقد تغيب، ولكن المفهوم الإسلامي يزرع معنى رقابة الله، وإحساس المسلم بهذه الرقابة؛ ليكون على نفسه شهيداً حفيظاً..
قال نافع: خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع فقال له عبد الله: هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة، فقال: إني صائم.. فقال له عبد الله: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم؟!! فقال الراعي: أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر وقال: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها...قال: إنها ليست لي، إنها لمولاي.. قال: فما عسى أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب...؟ ! فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله ؟؟؟ قال: فلم يزل ابن عمر يقول: فأين الله.. فلما قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم رحمه الله، وقال له: إن هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم القيامة" [صفة الصفوة 2 / 188] ...
إن من أعظم ثمرات مراقبة الله والخوف منه للأمة هو التمكين والاستخلاف في الأرض، وزيادة الإيمان وطمأنينة النفس، قال عز وجل: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم13- 14 ).. إذاً الخوف من الله ومراقبته يؤدي إلى التمكين في الأرض والانتصار على الأعداء..
فما أحوجنا إلى هذه التربية العظيمة في زمن كثرة فيه الفتن وتسلط فيه العدو وضعفت فيه العقيدة في قلوب كثير من المسلمين.... فلنكثر من الطاعات ولنتزود من العبادات وعلينا كذلك بالعودة إلى القرآن الكريم منهجًا للحياة، وعلينا بدراسة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة الأعلام، وعلينا كذلك بكثرة الدعاء وعلينا أن نكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات..
اللهم طهّر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة، وقلوبنا من النفاق والغل والغش، والحسد والكبر والعجب، وأعمالنا من الرياء والسمعة، وبطوننا من الحرام والشبهة، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور...
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارضَ اللهم عن الأئمة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.