البحث

عبارات مقترحة:

الشهيد

كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

الحق

كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...

معالم الهداية في القرآن (2)

العربية

المؤلف سعيد بن يوسف شعلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. يد السارق يد خبيثة حقها أن تقطع .
  2. الحدود كفارات لأصحابها .
  3. اعتراض المعري على حد السرقة والإجابة عليه .
  4. من حدود الله أيضًا جلد الزاني البكر ورجم الثيب .
  5. الرد على من يعتبر الرجم والجلد ضربًا من الوحشية .
  6. انتكاس البشرية ووقوعها فيما لا تقع فيه حتى الحيوانات .
  7. دعوة للتأسي بالسلف الصالح ونماذج من عبادات السلف .

اقتباس

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه في قوله تعالى في سورة المائدة: (وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38]. وفي الحديث الشريف يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو سرقت فاطمة لقطعت يدها". والجمهور على أن اليد اليمنى هي التي تقطع، فإن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم إن سرق قُتل كما جاء في الحديث.

الخطبة الأولى:
 

أما بعد:

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه في قوله تعالى في سورة المائدة: (وَلسَّارِقُ وَلسَّارِقَةُ فَقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـالاً مّنَ اللَّهِ وَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38].

وفي الحديث الشريف يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو سرقت فاطمة لقطعت يدها". والجمهور على أن اليد اليمنى هي التي تقطع، فإن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم إن سرق قُتل كما جاء في الحديث. ولا قطع إلا في ربع دينار أو قيمته أو ثلاثة دراهم كما هو معروف بالأحاديث.

وليس القصد هنا تعريف أحكام السرقة، ولكن المراد بيان أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم؛ وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نواهيه والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني، مدَّت أصابعها الخائنة إلى مال الغير لتأخذه بغير حقه، واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح، فإنها يد نجسة قذرة، ساعية بالإخلال في نظام المجتمع؛ إذ لا نظام له بغير المال، فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن، فإنه يزال بالكلية إبقاءً على البدن وتطهيرًا له، ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ومعصية السرقة التي ارتكبها، مع الردع البالغ بالقطع عن السرقة لمن لم يسرق.

وقد ورد في صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا". وقرأ هذه الآية كلها -أي آية الممتحنة- ثم قال: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه".

أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- البيعة على الصحابة أن لا يشركوا بالله شيئًا، وهو من مقدمة الأمور التي بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها الصحابة، أن لا يشركوا بالله شيئًا؛ إذ هو أجل الأمور الذي من أجله بُعثت الرسل، وأنزلت الكتب، واستحق الثواب والعقاب، وقام سوق يوم الدين، وسيق الأبرار إلى النعيم، والفجار إلى الجحيم.

وبايعوا أيضًا على أن لا يسرقوا ولا يزنوا، بايعوا على ذلك فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من وفّى منكم"، أي بما بايع عليه، فأجره على الله، وما ظنك بأن يقع أجرك على الله!!

ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، من ارتكب هذه الحدود والمحرمات والمنهيات فعوقب به وأقيم الحد عليه فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه ولم يُعلم بحاله ولم يُقم عليه الحد فهو إلى الله أمره؛ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، هذا بعد أن يتوب التوبة النصوح، وبعد أن يندم ندمًا شديدًا على ما حصل منه ويستبدل السيئة بالحسنة، هو بعد ذلك في حكم المشيئة، هو إلى الله -تبارك وتعالى- إن شاء عفا عنه وغفر له، فإنه لم يطبق عليه الحد في الدنيا، وإن شاء عذبه.

فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فهو كفارته"، نص صريح في أن الحدود تطهِّر المرتكبين لها من الذنب.

وقد قُطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية الوليد بن المغيرة؛ لما سُرقت الصورتان صورتا غزال من ذهب، سُرقتا من الكعبة، فقطعت يد السارق، وحكم بذلك الوليد بن المغيرة. ذكر ذلك القرطبي في تفسيره.

فأمر الله تعالى بقطع السارق في الإسلام، وقطع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقطع بعده أبو بكر، وقطع بعد أبي بكر عمر -رضي الله عنهما-، وكان أول من قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده في الإسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وكانت أول من قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- يدها من النساء فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، وهي ابنة أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بنت أخيه فاطمة بنت الأسود التي مات أبوها كافرًا، قتله حمزة يوم بدر، أما هي فقد قطعت يدها عام الفتح.

وقطع النبي -صلى الله عليه وسلم- يد ابنة عم نفس السارقة، وهي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد عام حجة الوداع.

ولما كانت دية اليد خمسمائة دينار -وهي على النصف من الدية الكاملة- فإن الملحدين الذين يعترضون على حكم الله ورسوله اعترضوا على قطعها في ربع دينار، فقالوا: كيف تكون ديتها خمسمائة دينار ثم هي تقطع في ربع دينار!!

وهو الذي نظمه المعري فقال:

يدٌ بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظمًا ونثرًا، منها جواب القاضي عبد الوهاب المالكي قال:

عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها

ذُلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

عز الأمانة أغلاها متى جعلها إذا اعتُدي عليها بخمسمائة دينار بنصف الدية الكاملة، إذا قطع شخص يد شخص كانت الدية خمسمائة دينار، وإذا سرقت هي ما قدره ربع دينار أو سرقت ثلاثة دراهم قطعت في ذلك، لِمَ؟! عز الأمانة أغلاها إذا قطعت، أغلاها عز الأمانة فعظمت ديتها، وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري.

ولما كان القرآن العظيم يدعو لمكارم الأخلاق والتنزه عما لا يليق؛ فقد أمر الله تعالى بقطع يد السارق في هذا القدر القليل، وهو تشريع حكيم يدل على وضع يد الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، بسبب ارتكاب الرذائل، ولو كانت الدية ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، يعني لو كانت الدية إذا قطعت اليد ديتها ربع دينار فقط لاستهتر الناس واستخفوا وتهاونوا واعتدى بعضهم على بعض ما دامت الدية ربع دينار.

نعم، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لتهاون الناس بالأموال ولتساهلوا واستهتروا وسرق بعضهم بعضًا في أقل من خمسمائة، يسرق أربعمائة، أربعمائة وخمسين، فإنه لا يقطع حتى يبلغ خمسمائة.

ولهذا ظهرت حكمة الله -عز وجل- في الجانبين، وكان في ذلك صيانة في الطرفين، فهذا تشريع الحكيم الخبير العليم بما ينفع خلقه في معاشهم ومعادهم وما يضره فيهما.

نسأله الهداية إلى العلم والعمل بدينه الذي ارتضاه لنا، فإن فيه صلاحنا وفلاحنا في دنيانا وآخرتنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإن من هدي القرآن كذلك للتي هي أقوم: رجم الزاني المحصن ذكرًا كان أم أنثى، وجلد الزاني البكر ذكرًا كان أم أنثى، أما رجم الزاني المحصن فمنصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم، وهي قوله تعالى: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم".

وأما جلد الزاني البكر فمنصوص بقوله تعالى في سورة النور: (لزَّانِيَةُ وَلزَّانِى فَجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2].

والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي ولا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي عامل بها الإنسان؛ لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه. وإنما عظمت عقوبة المحصن لأنه ذاق عُسيلة النساء فعسر صبره عنهن، فلما كان داعيه إلى الزنا عظيمًا كان الرادع عنه عظيمًا ليكف ويرجع.

والحاصل أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى؛ لأن الزاني لما خان وغدر ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني، والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله، ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بقتله ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخِسة وشر أمثاله عن المجتمع، ويطهره من التنجيس بتلك القاذورات على أجل الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح والجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاءً وفاقًا، فليحذر المسلم هذه الجريمة الشنيعة القطيعة، فإن الزنا من ولجه فقد حرم نفسه من عفو الله وجعل نفسه عرضة لانتقامه سبحانه، وجلب لنفسه أسباب الخزي والعار والانحطاط، وحرم نفسه من كل خير.

فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن خالقهم إنما يعرف ما يصلحهم، وما يصلح لهم ودلهم على ذلك ليعرفوا ما ينالون به غاية كمالهم في الدنيا والآخرة.

فالواجب عليهم أن لا يعاونوا أعداء الله الكفرة الذين استباحوا المحرمات، وهبطوا من علياء الإنسانية إلى درك الحيوانية، فينبغي على المسلمين أن يعتنوا بإنسانيتهم، وتزكيتها بالتأمل والتفكر في الآيات الكونية، والتدبر والتفقه والعمل بالآيات العلمية، وينبغي عليهم أن لا يتابعوا هؤلاء الذين قال الله عنهم في سورة الأعراف: (أُوْلَـئِكَ كَلانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:179]، وفي سورة الفرقان: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَلاْنْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان:44].

نعم، هم أضل سبيلاً لأنهم عندما استحلوا ما حرم الله عليهم، وفتحوا على النفس كل باب من أبواب الشهوات ظنًا منهم أن في ذلك سعادتهم وراحتهم، فقد هبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوانات.

فقد ذكر الأستاذ محمد قطب في بعض محاضراته أن الحصان مثلاً حيوان لا يستحل أن يأتي أمه، لا يستحل أن ينزو على أمه، وهؤلاء قد استحلوا الأمهات والأخوات والبنات والجارات، استباحوا واستحلوا كل شيء مما حرم الله عليهم.

وهم قاموا بوضع عصابة على عين حصان ومكنوه من إتيان أمه، وبعد ذلك نزعوا العصابة عن عينه، فلما اكتشف ذلك ألقى نفسه من فوق جبل عالٍ.

ليست هذه خرافة ولا قصة يُتسلى بها، هذا أمره معروف علمي متداول، إن هؤلاء قد انحطوا بأعمالهم إلى درك أسفل من درك الحيوانات.

ومن الحيوانات من لا يرضى أبدًا بهذه المباشرة في ظل مطالعة أحد أو رؤية أحد.

لكن هؤلاء الذين قال الله عنهم: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا) [الأنعام:70]. وقال في سبب حرمانهم من النعيم الذي فاز به أهل الجنة، قال في سورة الأعراف بعد أن طلب أهل النار الماء وشيئًا مما رزق الله أهل الجنة، قال أهل الجنة: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَلْيَوْمَ نَنسَـاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـاذَا وَمَا كَانُواْ بِـئَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف:50-51].

إن هؤلاء الناس مع ما وصلوا إليه من أسباب الرفاهية والراحة وتوفير الجهد والوقت إلا أنهم لا يعرفون طعم السعادة، على الرغم من أنهم لم يحرموا أنفسهم من شيء من شهوات الفروج والبطون، ما حرموا أنفسهم من شيء لكنهم لم يسعدوا؛ لأن الله خالق الإنسان قضى بأن لا تكون سعادته فيما حرم عليه.

وهم يؤمنون إيمانًا جازمًا بأن يُعهد كل مصنوع إلى صانعه إلا الإنسان؛ فإنهم لا يعهدون به إلى خالقه الذي يعلم ما يصلحه وما يصلح له، فليس بعد هذا الجور من جور، وليس بعد هذا التناقض من تناقض.

وأما الذين هم حريّون بتأسيكم ومتابعتكم -أيها الإخوة- فإنهم سلفكم الصالح أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتابعوهم وتابعو تابعيهم، هؤلاء الذين لو تابعتم سيرتهم عرفتم كيف اعتزوا بكرامتهم الإنسانية، وكيف سموا إلى درجات الكمال التي رضيها الله تعالى لهم، فعرفوا نعم ربهم عليهم وحكمه البالغة فقدروا ذلك قدره، وشكروا الله -عز وجل- وأحبوه، وقامت لقلوبهم من خشيته ما الله به عليم.

إن أبا بكر بن عياش مثلاً -وهو أحد أتباع التابعين- يقول لابنه إبراهيم عند موته وقد بكى: يا بني: "لا تبكِ؛ إن أباك لم يأتِ فاحشة قط".

وكان -رحمه الله- مقرئًا فقيهًا محدثًا ثقة فيقول لابنه كذلك: "يا بني: إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة، فإن أباك قرأ فيها القرآن اثنتي عشرة ألف مرة".

وهذا عبد الله بن إدريس أحد أتباع التابعين وهو أجل قدرًا من أبي بكر بن عياش، هو إمام حافظ ثبت ثقة من أئمة الحديث، يقول لابنته عند الوفاة كذلك: "لا تبكِ، فإن أباك قد قرأ القرآن في هذا البيت أربعة آلاف مرة".

هكذا كانوا، متفوقين في العبادة كيفًا وكمًا، فما بالنا مع قصر أعمارنا ونزع البركة منها لا نتأسى بهم، ولا نقتدي بهم، ونضّيع الأعمال فيما يحسب على هذه النفوس التي نزعم أننا نمتعها ونسعدها.

إننا لو عشنا كما عاشوا هم ثمانين أو تسعين سنة، وحاولنا أن نفعل مثل فعلهم لما ساعدتنا البركة في عمرنا على مثل ما كانوا يفعلون أبدًا.

فإن أبا بكر بن عياش هذا له رواية يقول فيها: إن أباك منذ ثلاثين سنة وهو يقرأ القرآن في كل يوم مرة، بغض النظر عن عدم متابعة السنة في ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وهذا كان يقرأ في كل يوم مرة، أخضع نفسه لهذه العبادة، ليس النقاش على هذا، فإنه قدر على ذلك ففعله، لكن النقاش فيما لو وهبت لنا أعمارهم ثمانون أو تسعون؛ لما استطعنا أن نقرأ بمثل ما كانوا يقرؤون به من التدبر والفهم والعمل والخشية والخضوع والذل والخوف والمحبة لله -تبارك وتعالى-، إضافة إلى نشر السنة وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- والجهاد، كل ذلك قاموا به لم يشغلهم شيء عن شيء مما يحبه الله -تبارك وتعالى-.

فهل نتابع بعد ذلك أحط الخلق الذين هبطوا إلى درك الحيوانات، ونترك متابعة الصالحين ونطمع أن يدخلنا الله الجنة؟!