الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
تسيرُ بنا الأيام عجلَى ونحن فيها لاهِثون، وتُنتقَصُ أعمارُنا ونحن غافِلون، وتُشغِلُنا الشواغِلُ عما نحن به مُطالَبون، وقد مرَّ بنا عامٌ عاصِفٌ سقطَت فيه عروشٌ ودالَت دول، واضطربَت أحوالٌ وتغيَّر وجهٌ من التاريخ، دوَّامةٌ من الأحداث المُتسارعة لا يكادُ يُدرِكُ غورَها الإنسانُ، منها ذاتُ العِبَر وذاتُ الإحسان ..
الحمد لله يُعيد على عباده مواسمَ الخيرات، ويُهيِّئُ لهم ما تزكُو به الأنفسُ وتعلو الدرجات، ويُسهِّل لهم ما يُقرِّبُهم لربِّ البرِّيات، فمنهم من لربه يدنُو فيعلُو، ومنهم من يهِنُ ويلهُو، وآخرون تحطُّ بهم أهواؤُهم في أدنى الدَّركات، أحمد ربي تعالى وأشكره، وأُثنِي عليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يجزِي بالجليل على القليل ويغفِرُ الذنبَ العظيم، يُذهِبُ عن المؤمنين الحَزَن، ويسترُ القبيحَ ويُظهِرُ الحسن، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النَّظير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخليلُه ومُصطفاه، قد أفلحَ من اهتدَى بهُداه، وضلَّ من جافاه عنه هواه، صلَّى الله عليه وصلَّى على الآل والأصحاب ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
أيها المسلمون: تسيرُ بنا الأيام عجلَى ونحن فيها لاهِثون، وتُنتقَصُ أعمارُنا ونحن غافِلون، وتُشغِلُنا الشواغِلُ عما نحن به مُطالَبون، وقد مرَّ بنا عامٌ عاصِفٌ سقطَت فيه عروشٌ ودالَت دول، واضطربَت أحوالٌ وتغيَّر وجهٌ من التاريخ، دوَّامةٌ من الأحداث المُتسارعة لا يكادُ يُدرِكُ غورَها الإنسانُ، منها ذاتُ العِبَر وذاتُ الإحسان.
ومن رحمة الله ولُطفه أن نستيقِظ هذا اليوم على صُبح يوم من رمضان بفضله وبركته وبِشاراته وانتِصاراته، رمضان شاطئٌ ترفعُ فيه سفينةُ القلوب بعد عواصِف الأحداث وغفلةِ الأيام، عامٌ مضَى بتقلُّبات أحواله، وانشغِالنا وتفريطنا.
وقد آنَ اليوم أن تبتلَّ أرواحُنا بعد الجفاف، وتترطَّب أفئدتُنا بعد القسوة، ورغِمَ أنفُ من أدركَه رمضان فلم يُغفَر له.
اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
أيها المؤمنون: إن مواسِم الخيرات فرصٌ سوانِح، بينما الموسمُ مُقبِلٌ إذ هو رائحٌ، والغنيمةُ فيها ومنها إنما هي صبرُ ساعةٍ، فيكون المسلمُ بعد قَبول عملِه من الفائزين، ولخالِقِه من المُقرَّبين.
فيا لله! كم تُستودَعُ في هذه المواسِم من أجور، وكم تخفُّ فيها من الأوزار الظهور، فاجعلنا اللهم لنفحَاتك مُتعرِّضين، ولمغفرتك من المُسارعين، ولرضوانك من الحائزين، ووفِّقنا لصالحِ العمل، واقبلنا اللهم فيمن قُبِل، واختِم لنا بخيرٍ عند حضور الأجل.
أيها المسلمون: الصومُ شرعٌ قديمٌ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة: 183]، ورمضان شهرُ الرحمات والبركات، والحسنات والخيرات، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغلَق أبوابُ النار، فيه ليلةُ القدر هي خيرٌ من ألف شهر، ولله تعالى عُتقاءُ من النار، وقد ثبتَ في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن "من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"، وأن "من قام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه"، وأن "من قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه".
خَلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك، وللصائم فرحتان: إذا أفطرَ فرِح بفِطره، وإذا لقِيَ ربَّه فرِح بصومه.
وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "...ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبت الكبائرُ".
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، كان جبريلُ -عليه السلام- يُدارِسُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فيه القرآن، وكان السلفُ -رحمهم الله- إذا جاء رمضان تركُوا الحديثَ وتفرَّغوا لقراءة القرآن، والصيامُ والقرآن يشفَعان لصاحبهما يوم القيامة.
هو شهرُ التراويح والقيام، والاصطفاف في محاريبِ التهجُّد والناسُ نِيام، شهرُ سكبِ العبرات وإقالة العثَرات، للصائم دعوةٌ لا تُردُّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
في رمضان تصفُو النفوس وتتهذَّبُ الأخلاق، وفي الصوم تربيةٌ على كسر الشهوة، وقطع أسباب العبودية للأهواء والشهوات، في رمضان يُواسَى الفُقراءُ والبُؤساء، فهو شهرُ الصدقة والمواساة.
أيها المسلمون: أخلِصوا دينَكم لله، وتخلَّصُوا من أدران الذنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتوبة والاستِغفار؛ فإن الذنوبَ مُقعِدةٌ عن الطاعات، وحائلٌ عن القُرُبات.
ثم صُونوا صومَكم عما يُنقِصُه أو يُحبِطُه، حقِّقُوا الإخلاصَ والمُتابعَة في كل عبادتكم، وحاذِروا الشركَ فهو أشدُّ مانعٍ لقبول العمل؛ بل هو مُحبِطٌ له، وابتعِدوا عن كل مُحدثةٍ في الدين فلا يقبَلُ الله عملاً لم يُشرَع.
صُونوا صومَكم عما يجرَحُه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه". رواه البخاري.
وفي الصحيحين أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ".
أيها الصائمون: إن مقصودَ الصيام: تربيةُ النفس على طاعة الله وتزكيتُها بالصبرِ، واستِعلاؤُها على الشهوات، وكما يُمنَعُ الجسدُ عن بعض المُباحات حال الصيام؛ فمن بابِ أولَى منعُ الجوارح عن الحرام.
إن وقت رمضان أثمنُ من أن يضيعَ أمام مشاهِد هابِطة لو لم يكن فيها إلا إضاعةُ الوقت الثمين لكان ذلك كافِيًا في ذمِّها؛ كيف وقنواتُها في سباقٍ محمومٍ مع الشيطان في نشر الفساد والفتنة، والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم مُنتهون؟!
رمضان تذكرةٌ للأمة لمُراجعة حساباتها وعلاقتها بدينها، وتفقُّد مواضع الخلل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، فهو شهرُ تزكية النفوس وتربيتها.
يا مُسلم يا عبدَ الله: دُونَك دعوةُ الجبَّار لك بالتوبة، فأجِبِ النداءَ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، بادِر بالتوبة -غفر الله لي ولك-، وإياك أن تضعَ في صحيفتِك اليوم ما تستحِي من ذكرِه غدًا، وإنما الراحةُ الكُبرى لمن تعِبوا.
أيها الصائمون: وفي الأسحار أسرار، نفحاتٌ ورحماتٌ حين التنزُّل الإلهيُّ، ورُبَّ دعوةٍ يُكتَبُ لك بها الفوزُ الأبديُّ، وعند الفِطرِ دعوةٌ لا تُردُّ.
فاسعَدوا بشهركم -أيها المسلمون-، وأودِعوا فيه من الصالِحات ما تستطيعون، وتقرَّبُوا فيه لمولاكم، فللجنة قد ناداكم: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس: 25].
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروا الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّة، وسببًا مُوصِلاً إلى الجنة، أحمدُه سبحانه وأشكرُه هَدَى ويسَّر فضلاً منه ومنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه دلَّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون الصائمون: رمضان شهرُ الذكريات والفُتوحات والانتِصارات، وبقدرِ ما نستبشِرُ بحُلوله بقدر ما نعقِدُ الآمالَ أن يُبدِّلَ اللهُ حالَ الأمة إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ، وأن يرُدَّها إليه ردًّا جميلاً، وإلا فإن رمضان يحِلُّ بنا والأمةُ مُثخنةٌ بالجِراح، مُثقلةٌ بالآلام.
يحِلُّ رمضان ومسرَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُحتلٌّ يئِنُّ تحت وطأة الظالمين.
يحِلُّ رمضان والمُرابِطون في أكنافِ بيت المقدسِ من المؤمنين يُقتَلون ويُشرَّدون، وتُهدَمُ منازِلُهم وتُجرَفُ أراضيهم، وتُبادُ جماعتُهم.
يحِلُّ رمضان وإخوانُنا في سوريا يُذبَحون ويُدمَّرون، ويتواطَؤ عليهم شِرارُ أهل الأرض، وإن كنا نرى الفرجَ لهم أقربَ مما يظنُّ الظانُّون، نصرًا يُشادُ إلى سواعِد الصابرين، وتستجلِبُه دعواتُ الصائمين الضارِعين، وليس على الله بعزيزٍ أن يكون العيدُ في الشام عِيدان: عيدُ الفِطر وعيدُ النصر.
فيا ربِّ: عبادَك عبادَك، أنت بهم أدرَى، وقد جاءتهم المصائبُ تَترَى، فيا ربِّ: هبْ لهم من لدُنك نصرًا، نصرًا لا يشكُرون به سِواك، ويستغنُون به عن عِداهم وعِداك.
ثم صلِّ -يا ربِّ- وسلِّم على خير الورَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم أتِمَّ عليهم، اللهم أتِمَّ عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.