الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
لقد جاء نصر الله بفتح مكة تتويجًا لبطولات وتضحيات، إنه نصر ليس وليد ساعة ولا شهر ولا عام، ولكنه نتاج دعوات وتضرع في بدر، وثمار دماء أُريقت في أُحد، وحصاد كرب وهم في الخندق، وأنت تتأمل أحداث هذا الفتح الأكبر تستطيع أن تدرك تمامًا قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله، وإن الأمة -وهي تتذكر فتح الله لنبيه مكة بعد جهاد مرير وكفاح طويل- لهي ترتقب ..
الحمد لله الذي عز فارتفع، وذل كل شيء لعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز وأذل، وأعطى ومنع، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد وضحى وبذل، فنعم ما صنع، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
في زمن تعصف فيه رياح التخذيل والإرجاف، وتعتم فيه الأجواء بغبار اليأس والقنوط، وتتوالى فيه المحن والشدائد على الإسلام ودعاته وأتباعه قتلاً وسجنًا وتشريدًا، واستيأس الصالحون وقالوا: متى نصر الله؟!
أحلّق بعيدًا عن هذه الأجواء لأعيش وإياكم قليلاً في أجواء العزة والقوة، ونتفيأ ظلال شجرة الأنفة والإباء، ونستنشق عبير التفاؤل والأمل وصدق اليقين.
أنقلكم إلى العشر الأواخر من رمضان من العام الثامن؛ حيث الشريد الطريد المحارب المهاجر يعود الآن إلى الوطن محفوفًا بمعاني النصر، ومحاطًا بهيبة الملك والنبوة، في موكب مهيب قوامه أكثر من عشرة آلاف مقاتل.
أنقلكم إلى حيث جاء الحق وزهق الباطل (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]، أنقلكم إلى الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه، واستنقذ به بلده الأمين وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين.
إلى الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجًا.
كانت بنو بكر في حزب قريش، وخزاعة في حزب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة فأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد والميثاق في الحديبية، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إنـي ناشـد محمـدًا | حلفنا وحلف أبيه الأتلدا |
قد كنتم ولـدًا وكنـا والدًا | ثمة أسلمنا ولم ننـزع يدًا |
فانصر هداك الله نـصرًا أيدا | وادع عباد الله يأتـوا مددًا |
فيـهم رسول الله قد تجردا | أبيض مثل البدر يسموا صعدا |
إن سيم خسفًا وجهه تربدا | في فيلق كالبحر يجري مزبـدًا |
إن قـريشا أخلفوك الموعدا | ونـقضوا ميـثاقك المـؤكدا |
وجعـلوا لي في كداء رصدا | وزعموا أن لست أدعو أحدًا |
وهـم أذل وأقـل عـددًا | هم بيتـونا بالوتـير هـجدًا |
ولأن رسول الله -صلى الله عليه- وسلم لا يعرف مبدأ الخذلان، ولا يحتاج إلى قرار من مجلس العفن، وهيئة الظلم، وإنما يعرف مبدأ (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال: 72]، ويرفع الشعار "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، لذا فقد أجاب النداء وقال بكل ثقة ويقين: "نُصرتَ يا عمرو بن سالم"، وكان الاستعداد للفتح الأعظم.
ولما أحسّ أبو سفيان بفداحة الأمر وخطورته أراد تدارك الأمر، فتوجه إلى المدينة ليجدد عهد الحديبية، ودخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها-، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طوته عنه، فقال: يا بُنيه: أرغبتي بي عن هذا الفراش، أم رغبتي به عني؟! قالت: بل هو فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شرّ.
إن هذا الموقف من أم حبيبة ليجلّي للناس أنصع صور الولاء والبراء، فإنه أمام عقيدة الإسلام تزول كل المشاعر والعواطف، فلا أبوة ولا أخوة ولا نسب إذا تعارضت مع عقيدة الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) [التوبة: 23].
إن هذا موقف نورده لنساء المسلمين اليوم ممن تضعف أمام مشاعرها الأبوية أو الزوجية، فترضى بالعيش تحت زوج لا يصلي أبدًا، وتتنازل عن مبادئها وثوابتها تحت ضغط أب أو أخ فاسق.
وبعد هذا يخرج أبو سفيان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكلمه فلم يرد عليه شيئًا، فيذهب إلى أبي بكر ليشفع، فقال: ما أنا بفاعل، فيسوقه الحظ السيئ إلى فاروق الأمة ليستشفع، فماذا قال؟! قال: "أنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به".
ثم ذهب إلى علي -رضي الله عنه- فلم تجدِ محاولاته شيئًا، فرجع إلى مكة.
أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد خرج في رمضان ومعه عشرة آلاف مقاتل متوجهًا إلى مكة، وأحب أن يباغت قريشًا ويفاجئهم بمقدمه في هذه الألوف المؤمنة حتى يستسلموا أو يُسْلِمُوا.
فأرسل أحد الصحابة ممن سبقت لهم من الله الحسنى وتشرف بشهود بدر -وهو حاطب بن أبي بلتعة- أرسل كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعث به مع امرأة، فعلم بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعث عليًّا والمقداد فاستخرجاه منها، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاتب حاطبًا، وقال بعطف النبوة وحنانها: "ما هذا يا حاطب؟!"، فقال: "يا رسول الله: لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بهم أهلهم وأموالهم بمكة، فأحببت إن فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام".
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه قد صدقكم"، فقال عمر: "يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال -عليه السلام-: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) [الممتحنة: 1]، لقد نزلت هذه الآيات لتقدر مبدأ الولاء والبراء، فهما من أركان عقيدة المسلمين، الأعداء هم الأعداء، ولن يستقيم إيمان عبد حتى يعادي أعداء الله ويوالي أولياءه ويناصر حزبه.
إن الكفار لم ينكروا في عداوة المسلمين والإسلام رحمًا ولا أهلاً، وإنه لا ينبغي لنا -ولو دارت علينا الدوائر- أن نبقي لهم ودًّا وقد خاصمناهم في ذات الله، وأخذ علينا العهد أن نبذل في حربهم أنفسنا وأموالنا، وهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والمولاة في الله.
وكما قال أبو الوفاء بن عقيل: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بـ"لبيك"، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
لقد علمتنا قصة حاطب درسًا في أدب التعامل بين الأفراد والقادة، ودرسًا في إقالة العثرات وعدم نسيان الفضائل والحسنات، وأن صاحب الفضائل سيئاته مغمورة في بحر حسناته ولو كانت الزلة عظيمة والخطر فادحًا.
إنه درس في إحسان الظن نسوقه لأولئك الذين لا يعرفون في تعاملهم مع إخوانهم إلا لغة القسوة والجفاء، ولا يمارسون إلا سياسة "معنا أو ضدنا"، ومعجم حياتهم فاقد لالتماس المعاذير.
سار الجيش المبارك يطوي الفيافي والقفار قاصدًا أم القرى وبيت الله الحرام في جيش قوامه حوالي عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وكافة القبائل التي أسلمت، وهذا حشد كبير قد لا يحتاجه المسلمون لفتح مكة، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد توجيه ضربة سريعة، وإرعاب قريش حتى لا يقع قتال في الحرم، وتستسلم مكة دون عناء، وشبيه بهذا عندما أسلم أبو سفيان والمسلمون معسكرون قرب مكة طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمه العباس أن يمسك أبا سفيان عند حطم الجبل لينظر إلى هذه الجموع وهذه الكتائب.
وفي هذا الحشد أيضًا من الفوائد: مشاركة المسلمين في الفضائل والأمور الكبيرة الخطيرة، وأن أهل الحق إذا ساند بعضهم البعض فهذا مما يفتّ في عضد أهل الكفر والنفاق.
ويُستفاد منها أنه في مثل ظروف المسلمين الحرجة لا بد من الحشد الإعلامي والفكري لمواجهة الحملات الضارية الموجهة ضد المسلمين، وإظهار الحمية الإسلامية، والقوة الإسلامية، حتى لا يطمع في المسلمين كل طامع.
واقتربت جحافل الإسلام من مكة، وخرج أبو سفيان يلتمس الأخبار، فوقع أسيرًا للجيش المبارك، واستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه أسلوب الضغط النفسي وعنصر التخويف.
ونجحت خطة المسلمين في الحرب النفسية التي قضت على إرادة القتال، حين أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمان لقريش مقابل الاستسلام، وخلت شوارع مكة من الناس، وفرضت حالة منع التجول، ودخل جيش المسلمين مهللاً مكبرًا فاتحًا منتصرًا، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أعلى مكة واضعًا رأسه تواضعًا.
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وهكذا فتحت مكة أبوابها، واستسلم سادتها وكبراؤها، وعلت كلمة التوحيد في جنباتها، وأعيد للبيت الحرام وللبلد الحرام أمنه وسلامه (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير الخلق أجمعين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن في الفتح الأعظم لعبرًا، وفي أحداثه دروسًا وفوائد، فلقد علمنا الفتح الأعظم أن المسلم -بحكم إسلامه- مُطَالب بأن ينصر إخوانه، ويقف في صفهم في مواجهة الأعداء: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال:72]، وأن من مبادئ الإسلام أنه ما من امرئ مسلم يخذل امرأً مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمته، ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب نصرته.
لقد أعلنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبكل وضوح: "نُصرت يا عمرو بن سالم"، وهم حلفاؤه، فكيف بمن يُقتل إخوانه وتُسبى أخواته، كيف بنا -نحن المسلمين- وإخوان لنا في سوريا وفلسطين وأفغانستان وبورما وكشمير والشيشان يُهانون وتُداس كرامتهم على يد اليهود الغاصبين والنصارى الحاقدين والوثنيين المجرمين والنصيرية الكافرين، دون أن تتحرك القلوب وتدمع العيون، ودون أن تمتد يد بعطاء، وتُرفع أكفٌّ بدعاء.
إنه لن ينتصر المسلمون إلا إذا تحقق فيهم -بعد صفاء العقيدة ووضوحها- حب المسلم لأخيه كحبه لنفسه، وشعوره بآلام أخيه كشعوره بما يصيبه هو، وحب نصرته كما يحب أن ينصره هو، والله ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.
ولئن أعجزتك الحيلة وفقدت الوسيلة فأمامك العمل الذي لا يُمنَع، والسلاح الذي لا يُقهر، والقوة التي لا تُغلب، إنه سلاح الدعاء، فالتجئ إلى رب الأرض والسماء، واسأله في مواطن الإجابة أن ينصر إخوانك المستضعفين، وأن ينصرهم ويعزهم ويقهر عدوهم.
لقد علّمنا الفتح الأعظم فضيلة العفو عند المقدرة، وأنه ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وأن المسلم المنتصر لا يزيده الانتصار إلا تواضعًا لله ورحمة لعباد الله.
لقد رأى المسلمون النبي -صلى الله عليه وسلم- يتواضع لله عند دخول مكة حتى رأوه يومذاك ورأسه قد انحنى على رَحْله، وبدا عليه التواضع الجم، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعًا لله وشكرًا له.
تلك هي سمات الخُلق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.
إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام، ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحسن، وهي عبرة لمن يعتبر.
علمنا الفتح الأعظم أنه إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل الذي لا يجوز أن تتجرد منه القيادة الحكيمة الرشيدة، فإذا كان العفو يعكس صورة مشرقة من الحلم والأناة، فإن الحزم يعكس صورة أخرى مضيئة من الشجاعة والإقدام.
إن القيادة التي لا تعرف العفو في الوقت المناسب قيادة وحشية، والقيادة التي تتهاون في الحزم وقت لزومه قيادة ضعيفة همجية:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا | مضر كوضع السيف في موضع الندى |
لذا فقد أصدر القائد المظفر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قرارًا بالعفو العام، وأصدر إلى جانبه قرارًا بإهدار دم نفر كانوا شوكة في حلق الدعوة وحاملها.
علّمنا الفتح الأعظم أن العاقبة للمتقين، وأن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن الباطل مهما ظهر وانتفش فمآله الزوال والبوار: (بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الأنبياء:18].
تذكروا يوم خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من وطنه مكة مستخفيًا في بطون الشعاب والأودية، مهاجرًا إلى يثرب، وقد سبقه من قبله ولحقه من بعده أصحابه القلة المستضعفون يتسللون مهاجرين، وقد تركوا المال والأهل والأرض من أجل أن يبقى لهم الدين.
ها هم أولاء بعد صراع مع الباطل دام أكثر من عشرين عامًا عانوا فيه من البأساء والضراء، وتجرعوا آلام الغربة ومرارة العيش، ها هم أولاء قد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة، وتقووا بعد ضعف، واستقبلهم أولئك الذين أخرجوهم بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين، ودخل أهل مكة في دين الله أفواجًا.
وأقبل بلال الحبشي وهو الذي طالما عُذِّب في رمضاء مكة على أيدي المشركين، فصعد على الكعبة ينادي بأعلى صوته: "الله أكبر الله أكبر"، ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أسواط العذاب: أحد أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله، والكل خاشع منصت خاضع. ألا إنها لحقيقة واحدة لا ثانية لها، إنها الإسلام، فما أحمق الإنسان وما أجهله حينما يكافح أو يجاهد في غير سبيل الإسلام!!
علَّمنا الفتح العظيم أن دين الله منصور بنصر الله، وما كان لله أن يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور، ومن يستطيع أن يطفئ نور الله؟! لقد جاء نصر الله بفتح مكة تتويجًا لبطولات وتضحيات، إنه نصر ليس وليد ساعة ولا شهر ولا عام، ولكنه نتاج دعوات وتضرع في بدر، وثمار دماء أُريقت في أُحد، وحصاد كرب وهمٍّ في الخندق، وأنت تتأمل أحداث هذا الفتح الأكبر تستطيع أن تدرك تمامًا قيمة الجهاد والاستشهاد والمحن التي تمت من قبله.
إن شيئًا من ذلك لم يذهب بددًا، ولم ترق نقطة دم لمسلم هدرًا، ولم يتحمل المسلمون كل ما لاقوه في غزواتهم وأسفارهم لأن رياح المصادمات فاجأتهم بها، ولكن كل ذلك كان جاريًا وفق حساب، وكل ذلك كان يؤدي أقساطًا من ثمن الفتح والنصر، وتلك هي سنة الله في عباده: لا نصر بدون إسلام صحيح، ولا إسلام بدون عبودية.
إن الدماء التي تراق اليوم فداءً لدين الله في بقاع شتى، وإن أموالكم التي تبذلونها نصرة لجند الله، وإن دعواتكم عند الإفطار وفي الأسحار، لن تذهب سدى، ولن تضيع عند الله هباءً، وستكون -بإذن الله- وقود النصر القريب، ومشعل العزة المرتقبة: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ) [الروم: 4- 5].
إن الأمة -وهي تتذكر فتح الله لنبيه مكة بعد جهاد مرير وكفاح طويل- لهي ترتقب نصرًا من الله وفتحًا قريبًا، فبشر المؤمنين؛ فإن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، وإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
إن نصر الله قريب، وإن كل نفس تُقتل، وكل نفس تُسجن، وكل نفس تُشرد وتؤذى، فإنما هي توقد شمعة في طريق النصر، وتضع لبنةً في بناء صرح الأمة المنصورة: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
نسأل الله الذي جلّت قدرته، الذي فتح لنبيه البلد الحرام، أن يعز المسلمين والإسلام، وأن يقر أعيننا بفتح بلاد الشام، إنه على ذلك قدير.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم.