الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | فيصل سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
في مثل هذه الأزمات العصيبة والمصيرية التي يمر عليها العالم الإسلامي اليوم يتلذذ أقوام بوصف الأمة بالضعف والمهانة، ويتفكهون بزرع هذه الأوصاف في القلوب، غير متيقظين إلى أن من أسباب هذا الضعف هو بث الهزيمة في النفوس وتنشئة الأجيال على سلوكياتها والتطبع بأنماطها. إن هذا الصنف من الناس سلبي الإرادة؛ فهو لا يجيد إلا النقد غير المجدي، أو التشاؤم غير المفيد، وتراه أبعد ما يكون عن ميدان العمل الجاد، والعطاء المثمر، كما أنه يتوهم كثيرًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الخافض الرافع، الباسط الرازق، القوي المتين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد:
فيا معاشر المسلمين: اتقوا الله فيما تعلنون وتسرون، فإن الله يوصيكم بالتقوى فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
أيها الأحبة في الله: في مثل هذه الأزمات العصيبة والمصيرية التي يمر عليها العالم الإسلامي اليوم يتلذذ أقوام بوصف الأمة بالضعف والمهانة، ويتفكهون بزرع هذه الأوصاف في القلوب، غير متيقظين إلى أن من أسباب هذا الضعف هو بث الهزيمة في النفوس وتنشئة الأجيال على سلوكياتها والتطبع بأنماطها.
إن هذا الصنف من الناس سلبي الإرادة؛ فهو لا يجيد إلا النقد غير المجدي، أو التشاؤم غير المفيد، وتراه أبعد ما يكون عن ميدان العمل الجاد، والعطاء المثمر، كما أنه يتوهم كثيرًا من العراقيل التي تحول دون نتاجه لأمته ومجتمعه، وربما يصل الأمر ببعض هؤلاء أن تتحول قطرات المطر في الصباح الباكر تجعله يفكر طويلاً في ذهابه إلى عمله، وقد لا يذهب.
لن أسهب طويلاً في وصف في هذا الصنف؛ لأن من العجيب كما يبدو لي أنه صنف يعي هذه الصفات في قرارة نفسه، ويعلم وجودها فيه، غير أنه مهزوم بسببها.
ولنبحث معًا -أيها الأفاضل- في بعض أسباب الهزيمة النفسية وعلاجها، علنا نتحسس الداء، ونجد الدواء.
السبب الأول: ضعف التوكل على الله تعالى، الذي كرّر علينا الأمر بالتوكل عليه في كتابه فقال : (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)، وقال سبحانه: (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ)، فإذا ما ملأ المؤمن قلبه بالتوكل على الله لم يبق للجزع في قلبه موضعًا، ولا للاضطراب في نفسه مكانًا، بل تراه ثابت الجنان، واثق الخطى، يعمل للدنيا كأنه سيعيش أبدًا، ويعمل للآخرة كأنه سيموت غدًا.
توكل على الرحمن في الأمر كله | فما خاب حقًّا من عليه توكلَ |
وكن واثقًا بالله واصبر لحـكمه | تفز بالذي ترجوه منه تفضلاً |
السبب الثاني: الفراغ الروحي، فإن الروح إذا لم تجعل لها جدولاً عمليًا يخدم الإنسان فيه كل من تجب عليه خدمته، انشغلت هذه الروح بأوهام الهزيمة والضعف، وأصبحت هشة تشرب كل خبر، وتصدق كل نبأ، فكلمة تميل بها يمينًا وكلمة شمالاً.
أخي الحبيب: إن الحقوق كثيرة، فاشغل نفسك بتأدية كل حق لصاحبه، تجد نفسك في غاية الأنس والسعادة، فأهلك في حاجتك، وبلادك في حاجتك، وأمتك في حاجتك، فتأمل كيف تزيد هذا الحقوق من قوة الأمة إذا هي أُدِّيت، وما والله ما ضعفت الأمة إلا بعد أن فرطنا في أداء حقوق بعضنا مع بعض، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ". رواه مسلم.
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً: فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟! قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَ سَلْمَانُ". رواه البخاري .
السبب الثالث: عدم اليقين بنصر الله تعالى، وضعف الإيمان بقدرته، وإنما أتى ذلك من الجهل بعظمته، وقلة تدبر كتابه العزيز، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وقصر النظر في كل حادثة تقع، حتى يظن بعض المنهزمين نفسيًّا أن كل قضية كبرى تحدث بأنها هي نهاية المسلمين وفيها هلاكهم، ألم يقرأ من دبت الهزيمة في أوصاله قول الله تعالى: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وقوله سبحانه: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، ألم يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ". رواه البخاري.
فلنوقن بأن النصر لمن نصر الله لا لمن حاربه وحارب أولياءه، ولنؤمن بأن العاقبة لأهل التقوى، لا لأهل الفجور والمنكرات، ولنجزم بأن أهل الحق ظاهرون حتى يأتي أمر الله.
السبب الرابع: التعلق بالدنيا، والمبالغة في حب البقاء فيها، ومحاولة التلذذ بكل ملذاتها، وبالمقابل نسيان الآخرة، وما أعد الله فيها من النعيم للمتقين، والجحيم للكفرة والمجرمين، فذلك التعلق وهذا النسيان لا شك أنهما يوديان بالمرء في حفر الحرص على هذه الدنيا، حتى يشعر بأنه لابد أن يبقى فيها بلا موت، ويحس بأن كل صيحة عليه وعلى أمواله، حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه، فيا بؤس من تعلق قلبه بالدنيا وهي دار الغرور والفناء، ونسي الآخرة وهي دار البقاء والقرار: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
هي القناعة فالزمها تعش ملكًا | لو لم يكن منها إلا راحة البدن |
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها | هل راح منها بغير القطن والكفن |
السبب الخامس: قلة العلم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف لم تهزمه أعاصير الكفر، ولم تزده في نفسه إلا ثباتًا ويقينًا، إلى أن استعذبت ألسنة العرب والعجم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلم تكن الأحزاب لتقهره، ولم تكن المغريات لتثنيه، بل سار على طريق ربه -عز وجل- إلى أن أقر الله عينه بأمته في الدنيا، وسيقر الله عينه بها في الآخرة، لتكون أكثر الأمم دخولاً الجنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟! أُمَّتِي هَذِهِ؟! قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ". رواه البخاري.
أيها المسلمون: لننبذ عن أنفسنا الهزيمة المقيتة، فليست خليقة بأمة كأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ملأ ضياؤها مشارق الأرض ومغاربها، وأصبحت شامة بين الناس بجميل أخلاقها وحسن منهجها، فالأمة اليوم أحوج ما تكون لأفراد أقوياء في سواعدهم ونفوسهم وعقولهم وعتادهم، لتكون بهذا كله حصنًا منيعًا يحول دون طمع الأعداء، ويحجب دون نظرات الحاقدين، ويحبط كيد المغرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
أستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مجيب دعوة المضطرين، وناصر عباده الموحدين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فما من أزمة تمر إلا وينبغي أن تذكرنا بذنوبنا وتقصيرنا في حق الله وحق خلقه -كل خلقه- حتى البهائم، يقول الله -تبارك وتعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فلنرجع إلى الله تعالى، ولنتب إليه، ولنكثر من الاستغفار والتضرع لله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شر الكوارث والحروب، وأن يحفظ على المسلمين أمنهم ودينهم وأعراضهم وقوتهم، ولنقلع عن الذنوب والمعاصي، ولنأخذ على يد الظالم والعاصي، بالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، ولنرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى أن يكشف الغمة عن ديار الإسلام، وأن يجعل مكر السوء بأهله.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا، أن تعز الإسلام وتنصر المسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قلوبنا، وَتَجْمَعُ بِهَا أمرنا، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثنا، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائبنا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدنا، وَتُزَكِّي بِهَا أعمالَنا، وَتُلْهِمُنِا بِهَا رُشْدنا، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتنا، وَتَعْصِمُنا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ أَعْطِنا إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ، وَرَحْمَةً ننَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.