السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إنما تسمو النفوس ويفوح شذاها، وترتقي الأرواح وتصفى من أوضارها، وتخضع القلوب وتحلق في أفيائها؛ كلما أقبلت على ربها، وازدلفت إليه، واهتبلت الفرص الكريمة السوانح لبلوغ رضوانه، فتوجهت إليه -سبحانه- بقلوب عامرة بالإيمان، نابضة باليقين، متجردة من صوارف الحياة الدنيا، قاصية عن مهابط المادة ووحل الشهوات، فاستغلت الفرص الكريمة، والمنح العظيمة ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُمًّا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لا نزال في رياض رمضان، نرتع فيها، ونتفيأ ظلالها، ولا نزال -تفضلاً من مولانا- نرتبع ربيعها ونرتشف رحيقه، فلنأخذ إلى الخيرات أهبة السير، ولْنخِفَّ نحوها خُفُوفَ الطير.
معاشر الصالحين: إنما تسمو النفوس ويفوح شذاها، وترتقي الأرواح وتصفى من أوضارها، وتخضع القلوب وتحلق في أفيائها؛ كلما أقبلت على ربها، وازدلفت إليه، واهتبلت الفرص الكريمة السوانح لبلوغ رضوانه، فتوجهت إليه -سبحانه- بقلوب عامرة بالإيمان، نابضة باليقين، متجردة من صوارف الحياة الدنيا، قاصية عن مهابط المادة ووحل الشهوات، فاستغلت الفرص الكريمة، والمنح العظيمة.
وأنتم ترون -معاشر الصالحين- أن الليل والنهار يتراكضان كتراكض البريد، يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
فهذا شهركم الكريم قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، وبدت شموسه على أطراف النخيل، كيف لا وقد شارف على الانتهاء ولم يبق منه إلا القليل!! وهو شاهد على المحسن بإحسانه، وعلى المسيء بمخالفاته وعصيانه، فالسعيد من عمر أوقاته بطاعة ربه، وتزود فيه بصالح الأعمال، فيا فوزَ من أطاع فيه ربه! قد ادخرت حسناته، ويا خسارة من عصا فيه مولاه! قد انقضت لذاته.
فاستغِلوا -رحمكم الله- المواسم قبل انقضائها، والأعمار قبل انتهائها، وإن مِن أرفع هذه المواسم قدْرًا العشر الأخيرة من رمضان، فإنها من أيام الله المباركة التي امتن الله بها على عباده؛ ليستبقوا الخيرات، وليعظم تنافسهم في الباقيات الصالحات، وليستدركوا ما فات.
إخوة الإيمان: بما أنَّنَا في العَشْرِ الأواخِر من هذا الشهر الزاهر، فإن المقام يقتضي منا التنبيه على فضيلة هذه العشر، وما ينبغي للمؤمن أن يتحراه فيها؛ حتى لا تفوته نفحاتها القدسية، ولحظاتها النورانية.
من ذلكم ما جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وفي صحيح مسلم أيضًا قالت: "كان -عليه الصلاة والسلام- يجتهد في هذه العشر ما لم يجتهد في غيرها". أي: كان يخص خاتمة هذا الشهر بأعمال لا يعملها في العشر الأولى ولا الوسطى، من ذلكم إحياؤه الليل، ونعني به تطويل تهجده، والزيادة فيه، حتى إنه كان -عليه الصلاة والسلام- يخلط العشر الأولى والوسطى بصلاة ونوم، فإذا كان العشر الأخير شمر وشد المئزر -صلى الله عليه وسلم-.
وورد أنه -عليه الصلاة والسلام- "إذا دخلت ليلة أربع وعشرين لم يذق غمضًا"، أي: لم ينم له جفن. ورجّح جمع من الأئمة الأعلام أن المراد بإحياء الليل في العشر إحياء غالبه ومعظمه؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-، وهي من أعلم الناس بحياته الخاصة: "ما أعلمُه -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة كاملة حتى الصباح".
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر -وهذا أمر نغفل عنه جميعًا- إيقاظه لأهله، أي زوجه وولده، ذكرانهم وإناثهم، فقد خرّج الإمام الطبراني من حديث علي -رضي الله عنه-: "أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يوقظ أهله في العشر الأواخر، وكل صغير وكل كبير يطيق الصلاة من أهله".
بل كان ذلك دأبه المستمر -صلى الله عليه وسلم-، وهدي صحبه من بعده، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يطرق باب فاطمة -رضي الله عنها- وعليٍّ ليلاً فيقول لهما: "ألا تقومان فتصليان؟!".
وكان يوقظ -عليه السلام- عائشة -رضي الله عنها- إذا قضى تهجُّدَه وأتمَّه وأراد أن يوتر؛ حتى يشركها في فضل الختام.
ورغَّب -عليه الصلاة والسلام- في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه لإتمام الإيقاظ.
وفي الموطأ أن عمر -رضي الله عنه- كان يصلي من الليل ما يشاء، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله، يقول لهم: "الصلاةَ الصلاةَ"، ويتلو قوله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132].
أما غالبية المسلمين في هذا الوقت يكونون قد فرغوا من الأفلام ومن المُسلسَلات التي هي في الحقيقة مُسلسِلات وأغلال، يكونون قد فرغوا من البرامج التي فيها ترويع المسلمين، والسخرية من المسلمين، وهي المسماة بالكاميرا الخفية، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن ترويع المسلمين ولو على سبيل المزاح، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر شد مئزره، والصحيح في معنى ذلك اعتزاله نساءه، وبهذا فسّره السلف من أمتنا، وقد ورد صريحًا في حديث أمنا عائشة -رضي الله عنها- وهو أنه -صلى الله عليه وسلم-: "لم يؤْوِ إلى فراشه خلال العشر حتى ينسلخ رمضان"، أي: ينتهي.
وعن أنس -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا دخل العشر طوى فراشه، واعتزل نساءه"؛ وذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان غالبًا ما يعتكف العشر كلها، والمعتكف ممنوع من قرب النساء بالنص والإجماع، يقول ربنا: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة:187].
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر الإكثار من الغسل، والتطيب باستعمال أحسن أنواع الطِّيب في الليالي التي يرجى فيها ليلة القدر، فقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- "كان يغتسل بين كل أذانين، كل عشاءين، في العشر الأواخر". أي بين المغرب والعشاء.
قال ابن جرير: "وكان السلف يستحبون الغسل كل ليلة منه"، وكان الإمام النخعي الفقيه يغتسل في العشر الأواخر كل ليلة، وكان أيوب السختياني -رحمه الله- يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس الجديد، ويستعمل البخور.
وقال حماد بن سلمة: "كان حميد الطويل -وهو من رجال البخاري- يلبس أحسن ما عنده ويتطيب في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر".
وهذا الطيب للرجال خاصة، أما النساء فلا يجوز لهن -أي: اللاتي يحضرن لصلاة الجماعة- لا يجوز لهن أن يتطيبن؛ إذ السنة في حقهن أن يخرجن تفلات غير متطيبات؛ وذلك منعًا للفتنة.
إخوة الإيمان: ولا يكمل تزيين الظاهر بلباس وطيب إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة وترك العصيان، فإن تزيين الظاهر مع خراب الباطن يعد مقتًا مبينًا، يقول ربنا -تبارك وتعالى-: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26].
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
مِن هديه -صلى الله عليه وسلم- في هذه العشر الاعتكاف، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله"، أي: كانت سنته الدائمة المستمرة.
وفي عامه الأخير اعتكف -صلى الله عليه وسلم- العشر الوسطى والأخيرة؛ وذلك استعدادًا منه -صلى الله عليه وسلم- للقاء ربه منزل الكتاب عليه.
وإنما كان يعتكف في العشر التي تكون فيها ليلة القدر؛ قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه والتفرد بذكره ودعائه.
وكان -عليه الصلاة السلام- يخصص مكانًا ضيقًا في مسجده يختلي فيه عن الناس، فلا يخالطهم إلا في صلاة الجماعة، ولا يشتغل بهم؛ ولذلك كان الأفضل للمعتكف الانفراد عن الناس والتخلي عنهم.
وإنما يشرع الاعتكاف في المساجد الجامعة لئلا تترك بسببه الجمع والجماعات؛ لأن الخلوة والعزلة إذا قطعت عن صلاة الجماعة خرجت عن الهدي الصحيح، فقد سئل سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يشهد الجمعة ولا الجماعة، فقال متوعدًا: "هو في النار، هو في النار".
وأقل الاعتكاف يوم وليلة على الصحيح من أقوال أهل العلم، على أن يكون المعتكَف مع بزوغ الفجر، أي مع طلوع الفجر، كما فعل -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخرج من المسجد إلا لقضاء حاجته، أو تجديد طهارته.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله سرًّا وجهرًا، آمين، آمين. والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أوضح لأوليائه إلى الجنة سبيلاً، وأرشدهم إلى العبادة التي أنزلها على نبيه جملة وتفصيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يكون الإخلاص فيها دليلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي حثّه ربه على القيام فقال له: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل:2]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
معاشر الصالحين: يكفي هذه العشر فضلاً وشرفًا أن اختصها الرب الكريم الرحمن بليلة القدر، تلك الليلة التي تفوق العبادة فيها عبادة ألف شهر، إنها ليلة الشرف العظيم، التي يُفْرَق فيها كل أمر حكيم، وإنها لَحَرِيَّةٌ بالتعظيم والتكريم.
وقد خُصِّصت ليلة القدر بتعظيم الثواب بمقدار لا يُبلَغ قدرُه في أي وقت آخر، فقد جعلها الله خيرًا من ألف شهر، أي: العبادة فيها خير من عبادة ثلاثٍ وثمانين سنة! ولم يقل: إنها تساوي ألف شهر، بل قال: هي خير من ألف شهر! ولهذا ذهب غير واحد من أهل العلم أنها خير من الدهر كُلِّه، وأن الأعمال فيها يعظم ثوابها بتلك النسب الفائقة.
يقول ربنا منبهًا على عظم قدرها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:1-3].
ليلة القدر ليلة عظَّم الله قدرها، وشرف أمرها بإنزال كلمته المتممة فيها، ورسالته الخاتمة الجامعة، إنها ليلة لا مثل لها من الليالي، إنها ليلة العمر بحق، فهي ليلة فاق قدرها الأقدار، وعمت رحمة الله فيها المقصرين والأبرار.
فيا الله! ما أبركها من ليلة! وما أجلها مِن مكرمة! مَن أدركها فقد حاز المنة، ومَن فاتته فاته ما لا عوض عنه.
قال الإمام مالك -رحمه الله-: بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراه الله أعمار الناس قبله -أي: أعمار الأمم قبله- فكأنه عليه الصلاة والسلام- تقاصر أعمال أمته، أي: رآها قصيرة بالنسبة لأعمال الذين سبقونا، تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، تصديقًا من ربنا لوعده لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5].
قال الإمام النخعي -رحمه الله-: "العمل في هذه الليلة خيرٌ من العمل في ألف شهر، والله يضاعف للعامل فيها من الأجور مثل مضاعفة العامل في ألف شهر".
وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن قامها -أي ليلة القدر- إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي المسند عنه -صلى الله عليه وسلم-: "من قامها ابتغاءها -أي: طالبًا لها- ثم وقعت له -أي: صادفها- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر منه".
لليلةِ القـدْرِ عـند الله تفضـيلُ | وفي فضائلِها قـد جاءَ تنـزيلُ |
فجدَّ فيها عـلى خـيرٍ تـنالُ به | أجْرًا فلِلْخَيْر عند الله تعجـيل |
واحرص على فعل أعمالٍ تُسَرُّ بها | يوم المَعَادِ ولا يَـغْرُرْكَ تـأميل |
فكم رأينا صحيحَ الجسـم ذا أملٍ | في ليلةِ القـدرِ لم يبلغه تنويل |
فتُبْ إلى الله واحذر من عـقوبته | عـن كُلِّ ما فيه توبيخٌ وتنكيل |
ولا تغُرَّنَّـكَ الدنيـا وزُخْرُفُـها | فكُلُّ شيءٍ سوى التقوى أباطيل |
قيل للإمام الضحاك: أرأيت النّفساء، والحائض من النساء، والمسافر في حاجته، ألهم نصيب من ليلة القدر؟! قال: "نعم، كل من تقبل الله عمله في صيامه فسيعطيه نصيبه من ليلة القدر".
إخوة الإيمان: إن المعول على قبول العمل ليس مجرد الاجتهاد، وإن الاعتبار في بر القلوب لا بمجرد عمل الأجساد، وهنا أفتح قوسًا مهمًا بعد ذكرنا بر القلوب، فكثير من الناس يشكون قسوة قلوبهم، أو بمعنى آخر يأتي واحد ويقول: لا أجد قلبي عند الذكر وعند العبادات، وسبب ذلك وجود الحاجز والمانع، وهو المعبر عنه في لغة القرآن بالران، قال -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
وقال بكر بن عبد الله في معنى قوله -تعالى-: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق:23]، قال: "الذي يمشي ببدنه على الأرض وقلبه معلق بالله تعالى".
ولكن العبد منا مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، وفعل الصالحات، والاجتهاد في المبرات، ويزداد التحري لهذه الليلة الفاضلة بالأوتار من العشر، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما خرجه الإمام البخاري: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر".
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى". يعني من الليالي العشر.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: أخبرني عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان -أي: اختصم رجلان-، فقال: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ليلة القدر ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى".
إنها صورة من صور العظمة، أرأيت مكانتك -أيها الإنسان- عند ربك؟! أرأيت قدرك عند سيدك وموجدك؟! ينزل عليك ملائكته الكرام؛ حتى يحصل الاتصال بعالم النور، وحتى يحصل لك السرور، فإن كنت أنت غافلاً عن ربك فربك ليس بغافل عنك، سبحانه جل في علاه!!
وأرجى الليالي لإدراكها ليلة السابع والعشرين، لحديث عبد الله بن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله: إني شيخٌ كبير عليل يشق عليّ القيام، فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "عليك بالسابعة". وإسناد هذا الحديث على شرط البخاري.
وقد كان سيدنا أبي بن كعب -رضي الله عنه- يحلف على ذلك توثيقًا وتصديقًا، فقد أخرج الإمام مسلم وغيره أن أبي بن كعب قال: "والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، والله إني أعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة صبيحة يوم سبع وعشرين".
وأماراتها -أي: علامتها- أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، وهي ليلة باقية إلى يوم القيامة، لم ترفع على الصحيح؛ ففي المسند، عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: كنت أسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها، فقلت له ذات يوم: أخبرني عنها؛ أهي في رمضان أم في غيره؟! قال: "بلى؛ هي في رمضان"، قلت: تكون مع النبي ثم ترفع حين يقبض، أم هي إلى يوم القيامة؟! قال: "بل هي إلى يوم القيامة"، قلت: في أي رمضان هي يا رسول الله؟! قال: "التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها".
وأود أن أنبه إلى مسألة مهمة: بعض الناس يقولون: إنهم مطالبون فقط بالفرائض، وأنا أقول: نعم؛ مَن أدى الفرائض فقد أبرأ ذمته، وأدى مهمته؛ ولكننا نعلم يقينًا أن الوفاء بهذه الشروط عسير، أو قل: شبه متعسر، إلا ما رحم ربي، خصوصًا في هذه الأعصر، أعصر الفتنة، فأينا -يا أيها الأحباب- تمَّتْ له في يوم صلاة المودعين المقبلين الخاشعين على ربهم؟! أينا صَلّى صلاة الإحسان: "واعبد ربك كأنك تراه"؟! أينا تيسرت له هذه الصلاة؟! أينا صام صيام المتقين؟!
ومن هنا؛ أي: نظرًا لتقصيرنا في حق الفرائض؛ شرعت التطوعات في ديننا؛ رحمة من ربنا بالغة، ونعمة من لدنه سابغة؛ لأنه هو البر الرحيم.
وهي -وإن سميت تطوعات- فهي في الحقيقة باعتبار حالنا متممة للفرائض، فينسحب عليها شبه حكم الإلزام بالنسبة لأهل اليقين والاعتبار، وإن لها لَثِمارًا وآثارًا وأسرارًا يجمل بالمؤمن التقي أن يسعى إليها حثيثًا، وأن يراها عالية المنزلة، ولفرائضه مكملة.
يقول بعض أهل العلم: إنها في الحقيقة نوافل في حقّ من كمل فرائضه وأتمها، وجاء بها على وفاء، أما من نقص من أمثالنا فإن لها اسمًا غير اسم النوافل والتطوعات.
وأول فوائد النوافل -واحفظوا هذا جيدًا؛ حتى يحثكم على المجيء لكسب الطاعات-، لها فوائد ثلاثٌ كبرى، فائدة الجبر، وفائدة الاحتياط، وفائدة الترقي.
وأولها فائدة الجبر: أي جبر الخلل الحاصل بسبب التقصير في أداء الفرائض، فقد جاء في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإذا وجدت كاملة فبها، وإلا سئل عن تطوعه بما يجبر فرضه ويكمله".
ومن فوائد النوافل: أنها بمثابة الرصيد الاحتياطي الذي يواجه به المكلف يوم القيامة الخسائر الناجمة عن ارتكابه للعصيان والمخالفات.
ومن ثمار النوافل أيضًا: أنها تهيئ المؤمن للترقي في معارج ربانية، ومرتبة المحبوبية، ومقام الولاية والكرامة، كما جاء في الحديث: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذتي لأعيذنه".
فلا تغتر أخي بقيامك بالفرائض، فإنها لا تخلو من النقائص، ولله در القائل:
أستـغفِرُ اللهَ مِـن صيامي | طولَ زماني ومِن صلاتي |
صـيامُنـا كُلُّـهُ خُروقٌ | صـلاتُنـا أيما صَلاتِ! |
مستيْقِظٌ في الدُّجَى ولكنْ | أحسَـنُ مِن يقْظتي سُباتي |
فلنستيقظ -يا عباد الله- من سِنة الغفلة، ولْنغتنمْ ما بقي من شهرنا، ولنترقب ليلة القدر، ولنسأله -سبحانه- فيها كما علمنا: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا".
ولنجعل بدل نومنا وغفلتنا اليقظة والسهر، وعوض الأفلام مناجاة الملك العلام، لنجد ذلك -إن شاء الله- إذا عظمت الأهوال، وذهلت المراضع عن أبنائها، وشابت الأطفال.
واستدركوا ما فاتكم من رمضان، فإنه سيد الشهور وأفضل الأزمان، واجتهدوا كي تصادفوا ليلة القدر، ليلة تمحى فيها ذنوب مَن أحياها، وتحط فيها خطايا مَن بيَّض بالإخلاص محياها.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تجعلنا من عتقائك من النار.