القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | صالح بن محمد آل طالب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
إن على السَّاسة وصُنَّاع القرار أن يُدرِكوا أن رُدودَ أفعال الشُّعوب طوفانٌ لا يُمكِن ضبطُه، وجحيمٌ مُتفجِّرٌ لا يُمكِن توقِّيه، وربما أفلَت الزِّمامُ، فلا كلمةٌ تُسمَع، ولا حِكمةٌ تنفَع، وبخاصَّةٍ إذا أُهينَت الأمةُ في رمزِها المُقدَّس. لذا على الحُكماء منعُ السُّفهاء، وعلى السَّاسة منعُ الذين يُشعِلون الحرائِق، ولن يقبَلَ أحدٌ في دينه عُذرًا. إننا نُنادي بالحوار والتفاهُم والتسامُح، ولكنَّ هذا كلَّه لا يُجدِي إذا بقِيَ أولئك الناسُ يتوارَثون إحَنَ القُرون، ويطوُونَ أفئِدَتهم على بغضاء ..
الحمد لله المُتفرِّد باسمِه الأسمَى، المُختصِّ بالمُلكِ الأعزِّ الأحمَى، ليس دونه مُنتهى ولا وراءَه مرمَى، وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأسبغَ على عباده نِعمًا عُمَّى، وبعثَ فيهم رسولاً من أنفُسِهم أنفَسُهم عُرْبًا وعُجمًا، والحمدُ لله كثيرًا كما يُنعِمُ كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، أرجحُ الخلائقِ عقلاً وعلمًا وحلمًا، وأزكاهُم نفسًا وفهمًا، زكَّاه ربُّه روحًا وجسمًا، وحاشاه عيبًا ووصمًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فالتقوى -أيها الناس- التقوى؛ لازِموها سرًّا وجهرًا، وأعِدُّوا لما يُنجِيكم يوم العرضِ على الله، فكلُّنا إليه صائِرون، وليس ثَمَّ سِوى حضرةِ النعيم، أو عذاب الجحيم، والمُوفَّق من استنقَذَ مُهجَتَه، وأعدَّ للأمر العظيم عُدَّتَه، جبَرَ الله صدعَ قلوبنا، وغفرَ عظيمَ ذنوبنا، وهدانا لما يُنجِينا من عقابه، ويُقرِّبُنا زُلفَى إلى رحمته وبابِه.
أيها الناس: البِقاعُ والبشر، والكتب والكلِم قد تتساوَى في أصلِها المُجرَّد، فإذا أُضِيفَت فإنها تكتسِبُ قيمتَها من قيمة ما أُضيفَت إليه، وأعظمُ وأجلُّ وأخطرُ إضافةٍ هي الإضافةُ إلى الله الأعظم؛ فكتبُ الله تاجُ الكتب، وبيوتُ الله أطهرُ البيوت، وكلامُ الله أعظمُ الكلِم، ورُسلُه هم غُرَّة البشر وزينةُ الدنيا.
اصطفاهم الله خيارًا من خِيارٍ، وعصَمَهم قبل النبوَّة وبعدها، وتمثَّلَت كمالات البشر في ذواتِهم، وسُمُوُّ الإنسانية في أرواحهم، وأقومُ السُّبُل في هداياتهم.
رُسُل الله وأنبياؤُه هم خيرُ من وطِئَ الثَّرى، وأكرمُ وأبرُّ الورَى، لا سبيلَ للجنة إلا بطاعتهم، ولا نجاةَ من النار إلا بتصديقهم، ولا وصولَ إلى الله الأجلِّ الأكرم إلا بإرشادِهم. عظمةُ الرسول من عظمةِ من أرسلَه، وتكريمُه من تكريمِ من بعثَه، ومقامُهم عند الله عظيمٌ.
وإن اللهَ يغارُ على أنبيائه ويُدافِعُ عنهم، كم من أُمم أُبيدَت بدعواتِ أنبيائِها عليها، وكم من ديارٍ قُلِبَت وصُعِقَت ورُجِفَت بسبب تكذيبهم لرُسُلهم واستِهزائهم بهم، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 10].
وما زالَ الأنبياءُ والرُّسُل لهم المكانةُ العُظمى في الشرائع والرسالات، كلما جاء رسولٌ صدَّق الرسولَ الذي قبلَه، وبشَّر برسولٍ بعده، واجتمعَت بشاراتُ الرُّسُل لأقوامهم برسولٍ يأتي من بعدهم اسمُه: (أحمد)، هو خاتمُهم وإمامُهم، وفي الخير مُقدَّمُهم، وإن كان آخرَهم في الزمان -صلى الله عليه وصلَّى على أنبيائه ورُسُله وأتباعهم أجمعين-.
أيها المسلمون: تقصُر العباراتُ والمدائحُ، وتغيضُ المعاني والقرائِح أمام عظمة النبي الكريم والرسول العظيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشميِّ القُرشيِّ العربيِّ، ولن تبلُغ شأوَه المنابِر، ولن تُوفِيَ قدرَه المحابِر. وليست السيرةُ الشريفةُ بحاجةٍ إلى تعريفٍ؛ فالقدرُ عالٍ والشأْوُ منيفٌ.
كيف ترقَى رُقِيَّك الأنبياءُ | يا سماءً ما طاوَلَتها سماءُ |
أيها الناس: إن العالَم مِن أزَله إلى أبَده لم يعرِف بشرًا مُصفَّى المعدِن، زكِيَّ السيرة، بهِيَّ الخلائق، صلبَ الجهاد، شديدَ التعلُّق بربِّه مثلَما عرَفَ في النبي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يعرِف العالَمُ إنسانًا شقَّ طريقَ الكمالِ، ومهَّده للناس تمهيدًا، ودعاهُم إليه أحرَّ دعوةٍ، وشرحَ معالِمَه لهم أرقَّ شرحٍ، وتحمَّلَ في ذات الله ما لم يتحمَّل أحدٌ مثلَما عرَفَ عن النبي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وقد يعرِفُ طرفًا من عظمة هذا الرسول العظيم من درَسَ فلاسِفة الأخلاق والاجتماع، وساسَةَ الشعوب، وقادةَ الجيوش، ومُؤسِّسي الحضارات والدول، فإذا فرغَ من هذا الدرسِ المُستوعِبِ لعُظماء الأرض، وانتهى من استِعراضِه لمُبرِّزين من قادَة البشر وقفَ بكلِّ ما لديه أمام أمجاد الإنسان الكامِل: محمدِ بن عبد الله، ليرى أن عباقِرة الأرض تلاشَوا في سَناه، وأن آثارَهم تضاءَلَت أمام هُداه، وأن امتيازَهم على أقرانِهم تحوَّل صفرًا أمام شمس النبوَّة الطالِعة وهالتِها الرائِعة.
إن حقيقةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوق ما يصِفُ الواصِفون، والأيادي التي أسدَاها تجعلُ كلَّ مُؤمنٍ مدينًا له بنورِ الإيمان الذي أضاءَ نفسَه وزكَّاها: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى: 52، 53].
إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- جاء في أعقابِ نُبوَّاتٍ أعقبَ الشيطانُ ثمارَها، وكانت بعثتُه كلمةَ السماء الأخيرة، فكانت ضمانًا يمنعُ العِوَج، ويقِي من الانحراف، لتصُونَ مُستقبَلَ الإنسانيَّة الطويل، وفي القرآن الكريم: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل: 63، 64].
لقد وُجِدت دياناتٌ مُفتعلَة، ومُعتقَداتٌ نسبَت إلى الله ما لا يليقُ، وقوَّلَته ما لم يقُل، وبلغَ من رُسوخ هذه وتلك أنها قاوَمَت الحقَّ أشدَّ مُقاومةٍ لما جاءَها، ولم يكسِبِ العالَمُ منها إلا الشقاءُ، لذلك قال الله -عز وجل-: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 32- 34].
إن بعثةَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كانت ميلادًا للحق في أبهَى صُوره وأزهى أشعَّته، وكان شُرُوقُ هذا الحقِّ إيذانًا بزوالِ الحيرَة السائِدة والشقاء المُخيِّم.
لقد جاء الإسلام ليُعلِنَ عن إلهٍ واحدٍ خلقَ كلَّ شيءٍ، وتنزَّه عن مُشابهة كل شيءٍ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى: 11، 12].
والتوحيدُ المُطلقُ هو الحقُّ الذي غالَى به الإسلام، وبسَطَ آياته في كل أُفُق، لقد كانت بعثةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنقاذًا من هذا الإلحاد وعواقِبِه الشائنة، ورفعًا ودفعًا للظلم واستِعباد الإنسان للإنسان، وتلك أولَى آيات الرحمة العامَّة التي بُعِثَ بها صاحبُ الرسالة العُظمى، يلِي ذلك العملُ والسلُوكُ؛ فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- جاء إلى الأجناسِ كافَّةً بدينٍ يأمُرُهم بالمعروف، وينهاهُم عن المُنكَر، ويُحِلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّمُ عليهم الخبائث. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- صناعةٌ إلهيَّةٌ لم تتكرَّر، فسُبحانَ من أبدعَ محمدًا.
أيها الناس: وليس المقامُ اليوم مقامَ إحاطةٍ بمكانةِ الرسُل وفضلِ خاتمهم -صلى الله وسلم عليهم أجمعين-، ولا إثباتًا لصِدقِ نُبُوِّة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وصحَّة رسالتِه؛ فهذا مما لا يٌجادِلُ فيه إنسانٌ يحترِمُ عقلَه، وقد توافَرَت اليوم أسبابُ المعرفة بطرقٍ هائِلةٍ. ولكن ثمَّةَ وقفاتٍ وإشاراتٍ حول ما شغلَ الناسَ من إساءةٍ لجَنابِ نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ومَساسٍ بديننا الخاتِم مما جاشَ في الصدور، وغلَت منه القلوبُ كما تغلِي القدور، ولا خيرَ في أمةٍ تُؤذَى في نبيِّها فلا تغضَب، ولا خيرَ في غضبةٍ لرسول الله تُؤدِّي إلى غضبٍ من الله ورسوله.
ويستحيلُ أن يحقِدَ على محمدٍ رجلٌ له ثقافةٌ مُحترمةٌ أو عقلٌ بصيرٌ. لماذا يحقِدُ عليه؟! ألأنَّ كتابَه يصِفُ الخالقَ الأعلى فيقول: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [البقرة: 255].
محمدٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم وبارَك بأبي هو وأمي ونفسي- يتبَعُه اليوم مليارٌ وخمسمائة مليون من البشر أو يزيدون، هو أحبُّ إليهم من أنفُسهم وأموالهم وأولادهم والناس أجمعين، أنفُسهم لنفسَه فِداء، وأعراضُهم لعِرضِه وِقاء، كلُّهم يقول بقولِ حسَّان:
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضِي | لعِرضِ مُحمَّدٍ منكم وِقاء |
وسُؤالٌ لمُدَّعي الحُرِّياتِ: لمصلَحةِ مَن تُثارُ هذه النَّزَغات؟! ولمصلَحةِ مَن تُصادَمُ الحضاراتُ والثقافات؟! ومتى كانت حُريةَ التعبير تعنِي العُدوانَ بلا حدودٍ أو قيودٍ؟!
ألا فأين حُرية التعبير عند إنكار مذبَحة اليهود قبل عقود والتي فرَضَتها السياسةُ أكثرَ من حقائق التاريخ؟! لن يجرُؤ فردٌ في العالم أن يُنكِرَها أو يُشكِّك فيها حتى تُلاحِقَه مُنظماتُ العالَم وحُكوماتُه ومحاكِمُه وساسَتُه، أما الرسولُ العظيمُ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فالحديثُ عنه مُباحٌ، وحريةٌ يكفَلُها القانون! ما لكم كيف تحكُمون؟!
إن على السَّاسة وصُنَّاع القرار أن يُدرِكوا أن رُدودَ أفعال الشُّعوب طوفانٌ لا يُمكِن ضبطُه، وجحيمٌ مُتفجِّرٌ لا يُمكِن توقِّيه، وربما أفلَت الزِّمامُ، فلا كلمةٌ تُسمَع، ولا حِكمةٌ تنفَع، وبخاصَّةٍ إذا أُهينَت الأمةُ في رمزِها المُقدَّس.
لذا على الحُكماء منعُ السُّفهاء، وعلى السَّاسة منعُ الذين يُشعِلون الحرائِق، ولن يقبَلَ أحدٌ في دينه عُذرًا.
إننا نُنادي بالحوار والتفاهُم والتسامُح، ولكنَّ هذا كلَّه لا يُجدِي إذا بقِيَ أولئك الناسُ يتوارَثون إحَنَ القُرون، ويطوُونَ أفئِدَتهم على بغضاء لا قرارَ لها نحو الإسلام ورسوله وأمَّته.
أين القانون الدولي والمُعاهدات الدولية التي تُجرِّمُ الدعوةَ إلى الكراهية والتمييز العُنصريِّ، وبخاصَّةٍ حين تُشكِّلُ تحريضًا مُباشِرًا على العُنف؟!
إننا نُطالِبُ العالَمَ الذي يدَّعِي بمجموعه وضعَ الضوابِط لحماية الجميع أن يُصدِرَ ميثاقَ شرفٍ، ويسُنَّ قانونًا مُلزِمًا يُحرِّمُ ويُجرِّمُ الإساءَة للأنبياء والرُّسُل، ورسالاتهم السماوية.
وقد نادى بذلك خادمُ الحرمين الشريفين في كل محفلٍ، وسعى إلى مدِّ جسورِ الحوارِ بين أتباع الديانات السماوية، والثقافات الإنسانية، حتى تكون العلاقةُ بين أُمم الأرض مبنيَّةٌ على أُسس التعارُف والعدالَة والمرحمة، ويتحوَّل العالمُ من صِدام الحضارات إلى حوارِ الحضارات، والدعوةِ إلى الحقِّ بلا صدٍّ ولا تشويهٍ، فهذا مبدؤُنا مبدأُ الإسلام، فيه احترامُ الأنبياء كلِّهم، والإيمانُ بهم كلِّهم، وأتباعُهم، ونشرُ الخير والأمن والسلام.
وفي وصفِ الله لنبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، قد قلتُ ما أسلَفتُ، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: قيل لأحد السَّلَف: إن فلانًا اغتابَك. قال: "لقد رماني بسَهمٍ لم يُصِبني، حتى جئتَ أنت وحملتَه إليَّ".
فأنبياءُ الله -عليهم السلام- لم يزَالوا يُؤذَون ويُستهزَأُ بهم وبأتباعهم، ويحدثُ هذا في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الحجر: 11].
ولئن بدَا ذلك من أدنى البشرية قَدرًا وأسوئهم حظًّا في الدَّارَين فإن الواجبَ على من سمِعَ بشيءٍ من ذلك أن لا ينشُرَه ولا يحدِّثَ به إلا لذِي سُلطةٍ قادرٍ يمنَعُ المُتجاوِزَ.
ولقد ضاعَ شِعرُ المُشركين في هِجاء سيد المُرسَلين مع كثرته وتغنِّي القِيان به، وماتَت تلك القصائِدُ في حينها حين لم يحفَل بها المُسلِمون ولم يتداوَلُوها بينَهم، ولم يعُد لأكثرها ذِكرٌ في دواوين الشِّعر وأخبار العرب.
دينُكم -يا عباد الله- ظاهرٌ، ونبيُّكم مكفيٌّ ومنصورٌ، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33]، ولن يلحَقَ مقامَ الأنبياء شيءٌ لتطاوُل مُلحِدٍ سفيهٍ أو كافرٍ مخذولٍ، والله تعالى يقول: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95].
فمقاماتُ الأنبياء محفوظةٌ، وأقدارُهم عزيزةٌ مصُونةٌ، وإنما المُتطاولُ هو المسكينُ الخاسِر: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3].
ولعلَّ في هذا مرهمًا لنفوس المكلومين، وترطيبًا لقلوب المُؤمنين الغَيورين، ترشيدًا لغيرتهم المشكورة، ونُصرتهم المأجورة.
أيها المُسلِمون: في حادِثة الإفك المشهورة قال الله -عز وجل-: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11]، وفي حادِثة هذه الأيام هاجَت مشاعِرُ طالَما كانت بارِدةً في نفوس بعضِ المُسلِمين، التفَتَت أنظارٌ غيرُ مُسلِمةٍ لهذا الدين ونبيِّه الكريم، وحرَّكَت ماءً راكِدًا لدى المُسلمين وغيرهم.
ولو أحسنَ المُسلِمون استِغلالَ هذه الحادِثة لكان بها فتحٌ وعِزٌّ، وإن أساؤُوا التعامُل معها صارَت نكسةً وتنفيرًا.
إن الخيريَّةَ الموصوفة بها هذه الأمة خيريةٌ مطلقةٌ لا تتجزَّأ، فيجبُ على المُسلمين إظهارُ خيريَّتهم في رُدود الأفعال؛ فليس من الخيريَّة قتلُ الأبرياء، وتدميرُ المُمتلكات، ولا الغوغائية في التعاطِي مع الأحداث.
ولو أظهرَ المُسلِمون زيادةً في التمسُّك بهَديِ نبيِّهم واقتِفاءِ أثره، ونشرِ سِيرتِه والتعريفِ به؛ مُستَفيدين من المواقع العالمية للتواصُل -كما فعلَ كثيرٌ من المُسلمين مشكورين- لكان هذا أبلغَ ردٍّ على المُتطاولين، ولبادَرَ خُصومُهم لمنعِ تكرارِ الإساءَة لما يُشاهِدونَه من نشاطٍ دعويٍّ مُضادٍّ؛ فإن هذا الردَّ هو الأنكَى لمن أساء، وهو مُعاملةٌ بنقيضِ القصد.
أما الانجِرارُ وراء كل من يُريدُ بهذه الأمةِ شرًّا إما بإشغالِها عن حالِها الذي ابتُلِيَت به في هذا الزمان، أو لاستِفزاز الجالِيات المُسلِمة في بلاد الغربِ إلى أفعالٍ غير مسؤولةٍ ليُبرِّؤوا بها طردَهم، كما تُنادِي الأحزابُ اليمينيةُ في تلك البلاد، أو لتكون تلك الأفعالُ مُبرِّرًا لمنع ومُحاصَرة كل نشاطٍ دعويٍّ في بلاد الغرب، بعدما أحسُّوا بأن الإسلام حاضِرٌ في كل زوايا بلادِهم، وأن المُستقبَل له.
إن على المُسلمين أن يُدرِكوا أنهم ليسوا في حاجةٍ إلى حوادِث جديدةٍ ينحسِرُ بها مدُّ الإسلام وتضيعُ مكاسِبُه. إن على المُسلمين أن يكونوا على مُستوى من الوعي والنُّضج، وأن لا تتكرَّر الأخطاءُ، وإن الحياةَ للإسلام أوقعُ على خُصومه أحيانًا من الموت له.
إن نُصرةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تعنِي الخروجَ عن سُنَّته، ولا عملاً يُخالِفُ هديَه، إن حادثةَ الإساءة يجبُ أن تزيدَ الأمةَ تمسُّكًا بدينها، وحمِيَةً لنبيِّها، وعودةً لاتباع سُنَّته في الرضا والغضب، والضعف والقوة: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60].
اللهم صلِّ على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.