الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
بعد هذه المراحل الخمس أحب أن أذكر حقيقة دينية هي أن الأمة الإسلامية قد تمرض ولكنها لا تموت، إن الأمة الإسلامية قد تبلى ولكنها تجدّد، وفعلا، مع أودية الموت التي وجد المسلمون أنفسهم داخلها، ومع أسباب التلف التي أحاطت بهم من كل ناحية، كان هناك من يقاوم بجبروت هذا الزحف: بالقلم، باللسان بالتربية بالتوجيه، بالحكم، بكل ما لديه من طاقة، ولم يمت العملاق، لم يمت الإسلام، بل الذين يرقبون الأحداث من الأوربيين يعلمون أن العالم الإسلامي يوشك أن يتمخض عن ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن العقل الإنساني ينضج مع طول الدراسة وكثرة التجربة، والإيمان بالله ينمو ويستوي -أيضا- مع طول الدراسة، وكثرة التجربة، وملاحظة القدر الأعلى فيما يكون من شئون الناس، وفيما يقع لهم من ضحك أو بكاء، ومن هزيمة أو نصر، ومن رفعة أو ضعة.
ومن هنا أمرنا رب العالمين أن ندرس التاريخ، وأن نستخلص العبر منه، وأن ننتفع بما كان من أحوال الناس، وبما كان من سنن الله في هذه الأحوال، وذلك حتى ينضج العقل والإيمان معا، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
وعندما قرعت مسامعي أنباء الوحدة المرتقبة بين "مصر وليبيا" شعرت بشيء من الرضا، ولكنني -في الوقت نفسه- قلت: ينبغي أن نعود إلى ماضي أمتنا الطويل نقف بإزائه وجها لوجه، نتفرس في ملامحه، ونتعمق في معالمه، ونرجع منه بعظات تصون غدنا، وتحدو مستقبلنا، وتسدد خطانا إلى الغاية المنشودة؛ حتى لا نرتجل تصرفا نندم عليه، وحتى لا يعبث بنا الأعداء كما عبثوا بنا قديما.
وفى ساعة من طواف العقل بالماضي وجدت أن هذا الدين الذي نعتنقه سلخ من عمره -المديد إن شاء الله- أربعة عشر قرنا، وأن هذه القرون الأربعة عشر يمكن أن تقسم على خمس مراحل متميزة، وبداهة لا يمكن لبشر أن يتحدث عن الإسلام في خطبة، ولكنني أتابع خطا بيانيا يمثل الانحدار والارتفاع في هذه المراحل الخمس؛ لكي نعود على عجل بعد سياحة سريعة إلى حاضرنا لنواجه يومنا وغدنا ببصيرة مفتوحة، وفكر مستنير.
إن المراحل الخمس التي مر بها تاريخنا خلال أربعة عشر قرنا يمكن أن توجز فى: عصر النبوة والخلافة الراشدة، عصر الدولة الأموية، عصر الدولة العباسية، عصر الدولة العثمانية، عصر الانحلال والتمزق والفرقة والتقسيم الذي بدأ منذ الهجوم الاستعماري على الدولة التركية وإسقاط الخلافة العثمانية، وتحويل المسلمين في أرجاء العالم إلى أمة ممزقة لا يجوز أن تجتمع على دينها، ولا أن يرتفع لإسلامها علم واحد. هذه هي المراحل الخمس في تاريخنا الطويل.
فإذا نظرت إلى عصر النبوة وجدت أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- كما قلت بإيجاز، ربَّاه الله -جل جلاله- ليربي العرب به، وربى العرب به ليربي بهم الناس أجمعين؛ فاستطاع خلال حياة الرسالة -التي لا تتجاوز ثلاثا وعشرين سنة- أن يوحِّد الأمة العربية وكانت قبائل نافرة، وطباعا شرسة غليظة، وقوى مبعثرة هنا وهناك.
استطاع هذا النبي الكريم -بوحي الله، وبإشراق النبوة، وبصفاء الرسالة- أن يجمع العرب قبل أن يموت، فما تركهم إلا وهم أمة الحق روحها، والإخلاص هو الذي يدور في جهازها العصبي، والانطلاق لله هو الذي يحدوها تتحرك به أو تسكن، فجاءت دولة الخلافة، وكانت دولة التكوين للنواة الإسلامية، دولة الصراع مع الباطل، دولة التطبيق لمبادئ الإسلام وتعاليمه.
ويلاحظ أن دولة الخلافة منحت المسلمين حقوقا رحبة، وفهم المسلمون لأول مرة في تاريخ الدنيا أن الحاكم -بلغة عصرنا- موظف عمومي، أجير للناس، يكدح لهم، ويأخذ مرتبه نظير عرق جبينه الذي يتصبب وهو يخدم الأمة، ويسعى في مصالحها، وليس له حق مقدس، وليس له حق السمع والطاعة إلا فيما يرضي الله.
وعرف عن دولة الخلافة الراشدة أنها وفرت للفرد امتداده المطلق، وعزته الموفورة، فكان الأمير يقول للناس: "أيها الناس: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني". وعرف في تاريخ الدولة الراشدة أن المال كان لمصلحة الأمة جمعاء، فما توافر في بيت ليحتكر أو يستبد به أحد، وما ضاعت أسرة أو قبيلة من الناس وفى الأمة مال موفور. كانت الأمة الإسلامية تمثل الرشد السياسي في العالم يومئذ، ولم يعرف في تاريخ الأولين والآخرين عدل سياسي أو اجتماعي كالعدل الذي توافر للأفراد يومئذ!.
إلا أن شيئا حدث يعتبره المؤرخون النقَدة عيبا للجماهير، إن الجماهير -أحيانا- تخطئ في استغلال الحريات الكثيرة التي تمنحها، وربما أسرفت في استعمال هذه الحرية إلى حد يسيء لها، وبعض الملاحظين يقول: إن العمال في "انكلترا" يستغلون السعة والمرح، والعدالة والأمانة، ووفرة الكرامة البشرية هناك، لإملاء مطالب شخصية.
قد يكون ذلك صحيحا أو خطأ، ليس هذا شأني ولا هو موضوعي، إنما الذي أوجه النظر إليه أن جماهير المسلمين في عهد الخلافة الراشدة عبَّت من الحرية حتى بطِرت، وبلغ من حريتها أنها زحفت على المدينة المنورة تريد أن تناقش الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بعض تصرفات نسبت إليه، وأيا كانت هذه التصرفات فما كانت تبيح فتنة ولا تسبب ثورة، ولكن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان خليفة راشدا، ما فكر في أن يستغل عصبيته، ولا أن يستثير أحبابه وأنصاره وأقاربه لضرب الثورة؛ أو بتعبير العصر الحديث لإطلاق الرصاص على المتظاهرين! لا، كان الرجل أعف نفسا، وأشرف طبعا، وأشد تقديرا لحريات الجماهير مما يتصور الناس، فقُتِل بهذه السياسة.
وجاء بعده علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فشغب عليه بعض المتنطعين من أتباع الإسلام، أو ممن يدعون التقوى والتوغل في العبادة من الخوارج وأشباههم، فكانت فترة حكمه التي قضاها في الخلافة، وهي خمس سنوات، فترة إعياء نفسي، وإرهاق عصبي، وتعب موصول، وكان أصدق ما قيل في علي بن أبى طالب وهو يذهب إلى ربه بعد أن قتل غدرا البيت الذي تمثلت به السيدة عائشة -رضي الله عنها- عندما بلغها مقتل علي:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا واسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى | كَمَا قَرَّ عَيْنًا بالإيابِ المسافِرُ |
استراح الرجل كما يستريح المسافر المتعب عندما يصل إلى بيته، ويلقى رحاله، ويريد أن يطمئن إلى يومه قبل غده.
المهم أن الدولة انتهت، وجاء بعدها حكم سياسي استبدادي، وهو ما يقع غالبا في أعقاب الحريات الكثيرة التي لا تحسن الجماهير استغلالها، فجاء الحكم الأموي، وتميز هذا الحكم بأمور تُحْسَبُ له، وأمور تحسب عليه.
فأما ما يحسب له أنه مضى في طريق التحرير والفتح، واستطاع أن يمد رقعة الإسلام شرقا وغربا إلى أبعد ما وصلت إليه تقريبا، وصل إلى "الصين" شرقا، وإلى "فرنسا" غربا، وتوغل في "فرنسا" وفى جنوب "سويسرا"، وتميزت الدولة الأموية أيضا بأن الطابع العربي كان واجهتها وصبغتها.
وأما ما يحسب عليه فقد وقع نوع من الاستبداد السياسي، ومع الاستبداد السياسي حدثت أخطاء أطاحت بالحكم الأموي، ذلك أن طبيعة الاستبداد السياسي حصر الحكم في أسرة، وحصر الملك في أفراد معينين، وبناء طبقات أو بيوتات تعيش على هامش هذا الملك العضوض، ثم الافتيات على الناس في الأموال وفى الحريات، ثم التنكر للكفايات الكبيرة عندما تظهر هنا وهناك، ثم انضم إلى هذا أن الواجهة العربية تجهمت للأجناس الأخرى، وهذا خطأ، فإن العروبة في الإسلام ليست قرابة جنس، ولا عرقا دمويا يصل بين جماعة من الخلق، إن العروبة في الإسلام لسانا أو لغة هي وعاء الوحي، فمن أجاد اللغة ودخل في الدين فهو عربي مسلم، ولو كان أبوه أمريكيا.
هذه التصرفات أنشأت حالة من البلبلة، فإن كبار القادة لم يجدوا التكريم الذي ينبغي أن يوفر لهم، فـ "محمد بن القاسم" -شاب في العشرين من عمره- قاد جيشا فتح به "السند"! لو أن هذا القائد في بلد كفرنسا لجعلته مثل "نابليون"، لو أنه في انجلترا لجعلته مثل "ولسن"، ولكنه في بلد تأكل الكفايات، أو في جو يحتقر العبقريات، فقال الرجل متمثلا وهو يُعَذَّبُ:
أَضَاعُوني، وأيَّ فَتَىً أضَاعُوا؟! | لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ! |
وفاتح الأندلس رجع مهانا! لِمَ؟ لأن الحكم الاستبدادي يعطى منافعه من حوله، ويرمي بالمغارم على الآخرين، ولا يكرم إلا من يخضع له، أو يجعل ذمته أجيرة للتافهين الذين يحكمون.
المهم أن الدولة الأموية انهارت بخيرها وشرها، وجاءت الدولة العباسية، وهذه هي المرحلة الثالثة، وهى مرحلة تحتاج إلى شيء من الدراسة، لماذا؟ لأن هذه الدولة فتحت أبواب الترجمة من أقطار الدنيا، واطلاع المسلمين على ثقافات الأجانب وعلى أنواع المعرفة التي تشيع بين الناس، شيء مطلوب، ولكن في حدود، وإلى نطاق معين لا يعدوه.
إن الإسلام دين الفطرة السليمة، ودين العقل الراشد، وهو بهذه الطبيعة الفطرية الفكرية مفتوح لجميع الثقافات، ومفتوح أمام جميع الحضارات والأجناس، ولكن على أساس التمحيص، والنقد، ومَيْز الصواب من الخطأ، على أساس ألا تطرح ما عندك وتعجب بما عند غيرك وإن كان خرافة!.
والذي حدث أن فلسفة اليونان والسريان، وسخافات الرومان، ومن إليهم من أهل الأرض، دخلت بلادنا، واختلطت مع الثقافة الإسلامية اختلاطا أساء إليها؛ ثم وقعت الحضارة الإسلامية فريسة بين نوعين من التصرفات: نوع المنحلين الذين يبحثون عن الشهوات واللذات، ونوع المتزمتين المعزولين ممن تركوا الدنيا تسير وفق هواها، وهم المتصوفون الذين أخذوا جانبا في صوامعهم أو بيوتهم وأخذوا يعبدون الله جانبا!.
وانتهزت الصليبية العالمية المتربصة هذه الميوعة الفكرية، وهذا الاضطراب النفسي، وهجمت على بلاد الإسلام هجوما اكتتبت أوربا كلها في فرقه، وأسهمت جميعها في إمداده بالقوى المالية والعسكرية التي تعين عليه، فكان الإنكليز إلى جانب الفرنسيين إلى جانب الأسبان والطليان إلى جانب النمساويين،كان هؤلاء جميعا في صف واحد، وانطلق هذا السيل المجنون يولي وجهه شطر بلادنا، ويحاول -خلال مائتي سنة- أن يدمر ما أمامه، وأن يسقط أعلام التوحيد تحت سنابك خيله! وانتهت الحروب بعد كَرٍّ وفَرٍّ، وهزائم وانتصارات، بأن خسرت أوربا هذه الجولة، وعادت كسيرة النفس مقهورة لا تلوى على شيء.
وكان ينبغي أن يفكر المسلمون يومئذ، وأن يقفوا على أعتاب الماضي؛ ليدرسوا ما الذي حدث، ما الذي سبب لهم تلك النكبات؟ ما الذي أنقذهم أخيرا من هذه الورطات؟ إلا أن العرب كانوا في حال من البلبلة والهوان جعلتهم لا يحسنون التصرف، فنهض الجنس التركي بالخلافة الإسلامية، وأشرف على مستقبل المسلمين في القارات الثلاث المعمورة يومئذ: آسيا وأفريقيا وأوربا.
وهنا نجد أنفسنا أمام المرحلة الرابعة من التاريخ الإسلامي، هذه المرحلة تميزت بأمور خطيرة، فإن الجنس الحاكم جنس تركي تعصب لتركيته لغة ودما، وبذلك وقعت فجوة غائرة عميقة بين الأتراك وبين الإسلام والجنس العربي والأجناس الأخرى. لِمَ؟ لأن الإسلام عربي في مصادره التربوية والتوجيهية والاجتماعية والسياسية، القرآن عربي ولا يمكن أن يتترك، والسنة عربية لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عربي، ومصادر الثقافة الإسلامية عربية، وأحد أمرين: إما أن ينسلخ القائد الذي يقود المسلمين من تركيته؛ ليكون عربيا ويقود العرب ويقود الإسلام والمسلمين، وإما أن يتخلى عن القيادة للقادرين عليها من العرب، وهذا ما لم يفعله الترك.
ولذلك بدأ المسلمون في أنحاء الأرض يضعفون ماديا وأدبيا، وبدأت مصابيح الثقافة تنطفئ في مدائن الإسلام وقراه، وفي الوقت الذي أخذ فيه عصر الإحياء يصعد بالأوربيين في سلم الترقي، كان الحكم التركي يهبط بالمسلمين في سلم التردي، وبعدت مسافة الحضارة بين المسلمين من ناحية وبين الأوربيين من ناحية.
صحيح أن الأتراك كانوا مسلمين متعصبين للدين، يحبونه ويسفكون دمهم من أجله، ولكن العاطفة وحدها لا تكفي في نصرة عقيدة، ولا في إقامة دولة، ولا في بناء حضارة؛ لقد رووا أن جنديا تركيا كان ينام يوما، فصحا في جوف الليل فوجد قدميه تتجهان إلى نافذة فيها مصحف، ففزع الرجل ووقف طول الليل على قدميه شاهرا سيفه يقول: مصحف شريف! الرجل خاف على نفسه من الله، أو ظن أن اتجاه أقدامه إلى المصحف كفر! فكانت النتيجة أن استيقظ طول الليل وترجم عن حبه أو عن إكرامه للمصحف بهذا الأسلوب. كان الأتراك متدينين، وعندما أعيد الأذان إلى بلادهم من بضع سنين كانوا يبكون في الشوارع! لكن العاطفة الدينية لا تكفى، بل يجب مع العاطفة أن يكون هناك عقل نيِّر، وعلم واسع، وتجربة حصيفة، وتمكُّن من الدنيا راسخ، يجب أن يكون مع العاطفة ما يعين على نجاحها.
وما يستطيع الترك -وهم متعصبون لجنسهم ولغتهم- أن يكونوا القادة الحقيقيين للعالم الإسلامي، وكان الأوربيون يدرسون هزائمهم، فلما هجموا على الأتراك وعلى العالم الإسلامي كله كانت الكفة في جانب الهاجمين. حقا استمات الأتراك وغير الأتراك من الأجناس المحكومة في الدفاع وقتل كثيرون.
من مائة وأربعين سنة قرر الحاكم الفرنسي في "الجزائر" أن يستولي على أجمل مسجد في العاصمة، مسجد "كينشاوة"، وأن يحوله إلى كنيسة، وفعلا تحرك سلاح المدفعية الفرنسي ومعه سلاح المهندسين وهجما على المسجد، وقتل وراء الأبواب نحو أربعة آلاف عربي وهم يقاومون هذا الجنون من التعصب والحقد! ولكن تمت الهزيمة وتحول المسجد إلى كنيسة، ولم يستطع الأتراك أن يصنعوا شيئا، وكل ما حدث أنه بعد استقلال الجزائر حول المسلمون الكنيسة مرة أخرى إلى مسجد، هذا كل ما أمكن صنعه.
لكن الذي حدث أن الهجوم الاستعماري في هذه المرحلة الخامسة والأخيرة استطاع أن ينتهي إلى رمي الخلافة في البحر، وإسقاط علم الإسلام في المجال السياسي العالمي، وتحويل المسلمين إلى أمة يتيمة ليست لها أبوة ثقافية، ولا عسكرية، ولا حكومية، تحمل آلام الإسلام، أو تترجم عن مآربه ورغائبه.
جاء عصر المرحلة الخامسة -عصر التمزيق-، وهذا العصر كتب فيه على المسلمين أن يعيشوا في بلادهم حيث كانوا؛ لكن على أساس أن لا يكون الرباط الإسلامي منظورا إليه في تأسيس قرابة مشتركة بينهم وبين غيرهم.
المسلم في "الفلبين" إذا ذُبح يُذبح، مَن يبكي له؟ لا أحد إلا بعض الأفراد الذين في نفوسهم عاطفة، وفى قلوبهم بقايا من الشعور بالأخوة الإسلامية، ومن الإحساس بقول -الرسول عليه الصلاة والسلام-: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى".
المرحلة الخامسة تتميز بأن المسلم حيث كان يدرس تاريخ بلده دون أن يصل هذا التاريخ بالتاريخ الإسلامي، فالمسلمون في "نيجيريا" -وفى نيجيريا أربعون مليونا من المسلمين- قد يدرسون شئون بلدهم، فإذا درسوا الجزيرة العربية -إذا حدث أن درسوها- فإنهم يدرسونها كما يدرسون الجزائر البريطانية، أما أنها منبت محمد -صلى الله عليه وسلم- ومصدر الإسلام وأساس الرباط الذي يجمع مسلمي نيجيريا بمسلمي مصر بمسلمي السعودية بمسلمي الهند، فلا!.
في هذا العصر -عصر التمزيق- يسمح للفلسفات والمبادئ الفكرية أن تنتعش وأن تنتشر، وأن تجد من يدعو لها، ولكن لا يسمح للكيان الإسلامي أن يتلاقى.
أشْبهَ المسلمون رجلا ضرب بالنار، وشتت أولاده في بلاد كثيرة، وقيل لكل منهم: احذر أن تلتقي بأخيك، بل قيل لكل منهم: إذا حاولت -حيث كنت- أن تشير إلى الماضي قتلناك! هذه سياسة أوربا الاستعمارية نحو العالم العربي والإسلامي.
بعد هذه المراحل الخمس أحب أن أذكر حقيقة دينية هي أن الأمة الإسلامية قد تمرض ولكنها لا تموت، إن الأمة الإسلامية قد تبلى ولكنها تجدّد، وفعلا، مع أودية الموت التي وجد المسلمون أنفسهم داخلها، ومع أسباب التلف التي أحاطت بهم من كل ناحية، كان هناك من يقاوم بجبروت هذا الزحف: بالقلم، باللسان بالتربية بالتوجيه، بالحكم، بكل ما لديه من طاقة، ولم يمت العملاق، لم يمت الإسلام، بل الذين يرقبون الأحداث من الأوربيين -على اختلاف ألوانهم- يعلمون أن العالم الإسلامي يوشك أن يتمخض عن نهضة كبيرة، وأن المسلمين يشبهون جذوة نار تحت تراب، لابد أن ينفخ هذا التراب ثم تكشف الجذوة عن دفئها، وحرارتها، وتألقها.
الأمة الإسلامية بدأت تنتعش، ومظاهر الوحدة التي تبدأ، ومرحلة الوحدة التي لمحنا بشائرها الآن نستقبلها بحفاوة؛ لأنه لا معنى لبقاء الخطوط التي وضعها المستعمرون من إنكليز وفرنسيين وطليان وغيرهم، لا معنى لبقاء هذه الفرقة.
لكن ينبغي أن نعلم أنفسنا أنَّ نبض الوحدة بين العرب وبين المسلمين كلهم هو الدين، وأن أعداءنا سوف يستميتون ليصلوا إلى أحد أمرين: إما أن يقتلوا هذه الوحدة فلا توجد أبدا، وإما أن يجعلوها وحدة بلا دين فتموت تلقائيا؟ ماتت الوحدة بين مصر وسوريا، لأن بعض السوريين فرض أن يكون الإسلام بعيدا عن الوحدة، فلما وضع دستور الوحدة لم يجئ في نصوصه ما يشير إلى أن الإسلام دين الدولة!.
أما الآن فنحن في مصر قررنا أن الإسلام دين الدولة، وقررنا إلى جانب ذلك أن الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع، وإخواننا في ليبيا قرروا كذلك أن يكون الإسلام دينا للدولة، وتعاونوا مع بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين أن يجعلوا الشريعة قانونا، وبدأ العمل العلمي في هذا.
إذن نحن نستبشر أن توجد وحدة في إطار الإسلام، تنبع من روحه، وتتدفق إلى غايته، وتلف الجماهير حول راية التوحيد وهى مطمئنة إلى وفائها وبذلها وتضحيتها.
يجب أن نرقب بدهاء وبصيرة ويقظة دسائس أعداء الإسلام -وما أكثرهم!- إنهم سيستميتون إما لمنع الوحدة، أو لجعلها تولد سقطا أو جنينا ميتا بأن تكون بعيدة عن الإسلام.
يجب أن نذود هؤلاء الوحوش عن وحدتنا، عن تراثنا، عن ماضينا وحاضرنا، عن شرفنا في الدنيا ووجاهتنا عند الله.
إن الإسلام هو ديننا الذي نبيِّض به وجوهنا يوم أن نلقى ربنا، وهو أيضا مصدر قوتنا عندما نلقى أعداءنا في هذه الأرض، والعصر عصر العقائد المتناحرة، يخدعكم ويكذب عليكم من يقول إن النصرانية تركت نفسها، إن اليهودية تركت ذاتها، إن الهندوكية تجردت أو تمردت على تعاليمها؛ إن هذا العصر هو عصر العقائد، استيقظت اليهودية بكل ما لديها من أحقاد تاريخية وخرافات دينية، واستيقظت كذلك جميع النزعات والديانات الأخرى.
فالقول بأن الإسلام يضعف في وقت يقوى فيه غيره، أو ينحى جانبا فلا يتولى الزمام، بينما تولت الزمام في أجناس الأرض الأخرى عقائدها وأديانها، فهذا ما لا يسمع وما لا يقبل، واحذروا على دينكم الخطَّافين من حمَلة الأقلام، والدساسين من رجال السياسة، الذين يحاولون أن يجعلوا من وحدتنا وحدة ميتة بإبعادها عن الإسلام، وعقائده، وشرائعه.
ديننا إيمان ونظام، عبادة ومعاملة، عقيدة وشريعة، بتعبير العصر الحديث: دين ودولة. وعلى هذا سِرْنا، ونحن ندعو الله أن يبارك الخطى الطيبة التي بدأت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أيها الإخوة: وأنا جالس هنا استمعت إلى القرآن المذاع، وأظنه مذاعا من الإسكندرية؛ لأني أظن الخطبة هناك، استغربت موقف المسلمين من كتابهم، القارئ صوته جيد وله استعراضات فنية واضحة، المستمعون ما أظن أن المعاني خطرت ببالهم؛ لأني عندما استمعت إلى قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27].
جرى خاطري في هذه الدنيا كيف أن خضرتها ستجف، وأن حركتها ستهمد، وأن عمرانها سيخرب، وأن ستارة ستنهي الرواية الطويلة العريضة بكل ما فيها من ضحك وبكاء، وفرح وحزن، ويحتكم بعد ذلك البشر إلى ربهم (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7].
لكن هذا الخاطر الذي مر بي طارده وطواه صوت الناس الذين يستمعون؛ لأنه صوت مجنون، كانوا يحيون القارئ طبعا، أما المعنى فلا.
لو أن إنسانا عبر عن المعنى بصوت لتأوه من الألم؛ لأن كون الموت يعدو على الحياة، ويفض أعراسها، ويحولها إلى مآتم، مسألة محزنة. لكن لا تأوُّه!.
يجب على أمتنا أن تغير موقفها من القرآن، القرآن ليس كتاب أغان يتلوَّى القارئ به ويطرب المستمع إلى نغماته وترانيمه، القرآن لغير هذا نزل، القرآن كتاب حياة، الكتاب الذي نقرؤه على الموتى يقول الله فيه (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيَّاً وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ) [يس:70]. وأخيرا أيها الإخوة: فإن لي رجاء أبسطه إلى كل إنسان منكم، إن الحب في الله عاطفة يباركها رب العالمين، وفى الحديث الشريف: "ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدها حبا لصاحبه".
وأنا أعرف أن الله سترني فجعل ناسا كثيرين يحبونني، لكنى أرجو أن يختفي تقبيل اليد من هذا المسجد، أرجو بإلحاح ألا تُقَبَّلَ يد، أرجو أن نشغل بختم الصلاة، أرجو أن يمتنع تقبيل اليد، إنني أتقدم بهذا الرجاء، ولي أمل أن ينفذه كل مسلم في هذا المسجد، فإن تقبيل اليد تحول إلى دلالة أكرهها ويكرهها المسلمون، ليس في ديننا كهانة ولا تسلط على الناس بأي معنى من المعاني، ثم ما يعرف أحد منا ما مصيره عند ربه، ولا ما مكانه عنده، فنرجو أن ينتهي هذا التقليد.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].