القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
هذه الكلمات وقعت في نفس يعقوب -عليه السلام- من أبيه إسحاق -عليه السلام- أندى من الماء البارد على فؤاد مُحتر، وجد فيها متنفسًا لصدره، ونزعت نفسه إلى منبت الأهل وبلد الآباء والأجداد، فاستودع أبويه بدموع ثخينة، وشيعاه بدعوات طيبة كريمة، وخرج مخترقًا الصحراء، مسريًا بالليل سائرًا بالنهار، يرفعه نجد ويخفضه وخد، ولقاء خاله نصب عينيه، وكلمات ..
الحمد لله الذي قصّ علينا القصص في كتابه الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وأطيعوه واحمدوه واشكروه، وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، يمكّن لكم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والعاقبة للمتقين.
عباد الله: سنتحدث في هذا اليوم بمشيئة الله عن نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام جميعًا-، وهذه القصة لم تذكر في القرآن الكريم مفصلة، وإنما وردت في كتب التاريخ والتفسير والسير.
قال ابن قتيبة في كتاب المعارف: تزوج إسحاق رفقا بنت نامور، وهي بنت عمه، فولدت له عيصو ويعقوب توأمين، ولما تقدم بإسحاق السن ورق جلده شكا يعقوب -عليه السلام- أخاه عيصو إلى والده، وقال: يا أبت: إني أشكو إليك عيصو أخي، وأستنصرك على توعده وتهديده، فإنه منذ رفعتني بعين رعايتك ودعوت لآلي بالبركة وتنبأت لي بنسل طيب وملك موروث وعيش لين حسدني لهذه الدعوات وحقد علي، وأنكر العلامة التي توسمتها فيّ، فراح ينالني بقارص كلامه، ويتوعدني ويهددني، حتى زال ما بيني وبينه من ود، وتقطع ما كان يجمعنا من رحم، ثم هو فوق ذلك كله يفاخرني بامرأتيه هاتين اللتين تزوج بهما من كنعان، ويكاثرني بما يرتقبه من أولاد يضيقون عليّ الرزق، ويزحمونني بمناكبهم في الحياة، وقد شكوت إليك لتحكم بيني وبينه بما وهبك الله من رأي حكيم وحلم راجح.
قال إسحاق -وقد أهمه ما رأى من القطيعة بين الأخوين-: يا بني: إنني كما ترى من هذه اللمة البيضاء -اللمة: الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن- والجبين المتغضن، والظهر المتقوس، أصبحت شيخًا متهدمًا، خذلتني قوتي، ووقفت بي الأيام على ثنية الوادع، وإنه يوشك أن يوفيني الأجل ويقطع ما بيني وبين الحياة من أسباب، ولا آمن عليك بعدي، أن يعالنك -أي يصارحك- أخوك بالعداوة، ويحسر لك اللثام عن بطش وكيد، وهو في منعة من شدة أسره -الخلق القوي-، وقوة خلقه، وفي حرز من أصهاره وذوي قرباه، وما أرى إلا أن تزمع رحيلاً إلى فدان آرام من أرض العراق، حيث خالك لابان بن بتويل، فابن على إحدى بناته -أي تزوجها-، فإنك تنال العز والشرف والمجد والمنعة، ثم عُد بعدها إلى هذه الأرض، وإنني لأرجو لك عيشًا أخفض من عيش أخيك -أي أفضل-، ونسلا طاهرًا خيرًا من نسله وولده، والله يكلؤك بعينه ويحفظك برعايته.
هذه الكلمات وقعت في نفس يعقوب -عليه السلام- من أبيه إسحاق -عليه السلام- أندى من الماء البارد على فؤاد مُحتر، وجد فيها متنفسًا لصدره، ونزعت نفسه إلى منبت الأهل وبلد الآباء والأجداد، فاستودع أبويه بدموع ثخينة، وشيعاه بدعوات طيبة كريمة، وخرج مخترقًا الصحراء، مسريًا بالليل سائرًا بالنهار، يرفعه نجد ويخفضه وخد، ولقاء خاله نصب عينيه، وكلمات أبيه ملء سمعه وبصره، وعناية الله ترمقه وترعاه، وكان كلما أتبعه السير وأضناه بُعد الشقة، تذكر الأمل الذي يرجوه والخير الذي يرتقبه، فيسهل الحزن وينقاد السير.
وطلع يوم تحرقت سمائمه الريح الحارة، وهبت سوافيه ذرات الرمل، ورمت الشمس الأرض بسهامها المحماة، فشق على يعقوب السير، وبعدت أمامه الشقة، وتلفَّتَ أمامه فإذا بصحراء ممتدة إلى حيث ينتهي البصر، ورمال لا معالم بها، فأدركه السأم، وأحس بالتعب، ووقف ساعة بين الإحجام والإقدام، أيواصل السير أم يؤثر العافية والراحة على هذا السفر الشاق ويقنع من الغنيمة بالإيمان؟! وفيما هو يفكر لمح صخرة تكتنف ظلاً، فدلف إليها ليجلس ساعة، يريح فيها جسمه ويبرد قدميه، وما أسند ظهره إلى الصخرة حتى أدركته سِنة فنام، ورأى في نومه رؤيا صالحة شدت من أزره، ورأى أن الله سيؤتيه عيشًا رضيًا، ويمنحه ملكًا واسعًا، ويرزقه نسلاً طيبًا مباركًا يورثهم الأرض ويعلمهم الكتاب، فقام من نومه منشرح الصدر وقد انفسحت أمامه رقعة الأمل، إذ رأى تعزيزًا لنبوءة أبيه، وبشيرًا بتحقيق أمانيه، وانطلق يعدو كالسهم مستأنفًا السير بعزم جديد، وبعد أن قضى أيامًا يطوي فيها الأرض، أشرف على سوادٍ رآه فعقد به حبل الأمل والرجاء، أن يكون هذا موطن خاله لابان، وخف مسرعًا، فوجد أن رجاءه لم يخب، فاستراحت نفسه، ورأى أغنامًا وطيورًا وشجرًا ورعاة، بعد أن فارق الصحراء ووصل إلى أرض إبراهيم -عليه السلام- التي بدأت فيها رسالته، وفي أرض خاله غايته التي يرجوها، والتي قطع في سبيلها الصحاري والقفار، ساجدًا شاكرًا وحامدًا، ومعترفًا بتوفيقه وهدايته، فلما وصل يعقوب الغريب سأل الناس متلطفًا: أفيكم من يعرف لابان بن بتويل؟! قالوا: ومن مِنا لا يعرف لابان صهر إسحاق الرسول؟! إنه عميد بيئته، وشهاب قومه، وصاحب هذه القطعان التي تسيل بها هذه البطاح، فطلب من يرشده إلى مكانه، فإذا بنته راحيل مقبلة تغدو، فرحبت به وانطلقت معه إلى منزل والدها.
وفيما هو في الطريق أحسن كأن اضطرابًا بفؤاده، أو كأن طائرًا طار من قلبه، أكان ذلك لرؤيته هذه الفتاة التي قد تكون أمله الذي يرجوه ونبوءته التي تنبأها له أبوه، وتأويل رؤياه التي رآها في الصحراء؟! أم كان قد اعتراه ما يعتري الطارق الغريب مقدمًا على أمر عظيم؟! قد يكون هذا أو يكون ذلك، ولكنه على كل حال ملك نفسه وأمسك بقوته ومشى بخطوات مطمئنة حتى التقى بخاله لابان، وما أن رآه حتى عانقه طويلاً، واغرورقت عيناه بالدموع فرحًا، ثم أحله من نفسه وأهله محلاً رفيعًا ومنزلة كريمة، ثم أفضى يعقوب -عليه السلام- بما أرسله أبوه، وما يرجوه من الإصهار إليه، وأنه قد رأى راحيل ابنته فحلت من قلبه منزلة رجا أن تكون له بعدها زوجًا، والسبب الكريم -أو النسب- الذي يربط بينه وبين خاله، فقال لابان: نعم ونعام عين -أي أفعل ذلك إكرامًا لعينك-، قد أجبتك إلى سؤالك وأعنتك على مبتغى آمالك، ولكن على أن تقيم عندي سبع حجج -أي سبع سنين- ترعى، تكون لك صداقًا فيما تريد، وأنت طوال هذا العهد يكنفك مني جناح، ويظلك قلب عاطف رؤوم، فقبل يعقوب هذا الشرط، وأخذ يرعى الغنم، والأيام تدهن له بمعسول المُنى وتحيي في نفسه بوارق الآمال.
كانت راحيل صغرى بنتي لابان، وكانت أختها ليا تكبرها في السن، وإن كانت تليها في اعتدال الخلق وحسن التقاسيم -أي الجمال-، ولم يكن في شريعة قومه أن يزوج الصغرى قبل الكبرى، ولكن نفسه لم تقبل أن تعيد يعقوب بن إسحاق عن راحيل، ومع ذلك فقد زوجه أولاً بنته الكبرى، وبعد سبع سنين أخرى زوجه ابنته الصغرى، ووهب لهما أمتين تخدمانهما، ولكنهما آسرت يعقوب بهاتين الأمتين، ومع الأربع -ليا وراحيل والأمتين- رزق الله -عز وجل- يعقوب -عليه السلام- اثني عشر ابنًا هم الأسباط.
ونكمل في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.
اللهم انفعنا بهدي كتابك الكريم، وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وأستغفر الله العظيم الجليل فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي يفرج هم المهمومين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه وإن كان يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم الصلاة والسلام جميعًا- لم يقص علينا قصته التي ذكرناها في القرآن الكريم إلا أنه بشارة إبراهيم الخليل وزوجته سارة مع ولده إسحاق كما في قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71]، وهبةُ اللهِ -عز وجل- إبراهيمَ، قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)[مريم:49]، وقوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء72 :73].
فيعقوب بشارة لإبراهيم من الملائكة، حيث أثبتوا له النبوة قبل خلقه، ثم إنهم جميعًا صالحون يعبدون الله -عز وجل-، يعملون الخير في الدنيا والآخرة بمشيئة الله تعالى.
وأكثر ما تجلت قصة يعقوب -عليه السلام- مع ابنه يوسف -عليه السلام- عندما رأى يوسف الرؤيا فعرف أن إخوان يوسف سيحسدونه ويكيدون له، ثم فعلوا بيوسف ما فعلوا، وصبر يعقوب وعدم تصديقه لهم، واستمر هذا الصبر مع شدة حزنه وألمه على فراق يوسف وثقته بالله بأن يوسف سيحفظه الله، ثم لحاق أخيه شقيقه به عند عزيز مصر، وزيادة حزنه وأسفه عليهما، قال تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف84 :86] .
ثم لقائه بيوسف عندما مكن الله ليوسف في الأرض، وذهابه مع كل أبنائه وأسرته إلى مصر، فتحققت رؤيا يوسف -عليه السلام- بعد زمن طويل، قال تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف99 :100].
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.