المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
كان في بني إسرائيل رجل صالح لا تفتنه زخارف الحياة عن الثقة بالله ورجاء ما عنده، ولم يلهِه التكاثر في المال والبنين، بل كان لا يملك إلا بقرة يأتي بها إلى الغيضة -وهي الأرض الخضراء- ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ونفس ثابتة فيقول: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر، وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات، وبقيت ..
الحمد لله رب العالمين، أحمده، يظهر الحق ويبطل الباطل وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- الذي أنعم عليكم بنعم وفيرة.
عباد الله: كان في بني إسرائيل رجل صالح لا تفتنه زخارف الحياة عن الثقة بالله ورجاء ما عنده، ولم يلهِه التكاثر في المال والبنين، بل كان لا يملك إلا بقرة يأتي بها إلى الغيضة -وهي الأرض الخضراء- ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ونفس ثابتة فيقول: اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر، وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات، وبقيت البقرة لليتيم، يرعى البقرة ويحدوه شعاع من الأمل ورثه من الصالحات الباقية لأبيه.
وقد كان من وجوه بني إسرائيل شيخ موسر، أمد الله في أسباب دنياه وأغناه ورزقه ابنًا وحيدًا تنحدر إليه بعد موت أبيه كل هذه الثروة الواسعة، ولكن بني عمومته حسدوه على هذا المال؛ إذ لا يجدون من المال قليلاً ولا كثيرًا، فتألبوا عليه فقتلوه، ثم طالبوا قومًا آخرين بدمه، فعندما وقعت هذه المشكلة لم يجد القوم ملجأ أمامهم إلا باب موسى -عليه السلام- يتحاكمون إليه ويلتمسون عنه إيضاح الخفاء.
سأل موسى ربه فأمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوه بلسانها، فيحيا فيخبر بقاتله، فضلت عقولهم، وظنوا أن موسى يهزأ بهم فراجعوه، فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، ولو أنهم ذبحوا أية بقرة عندما أمرهم لكانت كافية، ولكنهم بدؤوا يسألون عن صفاتها، فكلما سألوا ازداد وصفها بحيث لا تتوفر الصفة إلا في بقر أقل، حيث شددوا فشدد الله عليهم، وجعل البقرة لها صفات معينة حتى كادوا أن يعجزوا عن ذبحها، فاهتدوا إليها فلم يجدوها إلا عند ذلك اليتيم الذي بارك الله له في بقرته، فاشتروها منه بمال وافر، فذبحوها بعد حيرة طويلة وتردد كبير؛ قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة67 :71].
فلما ضربوا القتيل بجزء من البقرة أحياه الله فأخبر عن قاتله ثم توفاه الله -عز وجل-، وقد رويت قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة، لعل هذه الرواية أصدقها أو من أصدقها، ثم أنزل الله بعد ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74].
فهذه الآية تبيّن حال بني إسرائيل أهل الكتاب اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعقبها -عز وجل- بقوله للمؤمنين المسلمين: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة:75]، فالخطاب هنا للمؤمنين، أي بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم الميئسة أتطمعون أن يؤمن هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة!! فإنه لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم، فقد كان البعض منهم يسمعون كلام الله المنزل عليهم في التوراة، ثم يتأولونه على غير تأويله، ويبدلون معناه ويغيرونه من بعد ما فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة منهم ومعرفة بالمعنى والتأويل الصحيح.
ثم ذَكَرَ -عزّ وجل- صفة أخرى سيئة لليهود فقال: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [البقرة:76]، فهم إذا لقوا المؤمنين بالله وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه قالوا آمنا بأنكم على الحق، وأن محمدًا هو الرسول المبشر به، ثم ينافقون عندما يخلون ببعضهم، ثم ينكرون نبوته -صلى الله عليه وسلم- رغم معرفتهم بصدقها؛ لأنه مطلوب منهم اتباعه، ثم يقول الله تعالى: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة77 :78]، أي منهم من لا يحسن قراءة كتابهم التوراة، ويتحققوا ما فيها من دلائل لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال الله تعالى بعد ذلك: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة:79].
وبعد أن ثبتنا الله -عز وجل- بعض جناياتهم قالوا: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة80 :81].
وسنتحدث عن قصة أخرى لموسى مع الخضر -عليها السلام- حيث وقف موسى -عليه السلام- خطيبًا في بني إسرائيل يومًا، مذكِّرًا لهم بآيات الله بعبارات مؤثرة في النفوس، ففاضت العيون، ورقّت القلوب، ولما انتهى من قوله تعلّق بأهدابه رجل وقال: أي رسول الله: هل في الأرض من هو أعلم منك؟! قال: لا، فأوحى الله إلى موسى أن العلم أعظم من أن يحويه رجل، أو ينفرد به رسول، وإن في الأرض من خصّه الله بعلم أوفر وأكثر من علمه، فقال موسى: أي رب: أين مكانه لعلي ألقاه، فأتعلم منه؟! قال: تلقاه بمجمع البحرين، قال: اجعل لي علامة تدلني عليه، وآية ترشدني إليه، فقال له: آية ذلك أن تأخذ حوتًا في مكتل، فحيث فقدت الحوت تجده، فأخذ موسى للأمر عدته، واصطحب فتاه وحمله المكتل، ووضع الحوت فيه وجدَّ في السير إليه، ثم أذن للفتى أن يخبره إذا فقد الحوت، ولما بلغا مجمع البحرين في المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه موسى بالعبد الصالح الخضر أخذت موسى سنة فنام، وفي أثناء نومه نزل المطر فابتل الحوت وانتفض وسرت إليه الحياة ثم قفز إلى الماء، واستيقظ موسى -عليه السلام- ونادى فتاه: هيا نواصل السير، وأنسى الشيطان الفتى أن يخبر موسى ما كان من أمر الحوت، فتابعا السير حتى أدركهما الجوع، فقال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا -أي تعبنا من ذلك-، أخبر الفتى موسى ما كان من أمر الحوت، وأنه نسي أن يذكره، وما أنساه إلا الشيطان، عند ذلك لاحت لموسى إشارة الظفر، فقال: ذلك ما كنا نريد وننشد، هيا بنا نعود إلى هذا المكان ففيه غايتنا، ولما وصلا إلى حيث فقدا الحوت وجدا رجلاً نحيل الجسم، غائر العينين، عليه دلائل الصلاح والتقوى، قد سُجي بثوبه، وجعل طرفه تحت رجليه، وطرفه الآخر تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟! من أنت؟! قال: موسى، قال له الرجل: موسى نبي بني إسرائيل؟! قال: نعم، ومن أعلمك بهذا؟! قال: الذي بعثك إليّ، فعلم موسى أنه بغيته التي جهد في سبيل الوصول إليها، فتلطف موسى في القول والحديث والتواضع وقال له: هل تأذن لي أن أصاحبك وأتعلم من علمك الذي علمك الله إياه، قال له الخضر: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)[الكهف67 :68]، فسترى ظواهر عجيبة وأمورًا غريبة، وسترى أمورًا منكرة في ظاهرها وإن كانت حقًّا في باطنها.
ونكمل بمشيئة الله في الخطبة الثانية. وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه، وبما جاء فيه من قصص وعبر وسنة خاتم رسله. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي حثّ نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- على الاستزادة من العلم فقال له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه:114] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وازدادوا من العلم ومن التقوى.
عباد الله: لما قال الخضر -عليه السلام- لموسى -عليه السلام-: إنك لن تستطيع معي صبرًا، وإنك لن تستطيع أن تصبر على ما سيصدر مني من أفعال لم تألفها وتتجاوز معرفتك، قال موسى: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69] ، قال له الخضر: إن صحبتني أخذت عليك عهدًا وشرطًا أن تأخذ عدتك من الصبر والحزم ولا تسألني عن أي شيء أفعله حتى أخبرك أنا بحقيقته بعد أن تنتهي الرحلة، فوافق موسى على هذا الشرط، فسارا على الساحل، فمرت بهما سفينة في البحر، فطلبا من أهلها حملهما إلى حيث يذهبون، فلما رأوا السماحة في وجوههما حملوهما من غير أجر، وبالغوا في إكرامهما والحفاوة بهما، وبينما هما في السفينة وعلى حين غفلة من أهلها أخذ الخضر لوحين من خشبها فخلعهما، فهال موسى فعله، وأن يقابل إحسان أهل السفينة بالإساءة، وخشي أن يصيبهم الغرق والهلاك، فنسي عهده وشرطه، فصاح: أتعمد إلى قوم أكرمونا وأحسنوا إلينا فتخرق سفينتهم وتحاول إغراقهم؟! (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) [الكهف:71]، أي عظيمًا، فالتفت إليه الخضر، فما زاد أن ذكّره بشرطه بأن لا يسأله عن شيء فقال: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف:72]، عند ذلك أدرك موسى خطأه فاعتذر إليه وقال له: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا تحرمني من صحبتك، فقبل الخضر، فلما غادرا السفينة وتابعا السير وجدا غلامًا وضيئًا مع أقرانه، فأخذه الخضر بعيدًا، ثم أضجعه وقتله، ففزع موسى من هذا القتل، فكيف يقتل غلامًا يافعًا قد يكون مصير أهله ورجاء والديه، يقتله من غير سبب أو إثم وهو إمام من أئمة الدين، فأنكر عليه أشد الإنكار، وتحلل من شرطه وميثاقه، وقال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) [الكهف:74]، فالتفت إليه الخضر مذكّرًا له بعهده وشرطه قائلاً: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف:75]، وهنا استحيا موسى وأدرك أنه قد أثقل على هذا الرجل الصالح وقال: (لَئِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) [الكهف:76].
وانطلقا على هذا الشرط، حتى إذا أدركهما الجوع والتعب مرَّا بقرية بطريقهما، فطلب من أهلها طعامًا، ولكن أهلها -بما كان فيهم من لؤم- لم يضيفوهما، ولم يردوا عليهما ردًّا جميلاً، فلم يجدا عندهم مأوى ولا طعامًا، وخرجا جائعين ساخطين، وقبل أن يخرجا من القرية، وجدا جدارًا يتداعى للسقوط، فأقامه الخضر وأصلح شأنه، فقال له موسى متعجبًا: أتجازي هؤلاء القوم اللئام اللذين أساؤوا اللقاء بهذا الإحسان؟! لو شئت لاتخذت على عملك هذا ما نسد به حاجتنا ونحافظ به على حياتنا، عند ذلك قال الخضر بعد أن آمن بأن موسى سوف لا يستطيع بعد الآن صبرًا: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف:78].
فأخبره أولاً بشأن السفينة، وأنها كانت لمساكين يعملون في البحر، وهي مصدر رزقهم، ولكن ملكًا ظالمًا كان يتبع كل سفينة صالحة فيأخذها عنوة وغصبًا عن أهلها، فأردت أن أعيبها رفقًا بهم ورحمة لهم، حتى إذا شهدها الملك تركها لعيبها، فهذا عمل إن كان ظاهره الفساد ففي باطنه الرحمة، وإن كنت قد حسبته نكرًا فإنما هو حفظ للمساكين وإبقاء على حياتهم.
وأما الغلام فقد كان مبغضًا من الناس، وكان أبواه مؤمنيْن، فخشيتُ أن يحملهما حبّه إلى الميل إلى طريقته، فينتهيا إلى الطغيان والكفر، فقتلته حفظًا لدينهما ورجاءً من الله أن يرزقهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا.
وأما الجدار فقد علمت من الله أن تحته كنزًا ليتيمين صغيرين تحدّرا من رجل صالح كريم، فأردت أن أحمي هذا الجدار حتى يشتد أزرهما ويستخرجا كنزهما مالاً حلالاً طيبًا، وكل ما فعلت لم أعمله بعلمي ولا برأيي، ولكنه وحي من الله وهدى منه: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف:82].
ثم قال الخضر لموسى بعد ذلك -بعد أن رأيا طائرًا يأخذ ماءً من البحر- ما معناه: ما علمي وعلمك -يا موسى- بجانب علم الله إلا بمقدار ما أخذ الطائر من ماء هذا البحر المتلاطم بالأمواج، فسبحان الله العظيم ما أعظم شأنه القائل: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف:109].
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.