البحث

عبارات مقترحة:

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

الإله

(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...

النصارى ومفهوم العداء

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. وجوب استصحاب المسلم للقرآن الكريم في معاملاته .
  2. بيان القرآن الكريم لأحوال النصارى ونظرتهم للمسلمين .
  3. قواعد معاملة النصارى وبيان مفهومَيْ العداء والمحبة .

اقتباس

لماذا لا يمكن للمسلم الموحِّدِ أن يُحب مشركًا محبة خالصة سواء كان هذا المشرك نصرانيًا أو مَن سواه من المشركين؟! لأن علاقة الموحد بالحياة كلها تكون من خلال عقيدته، وبالتالي؛ لا يمكن أن يحب من أشرك بالله تعالى ولو كان أقرب الناس إليه؛ لأنه بهذا ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

نحن -أيها الإخوة- لسنا أمة علمانية تحصر الدين بين جدران المسجد، نحن أمة تصحب الدين معها في كل مكان، ولا تستبدل الشرع الحكيم بالفلسفات البشرية، فما أجمل أن ينطلق المسلم في حكمه على الأشياء -لا سيما الأشياء الحاسمة والمهمة- من دينه.

إن كثيرًا من المسلمين اليوم ينسون هذا المبدأ، بمعنى أن أحدهم تحت ضغط الحياة المادية الحديثة ينسى أن يستحضر الدين معه حين يحكم على علاقة ما، أو حين يفسر ظاهرة ما، مع أن الله -تعالى- قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].

فاليقين بكون حكم الله -تعالى- هو أحسن حكم، وأن شهادة القرآن هي أقوم شهادة، اليقين بهذا يعتبر ضمن تهيئة الإسلام؛ بل -وفوق ذلك- من لوازم الإيمان، ونحن على الدوام نذكر بهذا المبدأ؛ لأنه في زحمة الأيام قد يغيب عن البال.

معاشر الإخوة: إن من المسائل التي قد تعالج دون أن يرجع فيها إلى الدين علاقتنا -نحن المسلمين- بنصارى الغرب: هل هي علاقة ود وصداقة، أم علاقة أخوة في الإنسانية كما يقال، أم علاقة عداء وكراهية، أم علاقة استراتيجيات ومصالح مشتركة؟! هل يمكن أن نجمع بين علاقة وأخرى؟! وكيف ينظر إلينا ذلك العالم الغربي؟! وكيف ينظر إلى ديننا ونبينا -صلى الله عليه وسلم-؟!

أيها الإخوة: نحن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونحن أهل القرآن، وليس أهله هم الذين يتلونه فقط؛ وإنما أهل القرآن هم الذين يتخذونه منهجًا لهم في كل شيء: في الحكم، في التصور، في ضبط العلاقات. فماذا يقول القرآن عن النصارى؟!

يقول -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51]. فهذا نهيٌ من الله -تعالى- عن موالاتهم، وبيانٌ لأن مَن يتولهم منا فإنه منهم، كما هو حال المنافقين الذين يتولونهم دون المؤمنين.

وقال -سبحانه-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة:82].

فهؤلاء النصارى المقصودون بالآية صنف معين له أوصاف محددة ذكرتها الآية، وهم الذين رقت قلوبهم وزال ما فيها من جفاء وغلظة إثر زهدهم وتنسكهم وتعبدهم، فأخلَصوا في طلب الحق، فتواضعوا له، فلما سمعوا القرآن تأثروا به، وآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فكانت تتمة الآيات: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة:83-84]. فهذه الآية خاصة بالنصارى الذين آمنوا ودخلوا في الإسلام.

أما ما يتعلق برضا غيرهم من النصارى عن المسلمين فيقول -تعالى-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة:120]. آيةٌ محكمة، وبالتالي هي قاعدة مضطردة على مدى العصور: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

إذًا؛ فَرِضَا النصارى ممتنع، وهو -أيضًا- محظور؛ لأن رضاهم مقيد باتباعك ملَّتهم، (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، وأنت -قطعًا- لن تتبع ملتهم، إذًا؛ لن يرضوا عنك إطلاقًا! قاعدة قرآنية محكمة ينبغي أن ترسخ في قلب كل مؤمن، وأن تكون ضمن قناعاته التي لا تقبل الشك: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

مهما سافرْتَ إلى ديارهم، وتعاملت معهم، وتبسم بعضهم في وجهك، وقام بعضهم بإرشادك، وتخلق بعضهم بالأخلاق الحسنة؛ ومهما تزينوا بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأظهروا التسامح، فلا ينبغي أن يغيب عنك أن رضاهم عنك مستحيل مادمت مسلمًا.

هذه ليست فلسفة، هذه عقيدة مصدرها كتاب الله، وهذه العقيدة -أيها الإخوة- لا تمنع التعايش معهم بالإحسان والعدل والإنصاف، ولا تمنع التجارة معهم، ولا التعلم من علوم الدنيا النافعة منهم، ولا تمنع الحوار بقصد دعوتهم، وقد قال -تعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]، وقال -تعالى-: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46].

فقاعدة عدم رضاهم عنا لا تمنع الحوار معهم، وإنما تمنع مداهنتهم، والسعي إلى إرضائهم على حساب الدين؛ ولذلك قال -تعالى- في نهاية الآية: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة:120].

إن ذلك الجاهل الذي لم يصبغ حياته ولا منطلقاته بصبغة عقدية إسلامية لا يتصور أن النصارى في الأصل أعداء لنا، ليس كلهم أعداء حرب بالضرورة؛ ولكن كلهم أعداء ملة.

وهم أصناف: منهم المعتدي المحارب وله أحكامه، ومنهم المعاهد وله أحكامه، ومنهم المستأمن وله أحكامه. منهم الظالم، ومنهم المنصف، ومنهم الحكيم، ومنهم السفيه، وهكذا، هم أصناف، ومهما تفاوتوا في الصفات فإنه ينبغي أن نفرق في تعاملنا معهم بين التعايش والحب، وبين النصرة وبين الصحبة بالمعروف والموالاة، وبين البر والعدل والقسط وبين الخلة؛ فقد قال -سبحانه-: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

فالقسط والعدل والبر من أخلاق المسلم مع الجميع، حتى مع المشرك؛ لكن المسلم الموحد لا يمكن أن يحب مشركًا، إلا أن يكون هذا المسلم واحدًا من ثلاث: إما شديد ضعف في الإيمان، أو جاهلاً لا يفقه الحكم، أو مكابرًا عنيدًا لا يقبل من الحق إلا ما أُشْرِبَ مِن هواه.

لكن؛ لماذا لا يمكن للمسلم الموحِّدِ أن يُحب مشركًا محبة خالصة سواء كان هذا المشرك نصرانيًا أو مَن سواه من المشركين؟! لأن علاقة الموحد بالحياة كلها تكون من خلال عقيدته، وبالتالي؛ لا يمكن أن يحب من أشرك بالله -تعالى- ولو كان أقرب الناس إليه؛ لأنه بهذا جمع في قلبه بين ضدين: محبة الله ومحبة عدوه. وكيف يحب من قال الله فيهم: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم:88-93].

فالذي يشرك بالله -تعالى- ويعتقد أن له ولدًا -سبحانه-، ويعتقد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليس بنبي، أي أنه كاذب -حاشاه صلى الله عليه وسلم-، فهو محادّ لله ورسوله، والمحادّ لله ورسوله لا يمكن أن يوادّه من آمن بالله واليوم الآخر.

ولقد قال -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة:22]، هذا هو الأصل الذي ينبغي أن يرتكز في القلب، ولقد قال -سبحانه-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة:4].

إذًا؛ لنا في إبراهيم -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين أسوة حسنة، فيم؟! في موقفهم من قومهم المشركين: (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، فما دمتم مشركين بالله -تعالى- فسيبقى بغضنا لكم حتى توحّدوه.

لكن زماننا هذا -أيها الإخوة- زمان انبطاحٍ للغرب، وزمان غرام بكل ما يصدّرونه من "تقاليع" وأزياء وأشياء ومناسبات، وزمان عشق للاعبيهم وفنانيهم ومثقفيهم؛ وزمان إعجاب شديد بمستوى تقنياتهم وصناعاتهم، وإعجاب بالتزامهم بالنظام، وتقديرهم لقيمة الإنسان ولبني قومهم، وما حباهم الله من طبيعة خلابة... إلى آخره. ولا يلام كثير من الناس على ذلك، خاصة عند القياس بما هو عليه الحال في بيئاتهم.

ولأجل ذلك الإعجاب الكبير، إضافة إلى ضعف الحس العقدي في العلاقات بين الناس اليوم، قد يصعب على المعجبين بهم تصور إمكانية كراهيتهم، وكذلك تصعب كراهيتهم على الذين يتعاملون معهم بشكل مباشر، أو أولئك الذين يجاورونهم؛ ومرجع ذلك كله إلى مستوى محبة الله في القلب، ومفهوم تلك المحبة، ومقتضياتها.

أسأل الله -سبحانه- أن يكمل محبة الله في قلوبنا، وأستغفر الله، فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالمولاة والنصرة لا تقتضي المحبة بالضرورة، إلا موالاة الله -تعالى-؛ إذ لا بد مع موالاته من محبته -جل وعلا-؛ ولذلك قد يوالي الإنسان بغيضه لأجل مصلحة ما، وقد ذكر القرآن موالاة اليهود للنصارى والعكس في قوله -تعالى-: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)، مع ما يعرف من العداء بينهم، كما قال -سبحانه- فيهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) [البقرة:113].

وقال عن اليهود، عن علاقة بعضهم ببعض: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعَاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر:14]، إذ ينصر بعضهم بعضًا من أجل مصالحهم؛ ولكن قلوبهم شتى! فينبغي التفريق بين محبة الكافر المسالم لأجل دينه وما هو عليه من الباطل، فهي محبة محرمة بالإجماع، وبين محبته لسبب خاص أو دنيوي عام، كمحبته من أجل حُسن خلقه، أو قرابته، أو كونها زوجةً كتابيةً، أو ما يقدمه الكاتب من نفع أو علم للناس.

فهذه المحبة تنضبط، كما أنها لا تتعارض مع البغض لهم في الدين، والبراء منهم ومن كفرهم؛ لكن السؤال: هل يمكن أن تجتمع المحبة والبغض في آن واحد؟!

إن من المحال أن يجتمع الحب والبغض لذات الشيء في وقت واحد، تحب الشيء ذاته وتبغضه في آن واحد، لا يمكن، هذا مستحيل، ولكن يمكن أن يُحَبّ ذات الشيء وتُكره صفة من صفاته، كما حصل من حب يوسف -عليه السلام- للسجن في قوله -تعالى-: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]؛ فالسجن ذاته مكروه ليوسف من كل وجه، ولولا ما تعلق به من مصلحته الشرعية، وهي البعد عن إغواء النساء المؤدي للفاحشة، لولا ذلك ما أحب يوسف السجن، (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، وكالجهاد أيضًا، فهناك كراهية طبيعية للقتال، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) [البقرة:216]، هذا ما قرره القرآن.

ثم قال في آية أخرى عن الفقراء الذين حرموا من القتال في سبيل الله بسبب فقرهم: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا) [التوبة:92]، فهم مشتاقون للجهاد في سبيل الله، ويحبونه، ولكن ليس لديهم من المال ما يجهزون به أنفسهم للقتال، فأخبر في الآية السابقة أن هناك فرضًا للقتال وجِبِلَّة بشرية تكرهه، ثم أخبر عن هؤلاء أن أعينهم كانت تفيض من الدمع حزنًا إذ فاتهم القتال؛ لحبهم إياه شرعًا ودينًا.

فالكره الوارد في آية الجهاد متوجه لصفة المشقة فيه، لا للجهاد نفسه، تمامًا كما أن الزوجة الكافرة قد تكون محبوبة لزوجها المؤمن في ذاتها لأنها زوجته، لكن صفة الكفر فيها مكروهة له، ومن أمثلة ذلك ما قصه القرآن علينا من حال نبي الله إبراهيم مع أبيه، وحال نبي الله نوح مع ابنه، وكذلك حال نبي الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- مع عمه أبي طالب.

ولذلك قال الشيخ ابن عثيمين في كتابه "القول المفيد": "ويجوز أن يحبه محبة قرابة، ولا ينافي هذا المحبة الشرعية".

ففرق كبير بين المحبتين، المحبة الدينية التي تحمل معها الولاء والنصرة، والمحبة الطبيعية التي تنميها الجبلة البشرية والفطرة الإنسانية لمن أحسن إليك أو كانت له قرابة، وما إلى ذلك مما لا يشمل الولاء ولا النصرة.

ولقد عرف الإمام ابن القيم المحبة الطبيعية بأنها: "ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم، ومحبة الزوجة والولد، فتلك لا تذم إلا إن ألْهَتْ عن ذكر الله، وشغلت عن محبته -جل وعلا-".

فالأصل والأكمل عدم محبة الكافر مطلقًا، هذا هو الأصل؛ لكن، إن أحببت المسالم لسبب ما فيجب أن يصاحب تلك المحبة الطبيعية له بغضك له في الدين، أو على الأقل عدم مودته، وفي حال وقوع المسلم في هذه المحبة فليذكر مقام التوحيد، وليدافع هذه المحبة ولا يركن إليها، مع إبقائه على البر والإحسان به؛ ولْيحذر من أن تحمله هذه المحبة إلى معاشرة الكافر معاشرة الأخ لله، ففرق بين أن يصاحب الكافر بالمعروف وبين أن يتخذه خليلاً.

الفرق بينهما أن الخليل مشتق من الخلة، وهي المودة التي تخللت القلب فصارت خلاله، أي في باطنه؛ ولذلك لا ينبغي التوسع في التبسط إليه إلا بموجب شرعي، كدعوته؛ لأن كثرة المساس تفقد الإحساس، وكثرة معاشرة الكافر دون غرض دعوي قد تفضي إلى الرضا بكفره، وبرود القلب تجاه شركه، وهو أحد أسباب نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن مساكنة المشركين والإقامة بين أظهرهم، في قوله -كما صح في السنن-: "مَن جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، قالوا: يا رسول الله: لِمَهْ؟! قال: "لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا".

نعم؛ حتى لا تزول الفوارق العقدية من قلب الموحد، فمحبة الله مصداقها حب ما يحب، وبغض ما يبغض، وموالاة أوليائه الموحدين، والبراء من أعدائه المشركين به، المكذبين لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. ولقد قال -تعالى-: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [الروم: 45].

وأما اتخاذهم أولياء أو أخلاء أو بطانة دون المؤمنين فهو محرم قطعًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ) [آل عمران:118].

ونكمل في مقام آخر إن شاء الله...

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأزل الشرك والمشركين...