البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
فالأفَّاكون الظالِمون يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ الإساءة وأنواع السُّخريات، والتي تتجدَّدُ بتجدُّد الأحداث والوسائل، ونبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ليس بِدعًا من الرُّسُل، (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ)، فقد طالَته الإساءة، ونالَته التجاوُزات من أول يومٍ بدأ فيه دعوتَه؛ فقالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، وقالوا: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا)، وقالوا ..
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد باسمه الأسمى، أحمده -سبحانه- وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأُثنِي عليه وأشكرُه أسبغَ علينا آلاءً وأفضالاً ونِعمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصةً تكونُ لبلوغ رِضوانه سُلَّمًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله فتحَ به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صُمًّا، وآتاه من فضله علمًا وحكمةً وحُكمًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه هم الأرجحُ عقلاً وحلمًا، والأوفرُ علمًا وفهمًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله- حقَّ تقواه؛ فالمغبونُ من جعلَ أكبرَ همِّه دُنياه، والمخذولُ من اتخَذَ إلهَهُ هواه، والخزيُ والحسرةُ لمن كان في النار مثواهُ، فانظروا في العواقبِ؛ فالسعيدُ من نظرَ في عُقباه، وتأهَّبُوا للعَرضِ الأكبر يومئذٍ تُعرَضون حُفاةً عُراةً، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله الحرام: ها أنتم حلَلتم الديارَ المُقدَّسة في مكة المكرمة مولد رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ومبعثه، وفي المدينة النبوية المُنورة مُهاجَر الحبيب محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومنزله "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة".
حلَلتُم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً، وعلى الرَّحبِ والسَّعة في الحرمين الشريفين مُتنزَّل الوحي، ومهبِط الرسالة، ومنبَع الإسلام، ومُنطلَق الدعوة. وتقبَّل الله منا ومنكم، وجعلَ حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
حُجَّاجَ بيت الله: وأنتم بين هذه الشعائر والمشاعر تستحضِرون مقامَ نبيِّكم محمدٍ -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-، وما يجبُ له من التوقير والتعظيم والنُّصرة، وقد حاولَ أن يتطاولَ عليه من يتطاوَل، وينالَ منه من ينال.
وفي هذا وبين شعائركم ومشاعِركم -حفظكم الله- ينبغي أن تعلَموا أن الإساءة إلى الدين الحقِّ، والتطاوُل على مقامات النبيين والاستهزاء بالمُرسلين، وتنقُّص ما جاؤوا به، وازدراء ما بُعِثوا به، هذا هو دَيدَنُ المُكذِّبين عبر التاريخ.
فالأفَّاكون الظالِمون يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ الإساءة وأنواع السُّخريات، والتي تتجدَّدُ بتجدُّد الأحداث والوسائل، ونبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ليس بِدعًا من الرُّسُل، (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت: 43]، فقد طالَته الإساءة، ونالَته التجاوُزات من أول يومٍ بدأ فيه دعوتَه؛ فقالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص: 4]، وقالوا: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا) [الفرقان: 5]، وقالوا: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل: 103]، وقالوا: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان: 4]، وقالوا: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) [الفرقان: 8]، وقالوا: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: 8]، في أقوالٍ وأفعالٍ وأكاذيب وأساطير وتحريضاتٍ لا تقِفُ عند حدٍّ.
وأمام ذلك -عباد الله- كان للقُرآن منهجُه وطريقتُه في توجيه نبيِّ الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وتثبيتِ فُؤادِه، وإرشاد أتباعه لما ينبغي من مواقف.
وهذه -رعاكم الله وحفظكم- وقفاتٌ وتأملاتٌ في هذا المنهج:
فمن الوقفات والتأمُّلات: أن هذا هو ما تعرَّض له الأنبياءُ من قبل محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -عزَّ شأنُه-: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 10]، وقال -جل وعلا-: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام: 34].
ومن التأمُّلات: أن من انتقصَ من الأنبياء أو استهزأَ بهم أو أهانَهم أو نالَ منهم فهو المخذولُ، وهو الأبترُ، وهو مقطوعُ الذِّكر، وهو الأدحرُ والأحقرُ. وهذا أمرٌ مشهورٌ ومعروفٌ مُتقرِّرٌ طِوالَ التاريخ بصورةٍ باهرةٍ واسِعةٍ.
إن الإيمان بالحق والخير والفضل لا يُمكن أن يكون أبتَر، وإن مقاييس الله غير مقاييس البشر؛ أين الذين كانوا ينالُون من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- طِوال التاريخ منذ أول يومٍ من البعثة إلى يومنا هذا إلى ما شاء الله؟! (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].
(إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3]، إن شانِئَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ومُبغِضَه والمُستهزِئَ به ومُبغِضَ ما جاء به من الوحي العظيم والشرع الكريم هو الأذلُّ، وهو المُنقطعُ من الخير، المقطوعُ من طيِّبِ الذِّكرِ، المقطوعُ دابِرُه. أما محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فمرفوعٌ ذِكرُه، وعالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر: 1]، عجيبٌ هذا التقابُل الباهِرُ بي ما أُعطِيَه محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- من الخير الكثير الوافِر وغير المُنقطع في الدنيا والآخرة، وما عليه أعداؤُه وشانِئُوه ومُبغِضوه من انقطاع الذِّكر، والذلِّ والصَّغار!
تأمَّلوا -رحمكم الله- هذا الحديثَ العجيبَ، وهذا التوجيهَ النبويَّ الكريمَ للصحبِ الكرام، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا ترَونَ كيف يصرِفُ الله عني شتمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتُمون مُذمَّمًا ويلعَنون مُذمَّمًا، وأنا مُحمدٌ!"، فنزَّه الله اسمَه ونعتَه عن الأذى، وصرَفَ ذلك إلى من هو مُذمَّم.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "قوله: "يشتُمون مُذمَّمًا"، كان الكفارُ من قريش من شدَّة كراهتهم في النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُسمُّونَه باسمِه الدالِّ على المدحِ، فيعمَدون إلى ضِدِّه، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكرُوه بسُوءٍ قالوا: فعلَ الله بمُذمَّم، ومُذمَّم ليس هو اسمَه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يُعرَفُ به. فكان الذي يقعُ منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وعليه -أيها المسلمون -؛ فتلك الرُّسوم والأفلام والصور من أشباهها إنها قطعًا لا تُمثّلُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نبيَّنا، لا في اسمِها ولا في رمزِها؛ فمحمدٌ هو الضياءُ، وهو الطُّهرُ، وهو البهاءُ، وهو الإجلالُ والتقديرُ والرِّفعةُ، وهو الرحمةُ، مرفوعٌ ذِكرُه، عالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يس: 30].
من أجل هذا كلِّه؛ فإننا -نحن المسلمين- نعلم أن دينَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- يكسَبُ كلَّ يومٍ عقولاً وقلوبًا وديارًا، وأن غيرَه في انحِسارٍ وانبِتارٍ وانقِطاعٍ.
ومن الوقفات والتأمُّلات: الاستمرارُ في الدعوة، والعملُ لدين الله، وسيرُ القافِلة، وعدمُ الالتفات أو الاكتراث لنعيقِ الناعِقين، قال -عزَّ شأنُه-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 94، 95]، وقال -عزَّ شأنُه-: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وقال -جل وعلا-: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98، 99].
غير مُلتفتين إلى ما يقومُ به المُعادُون الأعداءُ من أسباب الإعاقات والسُّدود والحواجِز، فاللهُ حافِظُك وكافِيك ومُؤيِّدُك وناصِرُك، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)، (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 137].
يكفيه بما شاء من أنواع العُقوبات، فما تظاهَرَ أحدٌ بالاستِهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إلا أهلَكه أشدَّ هلاكٍ، وخذَلَه أعظمَ خُذلان، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) [الأنعام: 10].
ومن التأمُّلات: قولُه -عزَّ شأنُه-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) [الحجر: 97]؛ فالرسولُ -عليه الصلاة والسلام- بشرٌ لا يملِك نفسَه أن يضيقَ صدرُه وهو يسمعُ الشِّركَ بالله والاستِهزاءَ بالرسالة ودعوةِ الحقِّ، فيغارُ على الدعوة، ويغارُ على الحق، ويضيقُ بالضلال والشِّرك والباطلِ. وهذا تنبيهٌ إلى أن العواطِفَ البشريةَ مُقدَّرة، وهي دافِعةٌ، لكن لا ينبغي أن تكونَ قائدةً.
فالحماسُ والإثارة والاستِثارة لا ينبغي أن يُتجاوَزَ بها حُدود الحلال والمشروع، وهذا يتطلَّبُ شجاعةً ونزاهةً، مما يجبُ معه التحلِّي بالحكمة والتثبُّت وحفظ التوازُن، والرجوع إلى أهل العلم والعقل والرأي والحكمة، والحذرُ من سلوك مسالِك تضرُّ بمصالح الدين والمُسلمين، والحذرُ كذلك أن يكون المُحرِّكُ للعقول هي السواعِد؛ بل السَّواعِدُ يجبُ أن تضبِطَها العقولُ.
وبقدرِ ما يكونُ الفِكرُ عاقلاً واعيًا هادِئًا تكونُ النتيجةُ مُؤثِّرةً مُثمِرةً -بإذن الله-.
ومما ينبغي لفتُ النظر إليه الابتعادُ عن التصرُّفات غيرِ المُنضبِطة، وبخاصَّةٍ إذا استحضرَ المُسلِمون أن الآخرين يرقُبُون التصرُّفات، ويرصُدونها؛ بل يُوظِّفُونَها في تداعِياتِها وآثارِها؛ فمواقفُنا تعكِسُ أخلاقَنا، وأخلاقُنا نابِعةٌ من ديننا، وهُدوؤُنا وسكونُنا سكونُ عِزَّةٍ وإباءٍ، وليس سُكونَ ضعفٍ ولا جُبنٍ ولا خَوَرٍ.
فنحنُ لا نقبل ولا نرضَى ولا نسمَح أن يتطاولَ أحدٌ على مقام نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، أو ينالَ من ديننا، أو كتابِ ربِّنا -عز وجل-، وكل هذه الأحداث تزيدُنا تمسُّكًا بديننا وحُبِّ نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الوقفات والتأمُّلات -حُجَّاجَ بيت الله-: أن مفاهيم الحق والباطل، ومبادئَ العدل والظلِ، وحُدودَ الصحيح والخطأ شكَّلَها في نفسيَّات الشباب والمظلومين في العُقود الأخيرة، شكَّلَتها هذه المظالِمُ التي يرَونَها تُرتَكَب من القوى الكُبرى، ومن كِيان إسرائيل -الدولة المُحتلَّة-، وما يُتابِعُه هؤلاء الشباب من العَبَث بالاتفاقات الدولية والمُعاهَدات والتعسُّف في تفسيرِها وتطبيقِها، والتستُّر على الظالِمِ، وغضِّ النظر عن بعض التصرُّفات؛ بل الانحيازُ إلى الظالم والدفاع عنه، والكَيل بمِكيالَيْن؛ بل بمكاييل، والسياسات الظالِمة، والمواقِف الجائرة، وتغليبِ المصالِح الضيِّقة، وإهانةِ الشُّعوب وعدم احترامِها.
كلُّ ذلك مما يُولِّدُ الشعورَ بالقهر، ويُثيرُ الاستِفزازَ والاشمِئزازَ، نفاقٌ سياسيٌّ دوليٌّ يستنكِرُ متى شاء، ويسكُتُ ويغُضُّ الطرف متى شاء.
والذين يلُوذون بحريَّة التعبير يتجاوَزون كلَّ الاتفاقيات والمواثيق والمُصطلحات إذا رأَوا أنهم بحاجةٍ إلى ذلك، أو أن مصالِحَهم تُمسُّ أو تُنتقَص.
على أن نهجَ الإنصافِ -رحمكم الله- والاعتدال الذي علَّمنَاه إيَّاه دينُنا يُؤكِّدُ أن في الآخرين مُنصِفين وعقلاء، وأن فيهم مُدافِعين عن الحق، وباحِثين عن الحقيقة، وأن فيهم جاهِلين ومُغرَّرًا بهم، وفيهم مفتونين.
وحاشَا لله أن يكون كلُّ هؤلاء في خِطابٍ واحدٍ أو في كِفَّةٍ واحِدةٍ؛ فنُقدِّرُ لكل ذي قدرٍ قدرَه، والمُسلِمون -ولله الحمدُ- عندهم المعايير مُنضبِطة لتمييز المُحِقِّ من المُبطِل، والجائرِ من العادل.
معاشر المسلمين، حُجَّاج بيت الله: ومن الوقفات: قولُ الله -عز وجل-: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس: 85]، وقولُه -جل وعلا-: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة: 5].
كم هو عقلٌ وأناةٌ أن ننظُرَ إلى أن بعضَهم مفتونون بأحوال بعضِ المُسلمين وأوضاعِهم؛ فتراهُ حين يرى ما في المُسلمين من مظاهر ضعفٍ وتخلُّفٍ، قد يقولُ: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا ولو كان دينُه صحيحًا لوجَدنا أتباعَه في أحسن حالٍ من حُسن السياسة، والانضِباط، وحُسن السلوك، والتدبير والتصرُّف، ولتفوَّقوا، ولبَرَعوا.
أما أن يكونوا غيرَ حضاريين ضِعافًا مهزومين قوةً وعلمًا، وإدارةً واقتِصادًا، إلى غير ذلك من أمثال هذه المقولات، فهذه -يا إخواني- مما يجعلُ أهلَ الإسلام في مواقع الفتنةِ، (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس: 85].
نعم -حفظكم الله-؛ جميلٌ وحقٌّ أن نغضبَ لمن يُحاوِلُ النَّيلَ من ديننا ونبيِّنا، ولكن من الحقِّ والعقلِ أن نُراجِعَ أنفُسَنا وأن لا نغضبَ من قُصورنا وتقصيرنا في الاستِمساك بديننا والالتزامِ بسُنَّة نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ونُحاسِبُ أفعالَنا وتصرُّفنا. وأين نحنُ من القيام بمسؤوليَّاتنا والأمانة في أداء أعمالِنا؟!
ينبغي أن نغضبَ حين نرى الإهمالَ والمُهمِلين، والتقصيرَ والمُقصِّرين من أهلِنا وقومِنا، وكما تُخاضُ معركةُ الموت تُخاضُ معركةُ الحياة، وكما نموتُ في سبيل الله نحيا في سبيل الله.
لا بُدَّ من أخذ الدروس والعِبَر حتى لا نكون فتنةً للذين كفروا، لا بُدَّ أن نُثبِتَ أننا أمةُ الخيرية الوسطيَّة، تُؤمِنُ بكتاب ربِّها، وتسيرُ على خُطى نبيِّها، وتأخُذُ بكلِّ أسباب القوَّة والعِزَّة، ووسائل العلمِ، والتقدُّم، والتقنِيَّة، مما يُحقِّقُ صلاحَ الأمةِ وفلاحَها، ويحفَظُ لها تُراثَها وعِزَّتَها وأصالتَها وهويَّتَها، ويرقَى بها، وتنشُرُ رسالتَها رحمةً للعالمين.
نحتاجُ إلى أن نكون أمَّةً مُنتِجةً مُبدِعةً صانِعةً، ومن لا يملِكُ قُوْتَه لا يملِكُ حرِّيَّتَه في إصلاح التعليم والسياسة والمُجتمع والاقتِصاد، وكل وجوه الإصلاح.
ومن حُسن الإفادة من مثلِ هذه الأحداث: مزيدٌ من الدعوةِ إلى الله، ومزيدٌ من الانتِصار للنبيِّ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ بالتعريفِ به، ونشر سيرتِه، وشمائلِه، في أحسن عرضٍ، وقُوَّةِ بلاغٍ، وبلاغةِ حديثٍ، وإبرازِ الوجهِ الحضاريِّ لديننا، بالحوار والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ، ودفع السيِّئة بالحسَنة، ونبذ مسالِك الغلُوِّ والانفِلات والإفراطِ والتفريطِ.
وبعد:
فهذه كانت بعض الوقفات والتأمُّلات مع يقيننا وإيماننا أنَّ نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لن تضُرَّه سُخريةُ الساخِرين، ولن ينالَ منه استِهزاءُ المُستهزِئين؛ فهو من جمَعَ المحامِد، وحازَ المكارِم، وهو خاتَمُ الأنبياء، أكمَل الله به الدينَ، وأتمَّ به النِّعمةَ، فمولدُه فتحٌ، ومبعثُه فجرٌ، وهجرتُه نصرٌ، أغنَى به بعد العَيْلَة، وكثَّرَ به بعد القِلَّة، وأعزَّ به بعد الذِّلَّة.
وما تحرَّك هؤلاء وما زادَ استِفزازُهم إلا لما يرَونَه من انتشار هذا الدين، وإقبال الناس عليه وقبوله، وتلكم من البشائر لأهل الإسلام؛ حين يرى الأعداءُ أنوارَ الإسلام تُبدِّدُ ظُلماتِ الجهل والجهالة، وتقِفُ أمام مكر الماكِرين، وتظلُّ سائرةً رغمَ حقدِ الحاقِدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 92- 99].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله رفعَ قدر أولي الأقدار، وحطَّ بفضله عن التائبين الأوزار، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه على فضلِه المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي من عذاب النار، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الطيبين الأطهار، وعلى أصحابه البَرَرة الأخيار المُهاجِرين منهم والأنصار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: إن الاستِنكارَ وإظهارَ الغضب شيءٌ مشروعٌ؛ بل هو مطلوبٌ؛ لأنه من إنكار المُنكَر، وبخاصَّةٍ إذا زادَ انتشارُ الخبر، وتمادَى المُخالِفون في غيِّهم وبغيِهم.
ومن هنا؛ فإن على الأمة بحُكَّامها وشُعوبِها، وساسَتها وعلمائها، ورجال أعمالها وإعلامِها، وعربِها وعجَمها، وأقلِّيَاتها وجالياتِها أن يهُبُّوا جميعًا لنُصرة نبيِّهم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بهُدوءٍ وفاعليَّةٍ وعملٍ مُنظَّمٍ، تُباشِرُه هيئاتٌ وجهاتٌ مُتخصِّصة، تكونُ مسؤوليَّتُها وضعَ المناهِج والخُطَط لما ينبغي من مواقِفِ في مثلِ هذه الأحوال والأوضاع، وتكونُ لها صلاحيَّاتُ اتَّخاذ المواقفِ اللازمة، والاتصالاتِ المُلائِمة، والرُّدود المُحكَمة، وفقَ أُطُرٍ نظاميَّةٍ وقانونيَّة، مع التأسيس لمنهجيَّةٍ فاعِلة، محليَّةٍ ودوليَّة، لتوضيح حقائق ديننا، والدفاع عنه، وكشف المُتطاوِلين على الإسلام والمُسلمين، وأنهم ضحايا التشويه والظلمِ والتعسُّف.
معاشر المُسلمين: وفي أسلوبٍ إسلاميٍّ عمليٍّ حضاريٍّ حين تسابَقَ مُلُوك العالم ورُؤساؤُه إلى منبَر الأمم المُتَّحِدة ليقولَ كلٌّ ما يُريدُ أن يقولَه حولَ ما يهمُّه من شأن توجه ولي أمرِنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى طيبَة الطيِّبة المدينة النبويَّة المُنورة، توجَّه إلى منبَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقولَ -حفظه الله-: "إيمانُنا بالحقِّ تعالى نستمِدُّ منه عزيمتَنا وقوَّتَنا في الدفاع عن شريعتنا وعقيدتنا وعن نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، في وجهِ كلِّ حاقدٍ أو كارهٍ أو مُبغِضٍ، وسنبقَى كذلك ثابتين على ذلك، لا نتراجَعُ عنه إلى يوم الدين -إن شاء الله-".
قال ذلك -حفظه الله- وهو يأذَنُ بالتوسِعَة الكُبرى لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نُصرةٍ لهذا الدين، وإظهار قوَّته، والاعتِزاز بخِدمتِه، والافتِخار بالانتِساب إلى شريعةِ نبيِّه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ونحن -السعوديين- نعلمُ أن هذه التوسِعَة قد أُقِرَّت منذ فترةٍ، ولكنَّ توقيتَ الأمر ببدئِها هو الذي يُجسِّدُ هذا الهدفَ العظيمَ، وإعلانَ القوَّة والعِزَّة. فلله الحمدُ والمِنَّةُ.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فالإسلامُ ومُستقبلُه أعظمُ وأكبرُ من كل المكائِد، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، وهو غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيلِه- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن السِّبطَين الطاهِرَين الحسنِ والحُسَين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.