البحث

عبارات مقترحة:

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

سورة الحجرات (3)

العربية

المؤلف خالد بن محمد بابطين
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. مع النداء الثالث: الأمر بالتبين في الأخبار .
  2. سبب نزول الآية .
  3. المنهج الشرعي في تلقي الأخبار .
  4. خطورة الأراجيف والشائعات .
  5. الموقف الشرعي من الشائعات .
  6. التحذير من القيل والقال .
  7. الحرب النفسية .

اقتباس

في هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال فإنه يجِب الحذَر ثم الحذرُ ممّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة التي تُمطِر أخبارًا وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ، بل أصبحت تشكّل عقول الناس وتبني ..

أما بعد: فاتقوا الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

أيها الإخوة المؤمنون: ها نحن اليوم نتدبّر نداء ربنا الثالث في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].

جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بسنده عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله: أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إليّ رسول الله رسولاً لإبَّان كذا وكذا -أي: وقت كذا وكذا- ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظنّ الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله -عز وجل- ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله كان وقّت لي وقتًا يرسل إليّ رسولَه ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ فرجع فأتى رسول الله وقال: يا رسول الله: إن الحارث منعَني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟! قالوا: إليك، قال: ولم؟! قالوا: إن رسول الله كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعتَه الزكاة وأردتَ قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيتُه بتّة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله قال له: "منعتَ الزكاة وأردت قتل رسولي؟!"، قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك؛ خشيتُ أن تكون كانت سخطة من الله -عز وجل- ورسوله، قال فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) إلى قوله: (فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:8].

أيها الإخوة المؤمنون: هذه الآية الكريمة ترسِم لنا منهجًا عظيمًا في شأن تلقّي الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد اتّصل شرقه بغربه وتقارب أقصاه من أدناه، تملأ سماءه فضائيات وقنوات وتغصّ أرضه بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت.

في هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال فإنه يجِب الحذَر ثم الحذرُ ممّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة التي تُمطِر أخبارًا وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ، بل أصبحت تشكّل عقول الناس وتبني تصوّراتهم وتوجّه أفكارهم، فلا بدّ حينئذٍ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.

أيّها الإخوة: إنَّ الأراجيفَ والشّائعات التي تنطلِق من مصادرَ شتّى ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعَى إلى إثَارة النّعَرات والأحقاد ونشر الظنون السيّئة وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء.

والإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيَد المغرِضين وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُه أصحابُه لزعزعةِ الثوابِت وخلخلَة الصّفوف وإضعاف تماسُكها، وغالبًا لا تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ فردًا أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ أو عميل مندَسّ أو غِرٍّ جاهل.

معاشرَ الأحبّة: وليس الخطاب هنا مع العدوّ الحاقِد ولا مع العميل المأجور، ولكنّه خطابٌ مع هذا المسلمِ الغافِل حسَنِ الطويّة صالحِ النيّة المخلِص لأمّتِه ودياره، الذي لا يدرك ما وراء الشائعة ولا يسبُر الأبعادَ التي ترمي إليها تلك الأراجيف.

إن على هؤلاء أن يتّصِفوا بالوعي الشّديد والحصافة في الفهمِ وسلوك مسالك المؤمنين الخُلَّص في اتّخاذ الموقف الحقّ من الشائعات: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:173-175].

وعليهم أن يتأمّلوا هذه التّوجيهاتِ الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف التي رسمها القرآن الكريم وبيّنها أوضحَ بيان.

التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلِمين أفرادًا وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:2].

وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم: هذا أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجُه وقد خاض النّاس في حديث الإفك، فماذا كان شأنهما في تلك الشائعة؟! قالت أم أيوب: يا أبا أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -رضي الله عنها-؟! قال: "نعم، وذلك الكذب، أكنتِ فاعلةً ذلك يا أمّ أيوب؟!"، قالت: لا والله، ما كنت لأفعله، قال: "فعائشة واللهِ خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل".

إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.

التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [النور:13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ) [النور:13].

التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16].

أيّها المسلمون: إن الذي يتعيَّن هو اعتمادُ أخبار الثقات، والعدول والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين، ومَن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت، ومَن عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنة بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائمًا، وليس الصمت بِرًّا دائمًا، وفي الحديث الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت"، فليس ثَمَّ -يا عبد الله- إلا طريقان: إما خيرٌ تقوله، أوصمت تلتزِمه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد:

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: نهى رسول الله عن قيل وقال، و"قيل وقال" أي: كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت ولا تبيّن. وفي سنن أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بئس مطية الرجل: زعموا"، وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين: "وكالة يقولون"، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت، وقد يسهمون بذلك بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم، فيخدمون -من حيث لا يشعرون- أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب.

أيها الإخوة: إن الحرب النفسية الآن لا تقلّ شراسة عن الحرب العسكرية، وهي حرب محتدمة بين الأطراف كلّها كما هو الشأن في الحرب العسكرية، فعلى كل مسلم أن يتحاشى نقل شيء من الأخبار والشائعات أو التوقعات أو التحليلات إذا كانت مما يضعِف معنويات المسلمين ويبثّ الرعب في قلوبهم، وعلينا أن نتثبّتَ من الأخبار؛ فإن من يتتبّع وسائل الإعلام العالمية يتحيّر ويتخبّط في حيرته مما يرى من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات، وربما وقع فريسةً لبعض الجهات المغرضة الحاقدة، والمنافقون لا يفوّتون مثل هذه الفرص، فيحرصون على اغتنامها للتشويش على المسلمين وإلحاق الضرر بهم، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83].

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من كيد الأعداء ومكرهم: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46]. والزموا وصية الله التي أوصى بها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].