الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن الألفة التي لا تكون لله، ولا تقوم من أجل الله، حتى وإن قامت وتحققت فإنها سرعان ما تنتهي وتذهب، وترجع إلى أصلها النتن وصورتها الحقيقية، وتتحول إلى عداوات ونفرة، وشر وقطيعة, وكم رأينا من صداقات حميمة تحولت إلى شر وعداوة؛ لأنها قامت على أخوة غير إسلامية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طَولاً وامتناناً، وألفّ بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخداناً، وفي الآخرة رفقاء وخلاناً. والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً، وفعلاً، وعدلاً، وإحساناً.
أما بعد:
عباد الله: إن من أعظم ما أمر الله -سبحانه وتعالى- به المؤمنين هو التآلف، والتآزر، والمحبة؛ فالألفة بين الناس والتحاب بينهم يجلب لهم رضى الله ورحمته، وذلك إذا تآلفوا وتناصروا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" (أبو داود:4941). ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ، وَلاَ يُؤْلَفُ" (أحمد:9187).
إن المجتمع المتآلف مجتمع قوي متماسك، بخلاف المجتمع المتنافر الذي فقد المحبة والألفة فإنه مجتمع تنتشر فيه البغضاء، والفرقة، والعداوة، وإذا تلاشت الألفة بين أفراد المجتمع زالت عنهم أسباب القوة والهيبة، وإذا زالت عنهم أسباب القوة جاء التفرق والفشل، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46].
عباد الله: إن من محاسن الإسلام العظام، ومن أعظم ما جاء به هذا الدين العظيم أنه أمر المسلمين بالألفة والمحبة، وحثهم على التآخي والمودة، وقدّم الأمر بالتآلف والتآخي على كل أمر، وبدأ به قبل كل شيء، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
إن هذه الآية العظيمة تأمر بالاعتصام والتآلف، والمحبة والمودة، وتذّكر المسلمين بما كانوا عليه من قبل من تنافر وتفرق وشتات، وتحثهم على أن يحمدوا الله -سبحانه وتعالى- ويشكروه على هذه النعمة العظيمة، والمنة الكبيرة، نعمة الألفة والمحبة.
كما أن هذه الآية الجليلة تبين أن الألفة بين الناس لن تكون إلا عبر دين الله، ولن يؤلف بين قلوب الخلق إلا شرع الله؛ فمهما حاول الناس أن يجتمعوا على أمر دنيوي، أو يتآلفوا على مصالح دنيوية، أو تجمعهم روابط شخصية أو حزبية، فإن هذا كله لن يؤلف بين قلوبهم، ولن يجمع شتاتهم، ولن يلم شعثهم.
بل على العكس من ذلك سيزيدهم هذا تفرقاً وتنافراً، وحقداً وحسداً، وكم رأينا من مصالحات ومؤتمرات واجتماعات الهدف المعلن منها هو التآلف والتصالح والتسامح، لكن حينما يتأمل الإنسان في نتائجها، وينظر في نهايتها، يجد أنها زادت الطين بلة، والخلاف عمقاً، ولم تحقق شيئاً مما تسعى إليه من أهداف ونتائج مرجوة.
والسبب في ذلك كله أن ألفتهم تمت بغير الدين، وأخوتهم قامت على أهواء ومصالح، فلذلك يبقى التفرق والاختلاف بينهم؛ لأن الكل يسعى لمصلحته، ويبحث عن فائدته، ولا يوجد هناك دين وقيم إسلامية تؤلف بينهم، وتقارب بين وجهاتهم، فتبقى آراؤهم مشتتة، ووجهات نظرهم مختلفة.
ومن هنا يذكر الله -سبحانه وتعالى- المسلمين بأن هذه النعمة العظيمة نعمة الدين هي السبب الأعظم، والباعث الأكبر، في خلق الألفة بينهم، وإيجاد المحبة الحقيقية في قلوبهم، بعد أن كان بعضهم يعادي بعضاً، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103].
لابد أن نعلم أن ألفتنا لن تتم إلا بالدين، والمحبة لن تقع بيننا إلا بواسطة الدين، ومشاكلنا لن تحل إلا بالحلول الإسلامية، وشتاتنا واختلافاتنا سواء كانت الاختلافات الطائفية، أو المذهبية، أو العرقية، أو السياسية، كلها لن تنتهي إلا بالألفة والمحبة التي تقوم على أسس دينية، وثوابت إسلامية، كما قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:63].
انظروا إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- كيف آخى بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، الذين كان يعادي بعضهم بعضاً، ويحارب بعضهم بعضاً، ولا يكادون يجتمعون إلا في الشر والحرب والعداء.
فلما دخلوا في الإسلام وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم حدث أمر عجيب، فتآلفت قلوبهم ألفة غير عادية، وأصبحت بينهم محبة صادقة، وألفة مذهلة، حتى أن بعضهم يقسم ماله شطرين بينه وبين أخيه، والآخر مستعد لئن يعطي إحدى زوجاته لأخيه في الله.
أيها المسلمون: إن الألفة التي لا تكون لله، ولا تقوم من أجل الله، حتى وإن قامت وتحققت فإنها سرعان ما تنتهي وتذهب، وترجع إلى أصلها النتن وصورتها الحقيقية، وتتحول إلى عداوات ونفرة، وشر وقطيعة.
وكم رأينا من صداقات حميمة تحولت إلى شر وعداوة؟! لأنها قامت على أخوة غير إسلامية، بل كم رأينا من أزواج انتهوا مع زوجاتهم إلى الطلاق والمشاكل؟! والسبب في الغالب يكمن في أن اجتماعهم وألفتهم كانت بغير هدي الدين وطرقه الصحيحة، وارشاداته السليمة، وكم رأينا من اجتماعات وحوارات هدفها الألفة والتقارب فشلت وانتهت؟! لأنها لم تقم على أساس الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى- عن حال هؤلاء حين يقولون: (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء:99-101]، ويقول: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل المؤمنين أخوة في الإيمان، فكانوا في ألفتهم وتعاونهم كالبنيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى العدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد ضعفت الألفة والمؤاخاة بيننا ضعفاً كبيراً، وأثرت علينا الحياة المدنية تأثيراً واضحاً، وصرنا نتنكر لبعضنا، وينفر بعضنا من بعض، بسبب أو بدون سبب. قلتّ الرحمة في قلوبنا، وحصل التجافي بيننا إلا من رحم الله منا، ولم يعد التآلف الذي كان بين السابقين موجود عندنا، وأصبح لسان حال الواحد منا يقول: "نفسي نفسي".
إنها مأساة عظيمة نعيشها، ونفورٌ كبير نلمسه في واقعنا، ابتداء من داخل بيوتنا، حيث تجد الأخ مع إخوانه وأخواته يتنافرون ولا يتآلفون، ولا يتفقون حتى في أبسط الأمور وأسهل المسائل؛ خلافات قائمة، ومشكلات متجددة، ونزاعات ثائرة، وألفة معدومة أو شبه معدومة، وكأننا لسنا بمسلمين يجمعنا الدين، ويؤلف بين قلوبنا نهج رب العالمين.
تجد بعض الأزواج مع زوجاتهم في صراعات ومشاكل على أمور تافهة، وربما تصل القضايا بينهم إلى المحاكم والقضاة والمحامين، وما ذاك إلا لأن الألفة انتزعت وذهبت.
نحن هنا في مجتمعنا غابت الألفة بيننا، فتجد بعضنا لا يعرف جيرانه، ويمر على إخوانه المسلمين في منطقته وحارته التي يعيش فيها فلا يكلف نفسه حتى مجرد السلام عليهم، وتحدث أحداث وقضايا تهم الجميع فتجده بعيداً كل البعد عنها، ولا يسأل عن شأنها، وما ذلك إلا لغياب الألفة.
أما إذا نظرنا إلى التآلف فيما بيننا نحن كعرب أو كمسلمين، فسترى العجب العجاب من التجافي والنفرة، وعدم النصرة، بل يعادي بعضنا بعضاً، وتكيد دولنا العربية بعضها لبعض، ولا تكاد تجد دولة عربية إلا وهي في شر وخلاف مع الدول العربية المجاورة لها، وفي وفاق ووئام مع الدول الغربية والأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين.
هذا حالنا -والله المستعان-، وكان المفترض أن يكون حالنا -نحن المسلمين- كحال السلف الأوائل، والصحابة الكرام السابقين، الذين وصفهم الله بأنهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم، لا العكس كما هو واقعنا، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29].
فأوصي نفسي وإياكم بالتآلف والتناصر، والتآزر والتلاحم، والبعد كل البعد عن العداوات، والخلافات، وأن نتجنب أسبابها ما استطعنا، يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أكْنَافُهُمْ، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ" ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بأبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأبعدِكُمْ مِنِّي؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ" [المعجم الصغير للطبراني (605)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب :56].
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.